أم كلثوم بنت محمد فال*
في فترة زمنية حالكة ضيقة فى مفاهيمها ومظلمة فى ممارساتها ومعاملاتها، برز نور الفكر الوسطي القرضاوي ليضيئ الطريق أمام العالم بقطبيه المتطرفين المتشددين، بين من يمارس التطرف الاحتلالي والتشدد العنصري اللا إنساني ضد الأضعف، وبين من يمارس التطرف الديني تحت كل الشعارات والمبررات التى لا تبرر ما يقوم به من ممارسات همجية، فبين هذا وذاك ظهر القرضاوي بفكره الوسطي المعتدل، يصحح تعاليم الإسلام ومفاهيمه التي تدعو إلى رحمة العالمين وإلى الإحسان إلى جميع الناس، متمسكا بالدليل الشرعي فى كل موقف من المواقف، بالحوارالبناء وبالكلمة والموعظة الحسنة، فى قول ربنا سبحانه من سورة الأنبياء – 107 "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وفى قوله كذلك في سورة البقرة - 83 : "وقولواللناس حسنا"..
مؤكدا على أن الخطاب الديني جاء بأسلوب شمولي لجميع البشرية ، وأن الرسول الأعظم نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى كافة الناس فى قول ربنا سبحانه وتعالى "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذرا" (سبأ:28). كما كان يرى أن التعايش السلمي من الأولويات الأساسية لكل الشعوب، وأن الشريعة الإسلامية أولت السلم اهتماما كبيرا أكد عليه القرءان الكريم "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ..." (الأنفال:17).
وكذلك "وكفى الله المؤمنين القتال ..." (الأحزاب :25) إلى غيرذلك من الآيات الدالة على أهمية السلم بين كل المجتمعات والشعوب.
وقد كانت المكتبات فى الشرق والغرب تزخر بمؤلفاته الداعية إلى الإصلاح والتسامح الفكري الاجتهادي، بعيدا عن الجمود الفكري، ونرى أن كتابه "عوامل السعة والمرونة" نموذجا رائعا على منهجه الوسطي المعتدل.
ويرى الجميع أن وضع اسم هذا العلامة الجليل على قوائم الإنتربول، ظلما وتشويها للحقائق وتلبيسا للحق بالباطل، وما يخفف عنا من هذه المأساة، تأسينا برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عزله المشركون فى الصحيفة التى نبذوا فيها بنى هاشم، وبنى المطلب، وتعاقدوا فيها عليهم، غيظا وعداء جراء هجرتهم إلى الحبشة، وماكان من تأمين النجاشي ملك الحبشة وتكريمه لهم، وحمايته لهم من أ شرار ورؤساء قريش، أبناء عمومتهم، لكن المفارقة الكبرى فى هذه القصة أننا إذا تتبعنا التاريخ بشقيه، القبلي والديني، نندهش عندما نري أناسا في القرن السابع الميلادي، والأول الهجري، مسلمين ومسيحيين يتعاملون بأرقى مظاهر الرقي الفكري، والعملي، حيث نشاهد ملكا مسيحيا، لا يتعامل مع عواطفه وميوله، بل يتعامل بأ سلوب العلم والحكمة، فى تلك الحقبة الزمنية من التاريخ، فنراه عندما أتاه المسلمون وقد أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، إليه قائلا: "لوخرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملك لايظلم عند ه أحد وهي أرض صدق ..."..
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما قدم المسلمون عليه كانوا عنده بخير دار عند خير جار، كما حدثت بذلك أم سلمة زوج رسول لله صلى الله عليه وسلم، فيما روته من هذه القصة التى أبهرت العالم كله ومازالت، ونحن نستطردها اليوم بعد أكثر من أربعة عشر قرنا، فى وقت ينظر فيه العالم إلى الحقيقة نظرة تشويه وتزييف با اسم العلم، يمارس من خلالها أنواع الظلم والإهانة إلى العلماء، ويضع أسماءهم تحت مسميات لاتليق بمنزلتهم العلمية، ولابما قدموه للعلم من خدمة يشهد بها الجميع، وتشهد لها مؤلفاتهم الجمة، ويكفي أن الله تعالى رفع منزلتهم بالعلم، وأنهم ورثة الأنبياء .
فلقد شهد التاريخ الحبشي المسيحي، و العربي الإسلامي، وغيره، قبل أربعة عشر قرنا، أن النجاشي ملك الحبشة كان أرقى فى تعامله مع متطلبات عصره عقليا وعلميا، دون أن يتسمى با اسم العلم، وهؤلاء الذين يتسمون باسم العلم اليوم، وكأنهم يحتكرونه على غيرهم، دون أن يرجحوه فى أي حل يحتاج إلى العقل والحكمة، وكأن العلم محصور فى كلمة واحدة أو مفهوم واحد، أومنطق واحد ( منطق صناعة القوة )، وهو منطق الغلبة، الذى يتنافى مع التعامل العقلي والعلمي .
وقد برز جليا من خلال تتبعنا لهذذه القصة أن جانب التطرف انحصر فى غير المتدينين من قريش، حيث قاموا بالقتل والتعذيب، واستعباد غيرهم، ومقاطعة المسلمين وحصارهم، اقتصاديا ومعنويا .
أما المسلمون فلم يقتلوا أي أحد فى مكة، ولا فى البلاد الحبشية، التى ها جروا إليها، ولم يقوموابأي مخالفة، فى تلك البلاد، فا لإسلام ينهاهم عن قتل النساء، والأطفال وقتل الغيلة، والإعتداء والقتال داخل المدن، وكذلك فإن المسيحيين لم يمارسوا التطرف فى تلك الفترة الزمنية، فمن دخل فى بلادهم من المسلمين لم يلق أذا .
فقد نظر النجاشي فى أمر قدوم المسلمين إليه نظرة عقلية علمية، وجمع الأساقفة وهم علماء النصارى الذين يقيمون لهم د ينهم، وبدأ بطرح الأسئلة المعروفة على المسلمين، وكان منهم الرد الواضح البين من القرءان الكريم، والحجج النيرة، حتى بكى النجاشي وأساقفته، وبعد ما استمع لما عندهم قال "إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ..."، مؤكدا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو النبي الذى بشرهم به عيسى ابن مريم فى الإنجيل، فلم يندفع النجاشي وراء الجشع ومبدئ الأقوى، ولا إلى التمييز العنصري والتعصب الديني، فى الوقت الذي نرى الآن شعوبا ورأساء ديمقراطيين يتعاملون مع قضايا العصر بوحشية وعنصرية وتعصب، مهييئين بذلك أرضا خصبة للغلاة المتعصبين يدمرون ويفسدون كل ما رأو لذلك سبيلا .
فهلا كان الرد اليوم على قضايا العصر ردا يتناسب مع التطورالعقلي للإنسان وما أحرزه من تطور علمي .
فكيف نحقق تلاؤما بين التطور العلمي، ومعالجة الأزمات الفظيعة بالمنطق العلمي، دون اللجوء إلى منطق القوة المدمر؟ وكيف نحقق تلاؤما حقيقيا بين مفهوم العلمانية، واحترام أهل العلم والعلماء؟
ــــــــــ
*عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين