د. يوسف القرضاوي

الأديب الكبير، والداعية المفكر، والمجاهد الصُّلْب، صاحب القلم السيَّال، والأسلوب الرفيع: سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي (1324 – 1386هـ = 1906 – 1966م).

إذا سألتني: من هو سيد قطب؟ أقول: حقًّا سيد قطب أحد عظماء الرجال في أمتنا، في تاريخنا الحديث والمعاصر، هو مسلم عظيم؛ إذا قِسْنا العَظَمة بمقياس الإنسانية، وهو أديب عظيم؛ إذا قِسْنا العظمة بمقياس الإبداع في الأدب والنقد الأدبي، وهو داعية عظيم؛ إذا قِسْنا العظمة بقوة التأثير في الدعوة والتوجيه، وهو عالم ومفكِّر عظيم، له أثره في العلم والفكر؛ إذا قسْنا العظمة بمقدار الاستقلال في الفكر وأصالة العلم، وهو أيضًا مسلم عظيم؛ إذا قسنا العظمة بالبذل والتضحية في سبيل الله.

وحسْبُنا أن الرجل قدَّم عنقَه ودمه فداءً للدعوة التي يؤمن بها، وأعتقد أنَّه كان مخلصًا في دعوته، أصاب فيها أم أخطأ فهو مخلص، وأعتقد أنه من الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163).

انضمام سيد للإخوان:

مما لفت نظر الشهيد سيد قطب للانضمام لجماعة الإخوان المسلمين ما حدث من أحداث في أمريكا، شهدها بعينه، ونبهته على شيء لم ينتبه له من قبل، وذلك حق فقد احتفلت أمريكا ورقصت طربًا لموت حسن البنّا، وكتبت الجرائد والمجلات عن موت عدو الغرب الأوَّل في الشرق الأوسط!!

والحادثة الثانية لقاؤه مع رجل المخابرات البريطاني "جون هيوورث دن" في بيته حيث حذَّر "دن" سيِّدًا من الإخوان المسلمين، ومن مغَبَّة إمساكهم بزمام الأمور في مصر، وقدَّم له معلومات دقيقة عن التنظيم، وأهاب به أن يقف وأمثاله من المثقفين المصريين في وجه الإخوان المسلمين!! عندها أدرك سيِّد صِدْقَ دعوة الإخوان، وكيد أعداء الأمة بهم، وفي بيت هذا الإنجليزي قرر سيّد قطب رحمه الله- في قرارة نفسه- الانضمام للإخوان المسلمين.. فأصبح واحدًا منهم، بل غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة "قسم نشر الدعوة" في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، كما كان سكرتير تحرير المجلة معه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد فتحي عثمان.

وقد اختار بملء إرادته الانضمام إلى دعوة الإخوان، ولا سيما بعد أن خاب ظنه في رجال الثورة، الذين علق عليهم في أول الأمر آمالًا وأحلامًا، فتبخرت وضاعت، كما تبخرت أحلام الشاعر العاشق الذي قال:
كأني من ليلى الغداة كقابض  **  على الماء خانته فروج الأصابع

لقاؤه بأبي حسن الندوي:

التقى الشيخ أبو الحسن في القاهرة بكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وسجل عنهم ملاحظاته الدقيقة في كتابه الذي أصدره بعد رجوعه "مذكرات سائح في الشرق العربي" كان ممن التقى به الشهيد سيد قطب، وأعجب به الشهيد، وكتب مقدمة أخرى لكتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" أنصف فيها الكتاب وصاحبه، وقدره حق قدره.

لقاءاتي مع سيد قطب:

بعد أن انضم الأستاذ سيد قطب إلى جماعة الإخوان غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة "قسم نشر الدعوة" في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية.

وفي هذه الفترة طلبني الأستاذ سيد قطب لألقاه، فذهبت إليه في المجلة، وقال لي: إنه كُلِّف رئاسة قسم نشر الدعوة، وهو يريد أن ينهض بالقسم على أسس منهجية سليمة، ويرجو من دعاة الإخوان أن يعاونوه على ذلك، فهو لا يستطيع أن يحقق ما يريد، إلا بتعاون الجميع معه، وخصوصًا شباب الدعاة المرجوِّين أمثالك.

قلت له: أنا معك في كل ما تصبو إليه إن شاء الله، ونحن جنودك في تحقيق آمالك الكبيرة المرجوَّة في نشر الدعوة بطريقة علمية.

قال: تعلم أن أحاديث الثلاثاء، أصبحت متروكة للمصادفات، في كل ثلاثاء يقدَّم أحد الإخوان الدعاة، ليلقي ما يخطر بباله بدون إعداد ولا تحضير، وإنما هو حديث مرتجل عفو الخاطر، ومثل هذا لا يليق بجماعة كبيرة عريقة مثل الإخوان؛ لهذا رأيت أن ننظم هذا الأمر، بحيث نكلف عددًا من دعاة الإخوان، كل واحد يأخذ شهرًا، يلقي فيه أربعة أحاديث في موضوع محدد يتفق معه عليه، ويحضر له المادة المطلوبة، ويلقيه على الإخوان، فيستفيدون علمًا وثقافة، لا مجرد عواطف ومشاعر، قلت له: نِعْمَ الرأي هذا.

قال: وعلى هذا الأساس أعرض عليك واحدًا من موضوعين، تختار أحدهما لتعده وتلقيه في الوقت المناسب، الموضوع الأول: مواقف من السيرة النبوية، والثاني: من أخلاق القرآن، فهل ترى هذين مناسبين؟

قلت: كلاهما ملائم، ولكني أختار الثاني، فربما عندي فيه ما يقال مما يفيد إن شاء الله.

قال: على بركة الله، فليكن ذلك في شهر نوفمبر تقريبًا، أي في أثناء السنة الدراسية إن شاء الله.

ولكن الأمور تغيَّرت بسرعة مذهلة، وحدث ما حدث، حتى إن شهر نوفمبر الموعود حينما جاء، كان قد ضمه وضمني وضم الإخوان معنا السجن الحربي، والعبد يفكر، والله يقدر، ولله في خلقه شئون.

كانت هذه المرة الثانية التي ألقى فيها الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجلس إليه منفردا به، أما المرة الأولى، فكنت أنا الذي طلبت لقاءه، فقد كنتُ مشغولًا بإصلاح الأزهر، لعلمي بأن الأزهر مؤسسة علمية دينية كبرى، ذات تأثير في مصر وفي العالم الإسلامي كله، بل في المسلمين خارج العالم الإسلامي حيثما كانوا، وأنه بإضاعة الأزهر يضيع خيرٌ كثير على الأمة، وبإصلاحه يصلح كثير من شأن الأمة، وقديمًا قالوا: يا أيها العلماء، يا ملح البلد  **  ما يُصلح المِلْحَ إذا الملحُ فسد؟

ذهبت إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وعرضت عليه ما عندي من أفكار لإصلاح الأزهر، والرقي بمناهجه، والنهوض بعلمائه ورجاله، وشرحت له ذلك في جلسة مطوَّلة، في دار الإخوان بالحلمية، وقد أثنى على جهدي وتوجهي الإصلاحي، وشجَّعني تشجيعًا سرَّني وشرح صدري، وأضاف إليّ بعض النصائح والتوجيهات المهمة من ثمرات قراءته، ومن تجاربه في الحياة.

وأذكر مما قاله لي، وأنا أحدثه عن الفلسفة الإسلامية: إنها في الحقيقة ليست فلسفة إسلامية، إنها في الواقع ظلال للفلسفة اليونانية، مترجمة إلى العربية، مضافًا إليها بعض إضافات لم تغير جوهرها، إننا في حاجة إلى فلسفة تعبر عن حقائق الإسلام الكبرى، وعن فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان، بصورة تبيِّن مزايا النظرة الإسلامية عن سائر النظرات والفلسفات الأخرى، سواء كانت نظرة الديانات السماوية الأخرى التي حُرِّفَت، أم الديانات الوثنية الأرضية، أم الفلسفات البشرية الوضعية.

ولم يُقَدَّر لي بعد هاتين الجلستين مع الشهيد، أن أسعد به مرة أخرى، فقد كنت في القاهرة صيف سنة 1964 حين أفرج عنه من سجنه بشفاعة الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وأردت أن أسلم عليه بعد خروجه من السجن، وذهبت مع أحد الإخوة الأزهريين العراقيين الذين كانوا يدرسون للدكتوراه في مصر، وهو الأخ الشيخ حسيب السامرائي، الذي تفضل بأخذنا في سيارته أنا والأخ الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وذهبنا إلى بيته في حلوان، ولكنا للأسف لم نجده، ولم تتح لنا زيارته مرة أخرى، إذ في السنة القادمة كانت محنة 1965، والتي جرى فيها ما جرى، والحمد لله على كل حال.

تنظيم 65:

أعلنت أجهزة عبد الناصر أنها اكتشفت "تنظيمًا سريًّا" خطيرًا جدًّا، يقوده "سيد قطب" ومعه مجموعة من الإخوان. هذا التنظيم المحدود العدد، المحدود الإمكانية -الذي يقوم في الأساس على التوعية والتثقيف والإعداد الفكري والنفسي- قد هوَّلت أجهزة عبد الناصر من أمره، وجعلت "من الحَبَّة قُبَّة"، و"من القِطِّ جملًا"، كما يقول المثل. وأعتقد أن هذه الأجهزة هوَّلت الأمر لعبد الناصر نفسه، وعرضت عليه الأمر عرضًا يضخِّم الواقع أضعاف ما هو عليه، فكأنما يراه بمجهر مكبِّر (ميكرسكوب)؛ وذلك لتستخرج منه القرار المشئوم بإشعال تنور الأذى والعذاب.

فقد حاولوا أن يضفوا المبالغات على هذا التنظيم المحدود، فقالوا: إنه كان يخطط "لنسف القناطر الخيرية"! وهل يفكر في ذلك عاقل؟ وماذا يستفيد من ذلك إلا الهلاك والخراب؟ وإذا كان يريد أن يحكم البلاد، فكيف يخرِّبها قبل أن يستولي عليها؟ وقالوا: إنهم يريدون اغتيال "أم كلثوم".. وهل يفكر في ذلك من له ذرَّة من عقل؟ وماذا ارتكبت أم كلثوم من جرائم تستحق عليها القتل؟ وهل يقتل عاقل إنسانة يحبها جماهير الشعب المصري- بل العربي كله- ويُعَرِّض نفسه لسخط عام دون حاجة لذلك؟!

وساعد الحكومة في ذلك ما تملك من أجهزة الإعلام- ومن المعروف أن الصحف كلها في مصر قد "أُمِّمَت" وأصبحت ملك الدولة- المقروءة والمسموعة والمرئية، فهي الناطقة باسمها، والمدافعة عنها، والمهاجمة لخصومها، ما تستطيع به أن تغير الرأي العام إلى صفها. ولا سيما أن الخصم لا يملك أية وسيلة إعلامية يستطيع بها أن يدافع عن نفسه، ولو بأدنى دفاع.

وقد بدأت هذه الجولة بالقبض على الأستاذ محمد قطب يوم 30 يوليو سنة 1965، ثم القبض على الأستاذ سيد قطب في 9 أغسطس التالي، وانطلقت بعد ذلك جحافل عبد الناصر تلقي القبض على آلاف الإخوان، وافتخر عبد الناصر فيما بعد بأنه قبض على ثلاثين ألفًا في نصف ساعة!

تنبيه على أمرين مهمين:

وأود أن أوضح هنا أمرين: أحدهما: أن جماعة الإخوان التي يرأسها الأستاذ الهضيبي وقتها، لم تؤسِّس هذا التنظيم، وليست هي المسئولة عنه، وإنما يُسأل عنه العدد المحدود الذين دعوا إليه ونظَّموه. ومن الظلم أن تحمَّل جماعة كبيرة كالإخوان وزر فئة محدودة منها، لم تلتزم بخطها، ولم تأخذ إذنًا من مرشدها العام. كما أن جماعة الإخوان غير موجودة قانونًا، ومحلولة رسميًّا، فلا يجوز أن يُنسَب إليها أي عمل، والأفراد ينبغي أن يحملوا جزاءَ ما عملوا بصفتهم الفردية.

والثاني: أن هذه الأشياء التي ذكروها في اتهام هذا التنظيم- إن افترضنا صحتها- لم يُنفَّذ منها شيء على أرض الواقع، وقد قيل: إن بعضهم كتبها على ورقة، باعتبارها أشياء يفكر فيها، أو مقترحات قد يعرضها على غيره، أو نحو ذلك. والإنسان إنما يُسأل- شرعًا وقانونًا- عما يعمله بالفعل، أو يشرع في عمله، ويأخذ في ذلك خطوات للتنفيذ. أما أحاديث النفس وخواطرها، وما يدور بتفكيرها، فلا يحاسب عليها الدين، ولا يحاسب عليها القانون، وفي الحديث الصحيح: "إن الله عفا عن أمتي ما حدثت بها أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم".

علام حوكم سيد قطب؟

الحقيقة أن سيد قطب وتنظيمه لم يحاكما من أجل "الأعمال الخطيرة" التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل "الأفكار الخطيرة" التي اعتنقها، أو دعا الناس إليها، ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة لقالوا: إننا حاكمنا الرجل- بل حكمنا عليه بالإعدام- من أجل أفكاره، لا من أجل أعماله. والعجيب أن الذي كان يحاكم أفكار سيد قطب ضابط محدود الثقافة، قليل البضاعة من العلم والفكر، وإن كان لواء في الجيش، فإن كان لا بد من محاكمة فكر سيد قطب، فلتكوَّن له لجنة من كبار العلماء والمفكرين، تناقشه فيما ذهب إليه.

لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب "معالم في الطريق"؛ فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده، وإن كان أصله مأخوذًا من تفسيره "في ظلال القرآن" في طبعته الثانية، وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى.

كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى التي نشرتها "مكتبة وهبة"، ولكن بعد أن حُكم بإعدام سيد قطب، وبعد أن كتبت له الشهادة أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف. وصدق ما قاله عليه رحمة الله: "ستظل كلماتنا عرائس من الشمع، لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها؛ دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة!". فهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب، بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها!

الحكم بالإعدام:

حوكم سيد قطب أمام "محكمة عسكرية"، تتكون من ضباط كبار، وإن من العجب- حقًّا- أن يحاكِمَ رجل عسكري- مهما تكن خبرته ومعرفته- رجلًا في حجم سيد قطب الأديب الشاعر الناقد العالم الداعية المفكِّر!!

وفي نهاية المحاكمة التي راقبها الكثيرون في كل مكان، فوجئ الناس بالحكم على ثلاثة من المتهمين بالإعدام: سيد قطب، ومحمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، وعلى آخرين بأحكام متفاوتة.

إن دمَ سيد قطب ورفيقيه سيظل لعنة على من سفكوه بغير حق، وسيظل يطاردهم، حتى يثأر له القدر من الطغاة الظالمين، ويستجيب لدعاء المظلومين الذي يرفعه الله فوق الغمام، ويفتح له أبوب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين.

مشاركتي في مظاهرة عمان للتنديد بإعدام سيد قطب:

بعد تنفيذ حكم الإعدام، الذي صدر من المحكمة العسكرية في مصر، وضرب جمال عبد الناصر عُرْض الحائط بكل النداءات والتوسلات التي وصلت إليه من بلاد العرب والمسلمين.

وكان لهذا الحدث صداه الواسع في أنحاء العالم، وخصوصًا بين العاملين في الساحة الإسلامية، والمهتمين بالشأن الإسلامي، وعلى الأخص بين الإخوان في الخارج الذين زلزلهم هذا الحدث زلزالًا شديدًا. وقرر الإخوة في "عمَّان" تنظيم مسيرة احتجاج كبرى في يوم معين، وحرصت أن أشارك بنفسي في هذه المسيرة، فسافرت من الخليل- التي كنت مقيمًا فيها في ذلك الصيف- إلى عمَّان، لألتقي الإخوان هناك، وأساهم مع الإخوة في رفع الشعارات التي تندد بالظلم والطغيان، وتنادي بالويل للطغاة والجبارين، وبالثأر للشهيد المظلوم. وبعد المشاركة في المسيرة، عدت إلى الخليل؛ لأتهيأ لخطبة الجمعة القادمة، وأذكر أنها كانت في مسجد الخليل إبراهيم.

وقفه مع الشهيد سيد قطب:

لا يشك دارس منصف، ولا راصد عدل، في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرَّد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له. ولا شك، في إخلاص سيد قطب لفكرته التي آمن بها، ولا يشك في حماسه لها، وفنائه فيها، وأنه وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصة من أجلها.

ولا ريب أنه قضى سنوات عمره الأخيرة، وهو في السجن يجلي الفكرة، ويشرحها بقلمه المبدع، وبيانه العذب، وأسلوبه الأخَّاذ. كما لا ريب أن كتبه تعطي قارئها شحنة روحية وعاطفية دافقة ودافئة ودافعة، توقظه من رقود، وتحركه من سكون؛ لما فيها من حرارة وإخلاص.

وهذه الفكرة هي التي انتهى إليها تطوره الفكري والعلمي، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، في مجال الأدب والنقد، وفي مجال الدعوة والفكر. ولا بد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها، حتى يعرف حقيقة موقفه الذي انتهى إليه، سيد قطب مرَّ في حياته بمراحل:

أولًا: مرحلة الأدب والنقد:

أول ما ظهر سيد قطب ظهر أديبًا شاعرًا، ثم ناقدًا أدبيًّا.

كان شاعرًا رقيقًا مرهفَ الحس، دافقَ العاطفة، يحسبُه الناقدون على "الاتجاه الرومانسي" في الشعر، وعده د. محمد مندور في جماعة "أبولُّو" ذات الاتجاهات الرومانسية المعروفة.

ومن المعروف أنه كان في أدبه النثري محسوبًا على "مدرسة العقاد"، وكان العقاد يمثل "المدرسة الليبرالية" والفكر الحر، ولم يكن قد ظهر توجُّهُه الإسلامي الذي اتضح في كتاباته الأخيرة. وكان الذي يمثل "المدرسة الإسلامية" في الأدب هو مصطفى صادق الرافعي. وكان بين الاتجاهين أو المدرستين صراع دامٍ؛ سلاحه القلم، وميدانه المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة وغيرهما، والكتب الأدبية، وقد هاجم الرافعي العقاد في مقالات نشرت بعد ذلك في كتاب سماه "على السفُّود". لم يكن سيد قطب في هذه المرحلة قد عُرِفَ بتوجه إسلامي واضح، رغم أنه خريج "دار العلوم" وقد عاصر حسن البنا، وإن لم يتعرف عليه وعلى دعوته إلا بعد استشهاده.

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه "الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ" واقعة عن سيد قطب في هذه المرحلة، ما زلت في تردد من أمرها، وهي: أنه كتب مقالة في الأهرام تدافع عن "العرْي" وأنه من الحرية الشخصية للإنسان، على غرار ما يكتبه دعاة الإباحية، وهذا نفس غريب على مسيرة سيد قطب، فلم يكن الرجل- على ما أعلم- في أي فترة من حياته من دعاة التحلل. وأرجو من إخواننا من شباب الباحثين أن يحققوا ويبحثوا في حقيقة هذه الواقعة وماذا وراءها.

 وقد توَّج هذه المرحلة من مراحل مسيرته عملان كبيران من الأعمال الأدبية الأصيلة، التي لم يقلد سيد قطب فيها أحدًا، بل كان فيها نسيجَ وحدِه. أولهما: كتابه عن "أصول النقد الأدبي" وهو- باعتراف مؤرخي الأدب العربي- عمل متميز، وإن لم يأخذ حقه من الظهور، ربما كان سبب ذلك، هو تحول صاحبه إلى الدعوة الإسلامية، وأنه أمسى محسوبًا على عالم الدعاة، لا على عالم الأدباء والنقاد.

وثانيهما: عمله الأصيل المتميز في خدمة القرآن، وإعجازه البياني، بمنهج لم يسبق له نظير، وهذا العمل يتمثل في كتابيه الرائعين:

أ- التصوير الفني في القرآن.

ب- مشاهد القيامة في القرآن.

والكتاب الأول يجسد النظرية، والثاني بمثابة التطبيق لها.

وهذان الكتابان يمثلان تمهيدًا أو همزة وصل للمرحلة القادمة؛ مرحلة الدعوة إلى الإسلام.

ثانيًا: مرحلة الدعوة الإسلامية:

والمرحلة الثانية في حياة سيد قطب هي مرحلة الدعوة إلى الإسلام؛ بوصفه عقيدة ونظامًا للحياة يقيم العدالة الاجتماعية في الأرض، ويرفع التظالم بين الناس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين، بوسيلتين أساسيتين، هما: التشريع القانوني، والتوجيه الأخلاقي.

وكان هذا التطور له مقدمات وعلامات، منها: اهتمامه بقضية المظالم الاجتماعية في مصر، وسيطرة الإقطاع المتجبِّر في الأرياف، والرأسمالية الاحتكارية المستغلة في المدن على الاقتصاد المصري، وضياع الفلاحين والعمال- وهم جل المصريين- بين تجبُّر أولئك وتسلُّط هؤلاء.

وقد بدا هذا التوجه واضحًا في مشاركته في مجلة "الفكر الجديد" التي كانت تُعْنَى بهذا الجانب الاجتماعي، والتي لم تدم طويلًا، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثالث من هذه المسيرة، كتابنا "ابن القرية والكتاب.. ملامح سيرة ومسيرة"، ولعل كتابيه السالفين في خدمة البيان القرآني قد مهدا له الطريق؛ ليطل على "المضامين" الإصلاحية العظيمة التي اشتمل عليها القرآن، وإن كانت دراسته أساسًا تهتم بالشكل والأسلوب.

ظهر أول كتاب له في هذه المرحلة، وهو: كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي عرض الموضوع بطريقة منهجية، بيَّن فيه أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام، وإن كان الشيخ الغزالي رحمه الله له فضل السبق بتناول هذه الموضوعات في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة "الإخوان المسلمون"، ثم جمعها في كتبه: "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، و"الإسلام والمناهج الاشتراكية"، و"الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين"، ولكن هذه الكتب لم تكتب بالطريقة المنهجية التي كتب بها سيد قطب؛ لأنها في الأصل مقالات، تجلي جوانب مهمة في هذا الجانب الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام.

ولا شك أن الشهيد سيد قطب قد استفاد من كتب الغزالي، وإن لم ينقل منها بالحرف، وإنما اقتبس كثيرًا من الأفكار. ولهذا جعل من مصادره في الطبعة الأولى للكتاب: "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" و"الإسلام والمناهج الاشتراكية". ثم حُذفا بعد ذلك مع قائمة المصادر كلها.

استقبلت الأوساطُ الإسلامية كتاب "العدالة" بالحفاوة والترحيب؛ باعتباره أول مولود لسيد قطب في عهده الجديد، واستبشروا بأن التيار الإسلامي قد كسب كاتبًا له وزنه الأدبي، وقلمه البليغ؛ فهو يعتبر إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار.

وغمرت الإخوانَ خاصَّةً فرحةٌ بهذا القلم الجديد، الذي انضم إلى القافلة الإسلامية، وكأنه كان مكافأة لهم بعد خروجهم من معتقلات الطور و"هايكستب"، وسقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي قاتلة حسن البنا، وصاحب التاريخ الأسود!

ولم يكتفِ سيد قطب بهذا الكتاب بل أتبعه بكتب أخرى: "معركة الإسلام والرأسمالية" و"السلام العالمي والإسلام"، ومقالات عدة كتبها في مجلة "الدعوة" التي يصدرها الإخوان، ومجلة "الاشتراكية" التي يصدرها حزب العمل، ومجلة "اللواء" التي يصدرها الحزب الوطني، ولكن هذه المقالات كانت كلها "تحت راية الإسلام"؛ وهي التي جُمِعَتْ بعد ذلك تحت عنوان "دراسات إسلامية".

وفي هذه الفترة بدأ يكتب تفسيره الشهير الذي لم يسمِّه تفسيرًا، ولكنه رضي أن يسميه "في ظلال القرآن" وصدق في تسميته، فلم يكن في طبعته الأولى يحمل الطابع الرسمي للتفسير، ولكنها وقفات عقل متدبر، وقلب حي، ووجدان مرهف أمام القرآن، يلتمس عظاته، ويجلي إعجازه، ويبين حقائقه، وينبِّه على مقاصده، وإن تغيَّر ذلك في الأجزاء الأخيرة، وفي الطبعة الثانية للأجزاء الأولى، فقد بدأ يهتم بالجانب التفسيري، حتى أحسب أنه أفرغ خلاصة تفسير ابن كثير في "ظلاله".

وفي هذه الفترة بدأ سيد قطب يقترب من الإخوان، ويرى بعينيه نشاطهم والتزامهم، وما بينهم من رباط وثيق، وإخاء عميق، وما يتميز به كثير منهم من وعي دقيق، وشعور رقيق، وكان المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي يصطحبه معه في رحلاته، ليرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويحكم بعد ذلك بعقله، ويختار لنفسه.

ثالثًا: مرحلة الثورة الإسلامية:

وهذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب، يمكن أن نسميها "مرحلة الثورة الإسلامية"، الثورة على كل "الحكومات الإسلامية"، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل "المجتمعات الإسلامية" أو التي تدعي أنها إسلامية.

سيد قطب والتكفير:

الحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية، تكوَّن هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم "أسقطوا حاكمية الله تعالى" ورضوا بغيره حكمًا، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج مجتمعات الإسلام..

فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام؟! بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن "لا إله إلا الله" منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة.

أقول: تكوَّن هذا الفكر الثوري الرافض، داخل السجن، وخصوصا بعد أن أعلنت مصر وزعيمها عبد الناصر، عن ضرورة التحول الاشتراكي، وحتمية الحل الاشتراكي، وصدر "الميثاق"الذي سماه بعضهم "قرآن الثورة"! وبعد الاقتراب المصري السوفييتي، ومصالحة الشيوعيين، ووثوبهم على أجهزة الإعلام والثقافة والأدب والفكر، ومحاولتهم تغيير وجه مصر الإسلامي التاريخي؛ هنالك رأى سيد قطب أن الكفر قد كشف اللِّثَام عن نفسه، وأنه لم يعد في حاجة إلى أن يتخفى بأغطية وشعارات لإسكات الجماهير، وتضليل العوام.

هنالك رأى أن يخوض المعركة وحده، راكبًا أو راجلًا، حاملًا سيفه "ولا سيف له غير القلم" لقتال خصومه، وما أكثرهم! سيقاتل الملاحدة الجاحدين، ويقاتل المشركين الوثنيين، ويقاتل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويقاتل المسلمين أيضًا، الذين اغتالتهم الجاهلية، فعاشوا مسلمين بلا إسلام!

وأنا برغم إعجابي بذكاء سيد قطب ونبوغه وتفوقه، وبرغم حبي وتقديري الكبيرين له، وبرغم إيماني بإخلاصه وتجرده فيما وصل إليه من فكر، نتيجة اجتهاد وإعمال فكر؛ أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة، التي خالف فيها سيد قطب الجديد سيد قطب القديم، وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض سيد قطب الداعية المسالم، أو سيد قطب صاحب "العدالة" سيد قطب صاحب "المعالم".

ولقد ناقشت المفكر الشهيد في بعض كتبي في بعض أفكاره الأساسية، وإن لامني بعض الإخوة على ذلك، ولكني في الواقع، كتبت ما كتبتُ، وناقشتُ ما ناقشت، من باب النصيحة في الدين، والإعذار إلى الله، وبيان ما أعتقد أنه الحق، وإلا كنت ممن كتم العلم، أو جامل في الحق، أو داهن في الدين، أو آثر رضا الأشخاص على رضا الله تبارك وتعالى.

ونحن نؤمن بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وأن ليس في العلم كبير، وأن خطأ العالم لا ينقص من قدره، إذا توفَّرت النية الصالحة، والاجتهاد من أهله، وأن المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرًا واحدًا، كما في الحديث الشريف، سواء أكان خطؤه في المسائل العلمية أم العملية، الأصولية أم الفروعية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما.

وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة "التكفير" والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من "الظلال" ومما أفرغه في كتابه "معالم في الطريق" أن المجتمعات كلها قد أصبحت "جاهلية". وهو لا يقصد بـ"الجاهلية" جاهلية العمل والسلوك فقط، بل "جاهلية العقيدة"، إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترضَ بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا، ليس الناس في حاجة إلى أن نعرض عليهم نظام الإسلام الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو القانوني، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأنظمة إنما ينتفع بها المؤمنون بها، وبأنها من عند الله. أما من لا يؤمن بها، فيجب أن نعرض عليه "العقيدة أولًا" حتى يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وبالشريعة حاكمة. وهذا ما أشار إليه في كتابه "المعالم"، وفصَّله في كتاب "الإسلام ومشكلات الحضارة". وشبه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد الرسالة، وأن الرسول لم يعرض عليه النظام والتشريع، بل عرض عليه العقيدة والتوحيد.

سيد قطب والفقه:

كما رأى عليه رحمة الله أن لا معنى لما يحاوله المحاولون من علماء العصر لما سموه "تطوير" الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو "إحياء الاجتهاد" فيه؛ إذ لا فائدة من ذلك كله ما دام المجتمع المسلم غائبًا، يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولًا، ثم نجتهد له في حل مشكلاته في ضوء واقعنا الإسلامي.

وقد ناقشت أفكاره عن "الاجتهاد" وعدم حاجتنا إليه قبل أن يقوم المجتمع الإسلامي، في كتابي "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية"، وبينت بالأدلة خطأ فكرته هذه، وكما ناقشت الشهيد سيد قطب في رأيه حول قضية "الاجتهاد" ناقشته في رأيه في "الجهاد"، وقد تبنى أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي، مخالفًا اتجاه كبار الفقهاء والدعاة المعاصرين، داعيا إلى أن على المسلمين أن يُعِدُّوا أنفسهم لقتال العالم كله، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!

وحجته في ذلك آيات سورة التوبة، وما سماه بعضهم "آية السيف"، ولم يبالِ بمخالفة آيات كثيرة تدعو إلى السلم، وقصر القتال على من يقاتلنا، وكف أيدينا عمن اعتزلنا ولم يقاتلنا، ومد يده لمسالمتنا، ودعوتنا إلى البر والقسط مع المخالفين لنا إذا سالمونا، فلم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا على إخراجنا.

هذا ما تدل عليه الآيات الكثيرة من كتاب الله مثل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (البقرة:190-191)، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (النساء: 90).

{فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} (النساء: 91)، {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} (الأنفال:61)، {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8).

والأستاذ سيد رحمه الله يتخلص من هذه الآيات وأمثالها بكلمة في غاية السهولة: أن هذه كان معمولًا بها في مرحلة، ثم توقف العمل بها، والعبرة بالموقف الأخير، وهو ما يعبر عنه الأقدمون بالنسخ، وقولهم في هذه الآيات: نسختها آية السيف، ولا أدري كيف هان على سيد قطب- وهو رجل القرآن الذي عاش في ظلاله سنين عددا يتأمله ويتدبره ويفسره- أن يعطل هذه الآيات الكريمة كلها، وأكثر منها في القرآن، بآية زعموها آية السيف؟ وما معنى بقائها في القرآن إذا بقي لفظها وألغي معناها، وبطل مفعولها وحكمها؟!

ويقول الشهيد رحمه الله: إننا لا نفرض على الناس عقيدتنا، إذ لا إكراه في الدين، وإنما نفرض عليهم نظامنا وشريعتنا، ليعيشوا في ظله، وينعموا بعدله. ولكن بماذا نجيب الناس إذا قالوا لنا: إننا أحرار في اختيار النظام الذي نرضاه لأنفسنا، فلماذا تفرضون علينا نظامكم بالقوة؟ إن كل شيء يجرعه الإنسان تجريعًا رغم أنفه يكرهه وينفر منه، ولو كان هو السكر المذاب، أو العسل المصفَّى! وما الحكم إذا كنا نحن- اليهود أو النصارى أو الوثنيين- أصحاب القوة والمنعة، وأنتم الضعفاء في العدة أو الأقلون في العدد؟ هل تقبلون أن نفرض عليكم نظامنا ومنهج حياتنا؟ كما هو شأن أمريكا اليوم، وتطلعاتها للهيمنة على العالم؟

ومما ننكره على الأستاذ سيد رحمه الله أنه يتهم معارضيه من علماء العصر بأمرين:

الأول: السذاجة والغفلة والبله، ونحو ذلك مما يتصل بالقصور في الجانب العقلي والمعرفي.

والثاني: الوهن والضعف النفسي، والهزيمة النفسية أمام ضغط الواقع الغربي المعاصر، وتأثير الاستشراق الماكر مما يتعلق بالجانب النفسي والخلقي.

والذين يتهمهم بذلك هم أعلام الأمة في العلم والفقه والدعوة والفكر، ابتداء من الشيخ محمد عبده، مرورًا بالشيخ رشيد رضا، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والمشايخ: محمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، وعلي الخفيف، ومحمد أبو زهرة، ومحمد يوسف موسى، ومحمد المدني، ومحمد مصطفى شلبي، ومحمد البهي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي، ومصطفى الزرقا، ومحمد المبارك، وعلي الطنطاوي، ومعروف الدواليبي، والبهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعلال الفاسي، وعبد الله بن زيد المحمود، ومحمد فتحي عثمان، وغيرهم من شيوخ العلم الديني.

هذا فضلًا عن الكُتَّاب والمفكرين "المدنيين" الذين لا يحسبون على العلوم الشرعية، من أمثال: د. محمد حسين هيكل، وعباس العقاد، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، ومحمود شيت خطاب، وعبد الرحمن عزَّام، وجمال الدين محفوظ، ومحمد فرج (في كتابه الصغير: بدر والفتح قمة المعارك الإسلامية. وكتابه: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول).. وغيرهم وغيرهم في بلاد العرب والمسلمين.

على أية حال كانت هذه هي الأفكار المحورية في هذه المرحلة من حياة سيد قطب، وفيها عدل من أفكاره واتجاهه تعديلًا جذريًّا، وأصبح ما كتبه قديمًا في "العدالة الاجتماعية" وغيرها، يمثل مرحلة من حياته، ولا يمثل الخط الأخير الذي يتبناه ويدعو إليه، ويدافع عنه.

وقد حدثني الأخ د. محمد المهدي البدري أن أحد الإخوة المقربين من سيد قطب- وكان معه معتقلًا في محنة 1965م- أخبره أن الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله، قال له: إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: "المعالم"، والأجزاء الأخيرة من "الظلال"، والطبعة الثانية من الأجزاء الأولى، و"خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة".. ونحوها مما صدر له وهو في السجن، أما كتبه القديمة فهو لا يتبناها، فهي تمثل تاريخًا لا أكثر.

فقال له هذا الأخ من تلاميذه: إذن أنت كالشافعي لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسك به هو الجديد لا القديم من مذهبك. قال سيد رحمه الله: نعم، غيَّرت كما غير الشافعي رضي الله عنه، ولكن الشافعي غير في الفروع، وأنا غيَّرتُ في الأصول! فالرجل يعرف مدى التغيير الذي حدث في فكره، فهو تغيير أصولي، أو "إستراتيجي" كما يقولون اليوم.

وهو على كل حال مخلص في توجهه، مأجور في اجتهاده، أصاب أم أخطأ، ما دام الإسلام مرجعه، والإسلام منطلقه، والإسلام هدفه، وأشهد أن الرجل في المرحلة الأخيرة من حياته، كان كله للإسلام، عاش للإسلام، ومات في سبيل الإسلام! فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه، وغفر له ما نحسب أنه أخطأ فيه، وأجره عليه أجر المجتهدين الصادقين. وغفر لنا معه أجمعين.

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10).  

.....

- المصدر: "في وداع الأعلام" لسماحة الشيخ.