د. يوسف القرضاوي

مما يميز تيار الوسطية الإسلامية: وقوفه عند خط الاعتدال بين المفرطين والمفرطين، والتنبه ـ والتنبيه أيضا ـ إلى وجوب الحذر من الاتجاهات المنحرفة ـ عن جهل أو عمد ـ في تفسير الإسلام، والتي تنتهي بتحريف الإسلام عن حقيقته، كما أنزله الله على رسوله، وأشد هذه الاتجاهات خطرا: ثلاثة لا يجوز لنا أن نغفل الحديث عنها هنا، ولو بإيجاز واختصار.

من هذه الاتجاهات ما يعمل على تجميد الإسلام، وصبه في قوالب حجرية، لا تقبل المرونة ولا تسمح بالتغير، ولا تتسع لتفتح أو حوار.

يمثل هذا الاتجاه صنفان متناقضان:

1. صنف يتمسك بأقوال الأقدمين من أئمة المذاهب وأتباعهم لا يحيد عنها، ولا يرضى بها بديلا، معتقدا أن السلف لم يتركوا شيئا للخلف، رافضا كل اجتهاد جديد أيا كان صاحبه، وكانت الحاجة إليه، فلا يقبل هؤلاء اجتهاد انتقائيا، ولا إنشائيا لا فرديا، ولا جماعيا، ظانين أن كتب الأقدمين تحوي كل شيء، وفيها إجابة عن كل سؤال، غافلين عما طرأ على الحياة من تغير هائل، وتطور كبير، بعد الانقلاب الصناعي، والتطور التكنولوجي، والتواصل العالمي، الذي جعل العالم (قرية كبرى) كما قال أحد الأدباء.

وإني أسأل هؤلاء: هل يجدون في كتب الأقدمين حكم زراعة الأعضاء في الجسم البشري، وحكم الملاحة الجوية، وصلاة رواد الفضاء، وتخزين القرآن والحديث في (الكمبيوتر) وغيرها وغيرها من القضايا الجديدة؟؟

وهذا الصنف لا يمثل تيارا بارزا في قلب الصحوة الإسلامية، وإن كان يمثل تيارا كبيرا في قلب الأمة الإسلامية.

2. وصنف يدعي التمسك بالنصوص، وخصوصا من السنة، رافضا أقوال المتقدمين والمتأخرين، جاعلا من نفسه (مذهبا خامسا)، يحكم على المذاهب كلها ولا تحكم عليه! يقول عن الأئمة العظام، بل الصحابة الكرام: هم رجال ونحن رجال!

وأنا أسمي هؤلاء (الظاهرية الجدد) وإن لم يكن لهم علم الظاهرية، ففيهم حرفيتهم.

وكثيرا ما يغفل هؤلاء عن طبيعة النصوص الجزئية، ودلالاتها وملابسات ورودها: أهي عامة أم خاصة، مطلقة أم مقيدة، محكمة أم منسوخة، ثابتة أو متغيرة موجبة أو مخيرة، أصلية أم فرعية، قطعية أم ظنية؟

فلابد من النظر في هذا كله، ليعلم ما يقبل تعدد الأفهام وما لا يقبل، وما يحتمل وجهة نظر جديدة وما لا يحتمل، وما تتغير فيه الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال، وما لا يتغير بحال.

وهذا ما يحتاج إلى أهلية خاصة وأفق واسع، كثيرا ما يفقده أولئك المتشددون الذين يحجرون ما وسع الله.

وقد انتهى الجمود على بعض النصوص الجزئية دون ربطها بغيرها من النصوص والقواعد الكلية، بأناس من هذا الصنف إلى ما انتهى إليه الخوارج من قبل، فسقطوا في هوة تكفير أهل القبلة، وإخراج الناس من الملة بالجملة.

ولو نظروا إلى القضية نظرة شاملة متوازنة، وقابلوا النصوص بعضها ببعض، وردوا المتشابهات إلى المحكمات والجزئيات إلى الكليات، لاتضحت لهم الرؤية، وسلم حكمهم من الغلو المهلك، ولم يقعوا في خطيئة تكفير المسلم.

لقد حذر الإسلام من التكفير، إبقاء على الأصل، وحملا لحال المسلم على الصلاح ومطاردة الغرور الذي ينظر إلى الناس باستهانة واحتقار، وإلى النفس باستعلاء واستكبار.

إن الإسلام لا يسمح ببابوية تصدر ضد الناس قرارات الحرمان أو تمنحهم صكوك الغفران!

ـــــــــ

- من كتاب "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" لفضيلة الشيخ.