عبد الله السُّكرُمي

يُحكى أن ذبابة وقفت على ظهر جبل، فلمَّا همَّت بالرحيل قالت للجبل: تماسك أيها الجبل فإني راحلة عنك!!

فقال لها الجبل: أيتها الذبابة؛ وهل أحسست بك حين وقعت عليَّ، حتى أحس بك وأنت راحلة عني؟!

هذا أقرب وصف لحال أولئك المتطاولين على علماء الأمة، ومصلحيها، ومنهم فضيلة الشيخ الإمام يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي ظلَّ لأكثر من 70 عامًا وما زال، قائمًا في خدمة دعوة الله، لا يصدُّه عن دعوته صادٌّ، ولا يرده عن الحق رادٌّ، حتى بات محبوبًا لأهل الحق، مكروهًا لدى أهل الباطل .

ولما كان الباطل لا يملّ ولا يكلّ من الكيد للحق وأهله، خصوصًا في هذا الزمان، الذي زاد فيه نشاط أهل الباطل، وعلت رؤوسهم، وانتشرت وسائلهم، التي اتخذوها مرصدًا لملاحقةِ المؤمنين، ومحاربةِ المصلحين - فقد قام الباطل بجنوده ووسائله وأعوانه، يحاربون الشيخ القرضاوي بكل سبيل، ويسعون لإيقافه، وإيقاف دعوته، وإرهاب من يحبه أو يقتدي به، فسُجن وعُذب، ومُنع من دخول بعض البلاد، وصودرت كتبه في بعضها، وهاجمه الإعلام، وأخطأ فيه السفهاء.. ثم وأخيرا: تم وضعه على قائمة المطلوبين (للإنتربول) الدولي.

ومعلوم أن (الإنتربول) الدولي إنما أنشئ -حين أنشئ- لمحاربة المجرمين الدوليين، المطلوبين للعدالة، لما جرُّوه على بلادهم من خراب. وها هو الآن يستخدم كوسيلة لملاحقة العلماء، والمصلحين، مع إغفاله للإرهابيين الحقيقيين الذين يقتلون اﻷبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، ويدمرون بلادًا بأكملها، ويسحقون مدنًا وقرىً، يسوون بناياتها بالأرض.

وهذا الخبر وإن أزعجنا، وتألمت له قلوبنا، إلا أنَّنا نوقن دائمًا أن إيذاء المصلحين -ومن قَبْلهم الأنبياء والمرسلين- هو سبيل الطغاة الظالمين، عندما يفشلون في مقاومة الحجة بالحجة، والبيان بالبيان، ودفع المبادئ بالمبادئ.

وإن التاريخ ليحدثنا، والواقع يرينا، وكتاب الله بين أيدينا يدلنا: على أنه لم يَنْجُ نبي أو رسول أو مصلح قط، من أذى الأفاكين المضلين. يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات:52-53].

إن حال أولئك المتطاولين على الشيخ القرضاوي، كحال صبية تجمعوا حول جبل، وأخذوا يقذفونه بالحصى، والجبل ثابت مكانه، يطاول عنان السماء، لا يشعر بهم متى أتوا أو رحلوا !!.

فيا شيخنا الجليل؛ يا أيها الجبل الأشم: اثبت فقد زَلزلتَ بثباتك عروش أهل الباطل، وكشفتَ سوءاتهم، وفضحتَ أستارهم، لقد أزعجتهم بتفانيك في خدمة الحق.

اثبت أيها الجبل؛ فعلى أكتاف مثلك من أصحاب القضايا الكبيرة يقوم الحق، حيث يعيشون به وله، ويسعون لمجده ليلا ونهارًا، فيتلذذون بالتضحية فيه، ويركبون الأهوال طوعًا ورغَبا!

ومن ابتغى الاصلاح في أرض الورى * ركب الشدائد وامتطى الأهوالا

اثبت أيها الجبل؛ فخدمة الحق وإن كانت متعبة معنتة، وتبعاتها شديدة مرهقة، إلا أنها أهون وأخف، بل وأحب من الوقوف مع الباطل، أو التصفيق له، ولذا كان أجرها يوم القيامة عظيمًا، وهذا ما قاله أبو بكر الصديق لعمر -رضي الله عنهما- في وصيته في آخر حياته: "إنما ثقلت أوزان من ثقلت موازينهم يوم القيامة ؛ لاتِّبَاعهم الحقَ ، والحقُ ثقيل على النفوس ، وإنما خفت أوزان من خفت موازينهم يوم القيامة لاتباعهم الهوى، والهوى خفيف على النفوس!".

اثبت أيها الجبل؛ فقد تعلمنا منكم: أنه في سبيل الحق تهون كل التضحيات، ويهون كل عزيز وغال!، فمهما عزّ الناس بالأوطان والبلاد، فعزهم بالحق أكبر، ومهما اشتدت الظهور بالأبناء والأحباب، فقوتها بالحق أشد!

اثبت أيها الجبل فلولا المحن لشك أهل الحق في الطريق! كما قالها أحد السلف. فالشدائد لا تزيد أهل الحق إلا صلابة وإصرارًا، ويقينًا أنهم على منهج الحق، فيستحثون العزائم، وتوقد فيهم شعلة التضحية والبذل.

اثبت أيها الجبل؛ فأهل الحق هم أهل الابتلاء، والحق عزيز، ولعزته لا يقبل في حزبه أي أحد، فله رجاله الذين تربيهم المحن، وجنده الذين تصقلهم الشدائد، وهم الثابتون في كل حال، يتقلبون على البلاء والسراء {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:146]. ضحوا بنفائس أموالهم، ونفائس أوقاتهم، وجعلوا همّ الدين فوق همّهم لأنفسهم وأولادهم.

اثبت أيها الجبل؛ فإنما نحن بك، وقد ثبَّتَ الله بك خلقا كثيرا، وشعوبا كثيرة، وجعل الله لكلماتك أثرًا، فهي تعُمُّ الآفاق فور خروجها، وتجد الترحيب فور وصولها.

وأخيرًا: أيها الإمام.. اثبت ثبتك الله.. واعلم -وأنت أهل العلم- أن للظالمين يوما، وأن نهايتهم حتمية أكيدة، وعاقبتهم أليمة بئيسة، وستُمحى من الأرض آثارهم، ومن الدنيا أخبارهم، ويبقى أهل الحق قدوة لأهل كل زمان، وأسوة في كل عصر وأوان.. فكم قصَّ علينا القرآن قصص أقوام صاروا عبرًا، فاندرست آثارهم، ومُحيت أخبارهم، ولم يبق إلا عذابهم عبرة لمن يعتبر..!