د. يوسف القرضاوي

إن القاعدة الأولى في بناء الاقتصاد الإسلامي؛ هي تقدير قيمة المال ومنزلته في الحياة، فقد عرفت البشرية قبل الإسلام أديانًا ومذاهب، تعتبر المال شرًا والفقر خيرًا، بل تعد كل ما يتصل براحة الجسد وتمتعه بالطيبات، تلويثًا للروح وتعويقًا لرقيها وسموها.

عُرف ذلك في الفلسفة البرهمية في الهند، وفي المذهب المانوي في فارس، كما عُرف ذلك في المسيحية من الأديان الكتابيه، وتجلت هذه النزعة بوضوح في نظام الرهبانية.

يروي أصحاب الأناجيل -متى ومرقص ولوقا- عن المسيح: أن شابًا غنيًا أراد أن يتبع المسيح ويدخل في دينه، فقال له: "بع أملاكك ثم أعط ثمنها للفقراء، وتعال اتبعني"، فلما ثقل ذلك على الشاب؛ قال المسيح: "يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات. أقول لكم أيضًا: إن دخول جمل في ثقب إبرة؛ أيسر من أن يدخل غنى ملكوت الله"!!

أما المذاهب الحديثة من رأسمالية وشيوعية؛ فتجعل الاقتصاد محور الحياة وتجعل من المال "إله" الأفراد والجماعة.

ولكن الإسلام لم ينظر إلى المال وإلى الطيبات تلك النظرة المتشائمة القاتمة، ولا هذه النظرة المادية المسرفة، ولكنه:

(أ) اعتبر المال قوام المعيشة وعصب الحياة، يقول تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (النساء: 5).

(ب) وسمّى المال خيرًا في مواضع من القرآن: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8)، {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (البقرة: 208)، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (البقرة: 180).

(ج) واعتبر الغنى نعمة يمتنّ الله بها على رسوله، وعلى المؤمنين المتقين من عباده: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} (الضحى: 8)، {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} (التوبة: 28)، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (الأعراف: 96)، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح: 12).

(د) واعتبر الفقر بلاء وعقوبة يُصيب به الله من ينحرف عنه ويكفر بنعمته، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112).

(هـ) وحدد النبي صلى الله عليه وسلم نظرته إلى المال بهذه الكلمة الموجزة الجامعة: "نِعم المال الصالح للرجل الصالح".

فليس المال خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا في ذاته، بل هو أداة وسلاح، يكون خيرًا في يد الأخيار وشرًا في يد الأشرار؛ ذلك أن المال هو وسيلة إشباع الحاجات، والعون على أداء كثير من الواجبات، كالصدقة والحج والجهاد، والعدة الضرورية لعمارة الأرض.

وكل ما يريده الإسلام ألا يصبح المال صنمًا يعبده الناس من دون الله، وألا يُفتَن الناس به فيصير غاية في حد ذاته، وقد خُلق ليكون وسيلة، وألا يؤدى بصاحبه إلى نسيان ربه والطغيان على خلقه، فهذه هي فتنة المال التي حذر منها الإسلام، يقول تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(الأنفال: 28)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون: 9)، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا} (الكهف: 46)، {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7).

بيَّن النص الكريم أن الطغيان لا ينشأ من مجرد الغنى؛ بل من رؤية الإنسان نفسه مستغنيًا عن غيره، وربما توهم أنه يستغني عن ربه عز وجل.

.....

- المصدر: "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة الشيخ.