د. يوسف القرضاوي

(4) الخوف والتخويف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) :

ومن العقبات التي تقف في طريق التفاهم والحوار بين الإسلام والمسيحية في الغرب خاصة : ظاهرة ما سموه (الإسلاموفوبيا) ، أي : الخوف والتخويف من الإسلام .

وهي ظاهرة - للأسف الشديد – تجد من ينفِّقها ويروِّج بضاعتها في سوق الإعلام الغربي ، وهي سوق يحتكرها الصهاينة وأشياعهم والمتأثرون بهم، إلى حد بعيد.

وقد أطلقوا على الإسلام من قبل : اسم (الخطر الأخضر) كما أطلقوا على الخطر الصيني اسم (الخطر الأصفر) ، وهم قد انتهى خوفهم من (الخطر الأحمر) الخطر الشيوعي ، الذي انتهى بسقوط الاتحاد السوفيتي ، وانهياره فجأة على رؤوس أصحابه ، وإن كان المسلمون قد أسهموا في سقوطه إسهاما لا ينكره أحد ، وذلك بحرب أفغانستان التي كبدت السوفبات من الخسائر المادية والبشرية والمعنوية ما لا يجهله أحد .

بعد أن تخلص الغرب من (الخطر الأحمر) وتقارب مع (الخطر الأصفر) لم يبق أمامه إلا (الخطر الأخضر) ، خطر الإسلام الذي بدأ يتجلى بقوة ووضوح ، في صورة (صحوة معاصرة) تظهر أول ما تظهر في الشباب المثقف ، والشابات المثقفات ، في الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية ، وهي صحوة شاملة: صحوة عقول وأفكار ، وصحوة إرادات وعزائم ، وصحوة التزام وسلوك ، وصحوة غيرة ودعوة ، وصحوة تغيير وجهاد ، نقلت الشباب من الميوعة إلى الاستقامة ، ونقلت المرأة من التبرج إلى الحجاب .

اعتبر الغرب – ولا سيما أمريكا – الإسلام هو العد الجديد ، الذي يركزون عليه ، ويعبئون الأمة ضده ، فلابد لأي قوة متحفزة أن يكون لها عدو أو تخترع لها عدوا ، تحشد الأمة قواها من أجله . فقد كانوا من قبل يتخذون عدوهم من الشيوعية وممثلها الاتحاد السوفيتي الذي سماه ريجان (دولة الشر) وبعد سقوط دولة الشر لابد من عدو آخر فرشحوا الإسلام بدلا عن دولة الشر الشيوعية ووجهوا إعلامهم وتثقيفهم لإبراز هذا العدو والتحذير منه . وإن كان بعض مفكريهم وباحثيهم المنصفين ينكر هذه النزعة التي تقوم على الغلو والتضخيم والتهويل . ومنهم الأستاذ الأمريكي المعروف اسبوزيتو في جامعة (جورج تاون) في واشنطن ، الذي ألف كتابا عنوانه (الخطر الإسلامي : حقيقة أم أسطورة؟) وقد دلل في كتابه على أنه أسطورة خلقها الوهم والتهويل .

الخوف من الإسلام داء قديم لدى الغرب:

وهذا الخوف من الإسلام عند الغربيين قديم ، اعترف به باحثوهم وسياسيوهم ومفكريهم ودينيوهم على السواء .

وقد أوردت في كتابي (أعداء الحل الإسلامي) عددا من أعداء الإسلام وخصوم عودته لقيادة الحياة الإسلامية في مقدمتهم : الغرب الاستعماري ، أو الاستعمار الغربي بأشكاله المختلفة ، وذكرت من أهم العوامل التي دفعت الاستعمار أو الغرب لمعاداة الإسلام وأهله ودعاته : عامل الخوف من الإسلام ، ودللت على ذلك من كلام الغربيين أنفسهم ، وأوثر أن أنقل جل هذه الفقرة المهمة هنا – على طولها – هنا لقوة دلالتها مع بعض التصرف والتعليق .

يقول المستشرق المعروف (جِب) يخوف من انتفاضة الإسلام : الإسلام ليس مجرد مجموعة من القوانين الدينية، ولكنه حضارة كاملة .

وخطورة هذه الحضارة : أنها حضارة واحدة تضم أمة الإسلام الكبرى ، في مشارق الأرض ومغاربها ، على اختلاف المكان واختلاف الزمان ، فلم تستطع العوامل الإقليمية المختلفة أن تؤثر فيها ، أو تنال منها على تعاقب الأزمان ، وتباين الأصقاع ، مما جعل العالم الإسلامي كتلة سياسية خطيرة ، ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يحيط بأوربا إحاطة محكمة تعزلها عن العالم [1].

لقد عرف الغرب أن الإسلام (عقيدة انقلابية) أو (ثورية) شاملة تفرض نفسها على حياة الإنسان من ساعة يولد إلى أن يوضع في القبر ، ولا تقبل الخضوع لأي أيدلوجية أخرى ، غربية أو شرقية ، دينية أو مدنية .

ومن خصائص هذه العقيدة : أنها تربي أتباعها على الاعتزاز بها ، ورفض التبعية لغيرها ، كما تربيهم على معاني القوة والجهاد في سبيل الله، الذي يعده المسلمون فريضة مقدسة من أعظم الفرائض ، وعبادة من أفضل العبادات .

كما عرف الغرب أن الوحدة بين شعوب المسلمين - مهما تختلف أوطانهم وألوانهم ولغاتهم – فريضة إسلامية يأثمون إذا فرطوا فيها ، وجذور هذه الوحدة قائمة في الأخوة الإسلامية العميقة ، التي تربط بين المسلمين في مختلف أقطارهم ، وتوحد مشاعرهم وعواطفهم ، وتذوب في حرارتها كل الحدود والفوارق التي تفصل بين الناس .

هانوتو يحذر من القوة الكامنة في الإسلام:

ومن أبرز الأمثلة على تخوف الغرب من قوة الإسلام الكامنة، ومن وحدة أمته الكبرى: مقال قديم – أشرنا إليه من قبل – كتبه المستشرق الفرنسي هانوتو مستشار وزارة الاستعمار الفرنسية ، ونشرت ترجمته صحيفة المؤيد في القاهرة سنة 1900م ، كان له ضجة كبيرة في حينه ، ورد عليه الشيخ الإمام محمد عبده ردا مشهورا .

تحدث هانوتو في مقاله : كيف اخترق المسلمون – أبناء آسيا – شمال القارة الإفريقية بسرعة لا تجارى ، كما تحدث عن تاريخ النزاع بين الإسلام والمسيحية وتحقق الظفر للأخيرة في القرن التاسع عشر ، وقال : ولكن لا يزال الهلال ينتهي طرفاه من جهة بمدينة القسطنطينية (استانبول) ومن جهة أخرى بمدينة (فاس) في المغرب الأقصى ، معانقا بذلك المغرب كله... إذن فقد صارت فرنسا بكل مكان في صلة مع الإسلام ، بل صارت في صدر الإسلام وكبده .

ثم قال : ليس الإسلام في داخلنا فحسب ، بل هو خارج عنا أيضا ، قريب منا : في مراكش (يعني المغرب) ، في طرابلس الغرب (يعني ليبيا) في مصر ، في آسياحيث لا يزال قائما في بيت المقدس، ناشرا أعلامه على مهد الإنسانية مقر المسيح ، وقد انبعث منه شعبة في بلاد الصين ، فانتشر فيها انتشارا هائلا ، حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا من المسلمين الموحدين في الصين ، لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون[2] ، فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء لبوذا !

وليس هذا بالأمر الغريب ، فإنه لا يوجد مكان على ظهر الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده منتشرا في الآفاق ، فهو الدين الوحيد الذي دخل فيه الناس زمرا وأفواجا ، وهو الدين الذي تفوق الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه .

ثم إن هذا الدين قائم الدعائم ، ثابت الأركان في أوربة عينها ، أعني في الآستانة الطبية ، حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصاله من هذا الركن المنيع الذي يحكم منه على البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية بعضها عن بعض شطرين[3].

قوة الرابطة الإسلامية:

إلى أن يقول وخلاصة القول: إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة. بها يديرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي تتحرك بحركته ، وتسكن بسكونه، ومتى اقتربوا من الكعبة البيت الحرام، ومن زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس، من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة، من الركن الذي يقولون عنه إنه (سُرَّة العالم) ، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام اشتعلت جذوة الحب الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفا ، وتقدمهم الإمام مستفتحا العبادة بقوله: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" [الفاتحة :1] فيعم السكوت والسكون وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف[4]. ويملأ الخشوع قلوبهم ثم يقولون بصوت واحد: (الله أكبر) ، ثم تعنوا جباههم بعد ذلك قائلين (الله أكبر) بصوت خاشع يمثل معنى العبادة.

ثم يقول : لا تظنوا أن هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعه جامعة فكر واحد، غريب عن إسلامنا (في تونس والجزائر) ولا علاقة له به؛ لأنه وإن كانت البلاد (الإسلامية) التي تحتلها شعوب مسيحية ليست في الحقيقة (دار إسلام) وإنما هي (دار حرب)، فإنها لا تزال عزيزة موقرة في قلب كل مسلم صحيح الإيمان! والغضب ما زال يحوم حول قلوبهم كما تحوم الأُسد حول قفص حبس فيه صغارها، وربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليهم من بينها.

ثم ينتهي إلى نتيجة : يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح وطى أفكار المقهورين الذي أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم تثبط هممهم. نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يدبرون هذه المقاومة. ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرياسة[5].

إن هذا المقال بأسلوبه المباشر المعبر ، وعباراته الصريحة البليغة ، ليبين لنا كيف ينظر رجال الغرب إلى الإسلام : وكيف تزعجهم الروابط الوثيقة،  التي تميز بها الإسلام ، في عقيدته وشريعته ، والتي يلمسون آثارها ومظاهرها بين المسلمين .

وما قاله الرجل في نهاية القرن الثامن عشر (1900م) لا يزال يعبر عن نفسية الإنسان الغربي اليوم ، ولا يزال التخوف والتخويف من الإسلام على أشده ، بل يزداد في هذه السنين امتدادا وقوة .

رجال الدين يؤكدون الخوف من الإسلام :

وتقول مجلة (العالم الإسلامي) الإنجليزية – الناطقة باسم المنصرين – على لسان كاتب اسمه (أشعيا يومان) :

(إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي ، ولهذا الخوف أسباب ، منها : أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عدديا, بل دائما في ازدياد واتساع. ثم إن الإسلام ليس دينا فحسب, بل من أركانه: الجهاد, ولم يتفق قط أن شعبا دخل في الإسلام ثم عاد نصرانيا) .

ويقول القس (كالهون سيحون) : ( إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر ، وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية ، ولذلك كان التبشير يعمل على إظهار الأوربيين في نور جديد جذاب ، وعلى سلب الحركة الإسلامية ، من عنصري القوة والتمركز فيها ).

ويقول (لورانس براون) في كتابه (الإسلام والإرساليات) : ( إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا ، أو أمكن أن يصبحوا أيضا نعمة له، أما إذا بقوا مفترقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير).

وقد قال في آخر كتاب أصدره سنة 1944م : ( الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي).

وهذه العبارات الواضحة الصريحة في غنى عن التعليق عليها .

إنها تجسد مخاوف الغرب النصراني من الشرق الإسلامي ، ومخاوفه تتمثل في احتمال انطلاق المارد الإسلامي من قمقمه ، فنظام الإسلام العادل ، ومنهجه الوسط ، وحيويته البالغة ، وقدرته على الانتشار والتوسع ، واعتباره الجهاد من فرائضه ، وقدرته على توحيد الشعوب الإسلامية ، وتجميع آمالها ، ودفعها إلى التحرر من السيطرة الأجنبية – كلها مخيفة مقلقلة للغرب .

حركات مقاومة الاستعمار كانت إسلامية:

ومما زاد من خوف الغرب من دعوة الإسلام وعودة منهجه إلى الحياة : أن الحركات الإسلامية قاومته في العالم الإسلامي كله ، وصمدت في وجهه ، واستعذبت الموت في قتاله حتى تحرر ، كانت حركات إسلامية في حقيقتها ، وإن استغلت ثمرات جهادها بعد ذلك القوى غير الإسلامية ، من لصوص الحركات وسراق الثورات .

فحركة المقاومة للاحتلال الفرنسي في حملة نابليون على مصر ، إنما قادها علماء الأزهر وزعماء الدين ، ولا غرو أن صب الفرنسيون نقمتهم على الجامع الأزهر ، فدخلوه بخيولهم متحدين مشاعر المسلمين .

وحركة المقاومة للإنجليز في السودان إنما قادها ، وأجج نارها زعيم ديني هو محمد المهدي الكبير ، وأتباعه من المتدينين[6].

وحركة المقاومة للحلفاء واليونان في تركيا كانت حركة إسلامية ، كان هدفها جهاد الكفار ، وتحرير أرض الإسلام ، وإن جنى ثمارها بعد ذلك الكماليون الملحدون .

وحركة المقاومة للإيطاليين في ليبيا ، على يد (عمر المختار) وأعوانه ، كانت حركة إسلامية .

وحركة المقاومة للأسبان في ريف المغرب ، بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي ، التي أقلقت قوته جميع الدول الأوربية ، فتراكضت لمساعدتهم ، كانت حركة إسلامية .

ولقد علق المبشر (وليم كاش) على جهاد الأمير عبد الكريم في كتابه (العالم الإسلامي في ثورة) بهذه الكلمات المغيظة الحانقة : ( لقد التقى الأسبان بالحماسة العربية القديمة واضطروا إلى أن يجلوا، من مناطق نفوذهم، موقعا بعد موقع، حتى أصبحوا يحاربون وظهورهم إلى البحر مباشرة وعلى وشك أن يخرجوا من شمالي افريقية مرة واحدة. وهكذا نجد للمرة الثانية منذ الحرب العظمى (1914 – 1918) أن دولة أوربية يتغلب عليها جيش مسلم، فلقد اتفق أيضا لثلاث سنوات خلت أن مصطفى كمال طرد اليونان من آسية الصغرى وتحدى بذلك سلطان أوروبة القوية)[7].

وقد ذكرنا أن حركة طرد اليونان لم تكن في حقيقتها إلا حركة إسلامية قطف ثمارها العلمانيون.

وحرب التحرير الجزائرية التي انتهت بالنصر ، وخر فيها المليون ونصف المليون شهداء ، كان الدافع الأول لها والروح المحرك لمجاهديها هو الإسلام . لقد رفع الفرنسيون (جزائر فرنسية) فكان رد الجزائريين : بل الجزائر مسلمة ! وكان نشيد كل جزائري منذ عهد الشيخ ابن باديس رحمه الله :  شعب الجزائر مسلم * وإلى العروبة ينتسب

رجال السياسة يعترفون:

لقد أعلن (جي موليه) رئيس الوزارة الفرنسية في المغرب : أن الحركة الإسلامية التي تتسع في المغرب ، هي التي تهدد الإمبراطورية في المغرب[8] .

وكذلك أعلن (جورج بيدو) أحد وزراء الخارجية في فرنسا : أنه لن يترك الهلال يتغلب على الصليب [9].

ويقول الكاتبان : كوليث وفرنسيس جانسون في أثناء حرب التحرير الجزائرية : إن الحربَ القائمةَ في الجزائر (يعني حرب التحرير التي بدأت سنة 1955م) ، ليسَتْ حربًا دينيةً أو جنسيةً، أو حضاريةً، ولكنها حرْبُ شعبٍ مَظلوم يريد أن يتحرَّرَ من رِبْقَة شَعْبٍ ظالمٍ ، إلا أن الإسلامَ عُنصرٌ فعَّالٌ في دَفْع الجزائريين إلى طلَب التحرُّر. لقد أيْقَنَ الجزائريون منذُ الأيام الأولى للاحتلال أن هَدَفَ الفرنسيين كان القضاءَ على الإسلام. مِن أَجْل ذلك أَدرَكُواْ جميعًا أنَّ عليهم أن يَعْتَصِمُوا بالإسلام حتَى يَقْدِرُواْ على التحرِّر.

والواقعُ أن الاحتلال كان، مُنْذُ البدْء، يَحملُ هذا المعنى من الحرب الصليبية.

ولقد أدرك رجال السياسة الغربيون أن الإسلام وراء كل حركات الجهاد والثورة على حكمهم وتسلطهم ، وكثيرا ما أعلنوا ذلك شفاهة أو كتابة في غير مواربة ولا خفاء .

وهو ما سجله المؤرخ الأمريكي واليهودي المعروف ( برنارد لويس) في كتابه (الغرب والشرق الأوسط) الذي ترجمه الدكتور نبيل الطويل .

معركة الجهاد الأفغاني مع السوفيت:

وآخر معارك التحرير في العالم الإسلامي : معركة الجهاد الأفغاني مع السوفيت الذين غزوهم بجيوشهم في عقر دارهم ، وضربوهم بالطائرات من الجو ، والدبابات من البر ، وقدموا نحو المليونين من الشهداء ، حتى دُحر الغزاة ، وعادوا ناكسي الرؤوس ، ثم سقط الاتحاد السوفيتي .

رغم نجاح التغريب لازال الغرب قلقا:

لقد نجح الاستعمار في تغريب العالم الإسلامي إلى حد بعيد ، وصبغ أنضمة الحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم بالصبغة الغربية .

ومع كل هذه النتائج التي لم تكن تخطر على بال ، لازال الغرب قلقا متوجسا من ظهور قوة الإسلام فجأة من غير توقع .

فالمراقبون للتطور الفكري والثقافي – رغم ارتياحهم للنتيجة – يساورهم القلق من تغير مفاجئ .

يقول البروفسور جِب : (إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بسرعة مذهلة تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعو إلى الاسترابة في أمرها، إن الحركات الإسلامية لا ينقصها إلا الزعامة. لا ينقصها إلا (صلاح الدين) جديد )[10] وهو كلام باحث كبير خبير في هذا المجال .

ويتحدث الكاتب الألماني (هنرسين كاستر) في مقال له سنة 1964م تحت عنوان (الإسلام السياسي)[11] فيقول : (إن الدور الذي يلعبه الإسلام في الأحداث الجارية في الشرق الأوسط لم يتضح بعد في أوربا ، ويمكننا أن نقرر أن التفكير الديني يحدد الكثير مما يجري في هذه المنطقة وأن خلف العديد من المشاكل التي تجري في آسيا وأفريقيا تكمن في العقيدة المحمدية ، وقد لا يرضى عن هذا التحليل الأوربيون الذين نبذوا – منذ زمن بعيد – التفسير الديني للأحداث ، ولكن هذه هي الحقيقة )[12]

ويقول السياسي البريطاني المعاصر أنطوني نانتج في كتابه (العرب) : (منذ أن جمع محمد – صلى الله عليه وسلم – أنصاره في مطلع القرن السابع وبدأ أول خطوات الانتشار العربي ، أصبح على العالم الغربي أن يحسب حساب الإسلام كقوة دائمة وصلبة تواجهه عبر البحر الأبيض . إن قوى الغرب المسيحية كانت تواجه العالم العربي على مدى 1300 سنة في نهضته وانهياره )[13] .

هذه بعض أقوال المراقبين والمفكرين والسياسيين ، وهذه مشاعرهم .

واقع أوربا اليوم وفكرة (الإسلاموفوبيا) :

وهذه شهادات قديمة ، ولكن وقائع أيامنا تجعلها جديدة . وها نحن اليوم وأنا أقدم هذه الطبعة من (فقه الجهاد) يدعو اليمين السويسري المتعصب إلى إجراء استفتاء لمنع بناء المآذن في المساجد الإسلامية ، برغم معارضة الحكومة والبرلمان وأساقفة الكنيسة وعدد من مؤسسات المجتمع المدني ، ولكن أصر اليمين المسيحي وقام بدعايته الهائلة التي تخوف السويسريين من المسلمين ، ويظهرهم كأنهم وحوش مفترسة ، وأنهم إذا تساهلوا معهم اليوم فسيؤسلمون المجتمع عن قريب ، اليوم الآذن وغدا تطبيق الشريعة !!

وقد نجحوا في حملتهم وصوت نحو 57% من الشعب السويسري لصالحهم ، مما يدل على تاثير اليمين المتشدد على أكثرية الجمهور .

وقد استنكرت منظمة المؤتمر الإسلامي هذا التوجه الجديد ، واعتبرته نموذجا جديدا يحمل الكراهية والعداء للإسلام والمسلمين ، وأنكرته هيئة العفو الدولية .

كما استنكره كثيرون من أعضاء الاتحاد الأوربي ، ومسؤولون في الأمم المتحدة ، وأبدى الفاتيكان قلقه العميق من نتائج الاستفتاء .

وأصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانا يعلن فيه أسفه لنتيجة الاستفتاء ، وينصح المسلمين عامة أن يتهيأوا نفسيا وفكريا ودعويا للمرحلة القادمة ، وينصح المسلمين في سويسرا أن يصبروا ويثبتوا ولا يغيروا من سلوكهم مع مواطنيهم السويسريين ، ويستخدموا الوسائل السلمية في تغيير ما وقع .

وبعد مضي ساعات على ظهور نتائج الاستفتاء أعلن اليمينيون الهولنديون أنهم مدعوون إلى استفتاء مثله في بلدهم . وهكذا تتسع الموجة العاتية ، التي تحمل التخويف من الإسلام ، ويتأهب حزب (الحرية) النمساوي المتطرف ، والجبهة الوطنية في فرنسا وغيرهما لخوض معركة مماثلة .

وهذا – للأسف – يعطي المتطرفين من المسلمين ، حجة على أن الغرب لا ينفع معه أسلوب الحوار والتعارف والتفاهم بالحسنى ، كما زعم الذين يسمون أنفسهم دعاة الاعتدال ، إنما يجدي معه أسلوب القوة .

ولكنا مصرون على موقفنا لا نحيد عنه ، وإن ظُلمنا ، لأننا نرى أنه الموقف الإسلامي الصحيح ، المستمد من القرآن الكريم ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولن ندع أنصار ( إسلامو فوبيا ) يسيطرون على الساحة وحدهم[14] .

..........................

* من كتاب "فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة" لفضيلة العلامة، الفصل الثالث من الباب العاشر (2/ 1215 - 1272) ط (4) 2014م ، مكتبة وهبة ، القاهرة.

[1] انظر : (الاتجاهات الوطنية) للدكتور محمد محمد حسين (2/198)

[2] هذا ما كتبه الرجل عن عدد المسلمين في الصين منذ أكثر من قرن (1900م) وهو مستشار الخارجية الفرنسية ، وعنده مصادر معلومات لا شك ، وبعدها بعدة عقود علق الأمير شكيب أرسلان في كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وذكر أن عدد المسلمين في الصين يقدر بنحو خمسين مليونا ! ثم يقال لنا اليوم : إن المسمين في الصين عشرين مليونا رغم تضاعف الأعداد في الصين في تلك المدة والمعروف أن المسلمين أكثر تضاعفا .

[3] ونزيد على ما قاله هانوتو : إن الإسلام أيضا في ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو وغيرها وكلها في أوربا .

[4] يبلغ عد الطائفين والراكعين والساجدين من حجاج بيت الله الحرام في هذه السنين حوالي : ثلاثة ملايين حتى السنة 1430هـ التي خوفوا فيها الحجاج من (انفلونزا الخنازير) فليمت من شاء بغيظه!

[5] انظر تاريخ الأستاذ الإمام (2/ 401- 424) والاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين (2/347) وما بعدها ، والفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار ص 30 - 34

[6] ولقد عرف الغربيون وجه هذه الثورات وروحها الإسلامي فقاوموها مقاومة صليبية عنيدة ، ووقفوا بكل قواهم في سبيل إفشالها . وها هو مؤرخ أمريكي حديث هو (ألن مورهيد) يحدثنا عن فتح الغربيين لأفريقيا ويجعل في كتابه فصلين : أحدهما تحت عنوان (التمرد المسلم) والثاني بعنوان (النصر المسيحي) ويذكر في الفصل الأول رأي القائد غوردن في ثورة المهدي وخشيته من اندلاع مثلها في كل مكان : ( إن الخطر الذي يجب أن نخشاه ليس زحف المهدي شمالا عبر وادي حلفا إنه لأمر بعيد أن يتجه شمالا ، إن الخطر من طبيعة مختلفة تماماً إنه ينبعث من وجود قوة محمدية منتصرة عند حدودكم ، الأمر الذي سيثير الشعوب التي تحكمونها،  وفي كل مدن مصر ، سيقوم إحساس بأن ما يفعله المهدي يمكن أن يفعله المصريون ، وكما طرد الدخلاء الكافرين يمكنهم أن يفعلوا نفس الشيء . وليست انجلترا وحدها التي ستواجه الخطر ، إنما نجاح المهدي قد أثار المخاطر في آرابيا وسوريا) نقلا عن كتاب (الغزو الفكري) لجلال كشك ص35 ويقول (ألن مورهيد) في فصل (النصر المسيحي) : (لقد انتهت هذه القلاقل ( يقصد ثورة عرابي والمهدي) كما رأينا بالهزيمة الساحقة للإسلام على ضفاف النيل ، ولكن ثبت أنها هزيمة مؤقتة ليس إلا ، ومنذ سنة 1900م وهناك تقدم منتظم للإسلام في شرق ووسط أفريقيا ، وفي الوقت الحاضر يكسب المسلمون مؤمنين جددا أكثر من المسيحين ، كما قال (رولاند أليفر) : إنهم يكسبون السباق . ) نقلا عن (الغزو الفكري) لجلال كشك ؟أيضا ص37

[7] التبشير والاستعمار ص129

[8]التبشير والاستعمار ص178

[9] المصدر السابق ، وقد ذكر المؤلفان ذلك في كتابيهما : (الجزائر الثائرة) وقد ترجم وطبع في القاهرة.

[10] من كتاب (وجهة الإسلام) والترجمة هنا للدكتور محمد محمد حسين من كتابه (الاتجاهات الوطنية) (2/206)

[11] يبدو أن هذا العنوان هو الذي قلده كثيرون من عبيد الفكر الغربي في بلادنا ، أمثال سعيد عشماوي وغيره ، وزعموا أنه من ابتكارهم وهم مجرد نقلة مقلدين .

[12]عن كتاب (الغزو الفكري) للأستاذ محمد جلال كشك ص41

[13] أنطوني ناتنج : العرب (لندن 1964م) نقلا عن كتاب (القومية والغزو الفكري) لمحمد جلال كشك ص21

[14] انظر الملحق التاسع ( الخوف المرضي من الإسلام – إسلاموفوبيا) في أمريكا وفرنسا.