د. يوسف القرضاوي

من حق الله تعالى -لكونه خالقا للناس ومنعما عليهم بنعم لا تحصى- أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء -كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء- وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا، فهذا حق ربوبيته لهم، ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده، جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة، راجعة لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إلا طيبا، ولم يحرم إلا خبيثا.

صحيح أنه تعالى قد حرم على أمة اليهود بعض أصناف من الطيبات، غير أن ذلك كان عقوبة لهم على بغيهم وانتهاكهم حرمات الله، كما قال تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ" (الأنعام:146).

وقد بين الله صورا من هذا البغي في سورة أخرى فقال تعالى: "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ" (النساء:160-161).

فلما بعث الله خاتم رسله بالدين العام الخالد، كان من رحمته تعالى بالبشرية -بعد أن نضجت وبلغت رشدها- أن يرفع عنها إصر التحريم الذي كان تأديبا مؤقتا لشعب عات، صلب الرقبة -كما وصفته التوراة- وكان عنوان الرسالة المحمدية عند أهل الكتاب -كما ذكر القرآن- أنهم: "يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ" (الأعراف:157).

وشرع الله لتكفير الخطيئة في الإسلام أمورا أخرى غير تحريم الطيبات، فهناك التوبة النصوح التي تمحو الذنب كما يمحو الماء الوسخ، وهناك الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، وهناك الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهناك المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر في الشتاء إذا يبس.

وبذلك أصبح معروفا في الإسلام أن التحريم يتبع الخبث والضرر، فما كان خالص الضرر فهو حرام، وما كان خالص النفع فهو حلال، وما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر فهو حلال، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في شأن الخمر والميسر "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" (البقرة:219).

كما أصبح من الأجوبة الصريحة -إذا سئل عن الحلال في الإسلام- أنه (الطيبات) أي: الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة، ويستحسنها الناس في مجموعهم استحسانا غير ناشئ من أثر العادة، قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ" (المائدة:4)، وقال: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ" (المائدة:5).

وليس من اللازم أن يكون المسلم على علم تفصيلي بالخبث أو الضرر الذي حرم الله من أجله شيئا من الأشياء، فقد يخفى عليه ما يظهر لغيره، وقد لا ينكشف خبث الشيء في عصره، ويتجلى في عصر لاحق، وعلى المؤمن أن يقول دائما: "سمعنا وأطعنا" (النور:51).

ألا ترى أن الله حرم لحم الخنزير، فلم يفهم المسلم من علة لتحريمه غير أنه مستقذر، ثم تقدم الزمن فكشف العلم فيه من الديدان والجراثيم القتالة ما فيه؟ ولو لم يكشف العلم شيئا في الخنزير أو كشف ما هو أكثر من ذلك فإن المسلم سيظل على عقيدته بأنه (رجس).

ومثل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاث (أي التي تجلب على فاعلها اللعنة من الله والناس): البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل"، فلم يعرف أحد في القرون الأولى إلا أنها مستقذرة، يعافها الذوق السليم، والأدب العام، فلما تقدم الكشف العلمي عرفنا أن هذه (الملاعن الثلاثة) من أخطر الأشياء على الصحة العامة، وهي المصدر الأول لانتشار عدوى الأمراض الطفيلية الخطيرة كالانكلستوما والبلهارسيا.

وهكذا كلما نفذت أشعة العلم، واتسع نطاق الكشف تجلت لنا مزايا الإسلام في حلاله وحرامه، وفي تشريعاته كلها. وكيف لا وهو تشريع عليم حكيم رحيم بعباده " وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (البقرة:220).

ـــــــــ

- من كتاب "الحلال والحرام في الإسلام" لفضيلة الشيخ.