د. عبد المنعم أبو الفتوح*
هذه الورقة أُعدَّت "لملتقى تلاميذ وأصحاب د. يوسف القرضاوي" الذي عقد في الدوحة.. باعتباره أحد المُجددين والمُجتهدين الذين أثروا الأمَّة بعطائهم العلمي والفكري.. غير ذلك فالشيخ القرضاوي بالنسبة لي شخصيًّا أستاذ وأخ وصديق حبيب؛ ما كان لي أن أتأخَّرعن تحيته في ملتقى تلاميذه وأصحابه؛ فالقرضاوي كان وما زال المِرفأ في كل عاصفةٍ والظل في كل هجير والناصح الأمين دومًا في كل حين .
تَدين الصحوة الإسلامية في السبعينيات بالفضل لعددٍ من الشيوخ والرواد في مقدمتهم الشيخ محمد الغزالي-رحمه الله- والأستاذ عمر التلمساني ، والشيخ الجليل يوسف القرضاوي أمَدَّ الله في عمره.. تلك الصحوة التي تُعد بحق الإحياء الثاني لما بدأهُ المصلحون الأولون مثل محمد بن عبد الوهاب، والمهدي في السودان، وابن باديس، وحسن البنا، والسباعي، والمودودي، وبطبيعة الحال نتيجةً لجهود الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وغيرهم.
كانت الصحوة الإسلامية في هذه الفترة (السبعينات) صحوة عقولٍ وأفكار يكتنِفُها بعض الغموض، وصحوة قلوبٍ ومشاعر وحماسة هائلة للدين، وصحوة اهتمام بقضايا العالم الإسلامي وصحوة إرادة وعزيمة، وصحوة عملٍ وسلوك.. مَثَّل القرضاوي لنا مدرسة (الوسطية الإسلامية) في أجمل معانيها؛ تلك الوسطية التي تعني الوسط بين النقيضين التَّشدُد الديني من ناحية والعلمانية الغربية من ناحيةٍ أخرى .
وممَّا دفع أبناء الصحوة الإسلامية إلى التعلُق والارتباط بالشيخ القرضاوي: هو أنه كان، وما زال، نموذجًا للعالِم المجاهد المدافع الصلب عمَّا يؤمن به ويراه حقًّا، يعيش هموم المسلمين وقضاياهم مهما كلَّفهُ ذلك من تبعاتٍ وردود أفعال؛ فالمتعصبون يرفضون آراءه ويَعتبرونه (مُترخِصًا)، والصَّهاينة وبعض الدوائر الغربية ترى فيه العدو الأول للصهيونية مُتشددًا ومُتعصبًا، ومن أكثر العلماء تحريضًا ضِد الصهيونية؛ وكذلك تراه غير مُرحبٍ به في بعض الدول العربية والإسلامية.. كل هذه المتناقضات تِجاهه تؤكد أن هذا الرجل على الطريق الصحيح ، ويُمثِّل (الوسطية) التي يرفضها المتعصبون والعلمانيون.. وفي المقابل فله في قلوب الملايين من المسلمين في أقطار الأرض كل تقديرٍ واحترامٍ ومحبة .
القرضاوي عالم موسوعي: فهو الخطيب والشاعر والكاتب والمجتهد وصاحب الفتوى؛ تجاوزت مؤلفاته أكثر من مائة كتابٍ غطَّت موضوعات إسلامية عديدة أهمها: طريقة الدعوة إلى الله، وتحت هذا العنوان عشرات الموضوعات، وكذلك في الاقتصاد، وكتابه عن الزكاة- الذي حصل به على درجة الدكتوراة- أحد أهم المراجع المتخصصة في جوانب المال والأعمال، وتُوصف بأنها أفضل ما كتب في تاريخ الإسلام كله في هذا المجال، وله كتابات كذلك في العدالة الاجتماعية والنظام السياسي في الإسلام .
القرضاوي فقيها: مكّنه الله من أدوات الاجتهاد بكل مكوناته تمكينا قويا - والوصف قاله لي المستشار طارق البشري - فالشريعة هي تخصصه الأصلي.. كذلك هو على دراية بعلوم بالسُنة النبوية، وبرع فيها، وكتابه عنها من أوثق ما كتب عن منزلة السنة في التشريع .
أنا أعتبر أن القرضاوي الآن وبحق: هو "الناظر القَويم" لمدرسة الإخوان المسلمين، بما تمثله من تاريخٍ ونهجٍ ومواقف؛ فهو "بِفهمه العميقط لمعنى (الوسطية) التي هي عنوانٌ على رأس فكرة، كما هي بالأحرى عنوانٌ للأُمَّة كلها، "وبتقدمه لهذا الفهم" شرحًا، وتأليفًا، واجتهادًا: يتأكد معه الوصف الذي لم أزد فيه على ذكر الحقيقة .
تعلمنا من القرضاوي أن: (الإسلام منهج وسط في كل شيء: في التصور، والاعتقاد، والتعبد، والتنسك، والأخلاق، والسلوك، والمعاملة، والتشريع، وهو الطريق الذي سماه الحق تبارك وتعالى الصراط المستقيم، وهو المنهج المتميز عن طريق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من المغضوب عليهم، ومن الضالين، الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط).
تعلمنا من القرضاوي أن: ("الوسطية" إحدى الخصائص العامة للإسلام، وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها "كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"، فأمتنا أمة العدل والاعتدال والتوسط في كل شيء، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم.. والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال، وتحذر من التطرف، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: "الغلو " و"التنطع " و "التشديد " .. والنبي ﷺ قال : "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين" والمراد بمن قبلنا : أهل الأديان السابقة، وخاصة أهل الكتاب.. "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ"، فنهانا أن نغلو كما غلوا).
تعلمنا من الشيخ الجليل القرضاوي أن الغلو قد يبدأ صغيرا ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره.. حيث نقرأ معه شرحه وفهمه لحديث الرسول - ﷺ - حين وصل المزدلفة في حجة الوداع وقال لابن عباس: هلم القط لي – أي حصيات ليرمي بها في منى – قال: فلقطت له حصيات من حصى الخزف، فلما وضعهم في يده، قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين.. في إشارة إلى أنه قد يأتي من يفهم أنه كلما كانت الحصوات كبيرة كان هذا أدل على عمق الإتباع.. فيدخل عليهم الغلو شيئا فشيئا، ولهذا لزم التحذير.. كما قال رسول الله - ﷺ - : (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً.. أولئك الذين وصفهم العلماء بالمتعمقين: المجاوزين الحدود في أقوالهم وأفعالهم ..
سمعنا وتعلمنا في مدرسة الإخوان المسلمين شرح القرضاوي لحديث رسول الله - ﷺ - " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهْبانِيّةً ابتدعُوها ما كتَبْناها عليهِمْ" .. فيقول:
( قاوم النبي - ﷺ - كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها الإنسان، فقد شرع الإسلام من العبادات ما يزكي نفس الفرد، ويرقى به روحياً ومادياً، وما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل، دون أن يعطل مهمة الإنسان في عمارة الأرض، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت، فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به، شعورياً وعملياً، ومن هنا لم يشرع الإسلام "الرهبانية " التي تفرض على الإنسان العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر الأرض كلها محراباً كبيراً للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهاداً، إذا صحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
ولا يقر ما دعت إليه الديانات والفلسفات الأخرى من إهمال الحياة المادية لأجل الحياة الروحية، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل الآخرة، فقد جاء بالتوازن في هذا كله "ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً " . "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " ، "إنّ لبدنك عليك حقًّا".
لقد أنكر القرآن، بل شدد النكير، على أصحاب هذه النزعة في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده، فقال تعالى في القرآن المكي: " يا بني آدم خُذوا زينتكم عِند كلِّ مسجدٍ وكُلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنّه لا يُحبُّ المُسرفين. قُل مَنْ حرّم زينة اللهِ التي أخرج لِعبادهِ والطّيِّبات من الرِّزْق".
وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله:"يا أيُّها الذين آمنوا لا تُحرِّموا طيِّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحبُّ المعتدين وكلوا ممَّا رزقكم الله حلالاً طيِّباً واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون".
وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة حقيقة منهج الإسلام في التمتع بالطيبات، ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض الأديان، فقد روي في سبب النزول أن رهطاً من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كالرهبان! وروى أن رجالاً أرادوا أن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح "ملابس الرهبان" فنزلت..
وجاء عن ابن عبّاس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليّ اللحم. فنزلت: "يا أيُّها الذين آمنوا لا تُحرِّموا".
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فكأنهم تقالُّوها "أي عدّوها قليلة " فقال بعضهم: لا آكل اللحم.. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مِني".
وسنته ـ عليه الصلاة والسلام ـ تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه، وكيف يعامل ربه عز وجل، ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله - معطياً كل ذي حقٍ حقَّه، في توازن واعتدال)
وهو الفهم الميسور الذي تحمله دعوة الإخوان ويسيرون به بين الناس داعين مبشرين ميسرين ..
هكذا حق لي أن أقول إن الشيخ الجليل يوسف القرضاوي هو ناظر مدرسة الإخوان المسلمين... ولأن الإسلام العظيم علمنا ألا ننسى الفضل بيننا... فنقول للشيخ القرضاوي في هذا الملتقى: إن جيل الإحياء الثاني لجماعة الإخوان المسلمين أو من يسمونهم جيل الصحوة الإسلامية في السبعينيات يشهد ويقر لك بالفضل، أن قيضك الله له فتوضح ما غمض، وتشرح ما التبس، وتسهل ما صعب، مستهديا بقول الحق تبارك وتعالى " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي".
ــــــــــ
* من ورقة أعدها "لملتقى الإمام القرضاوي مع التلاميذ والأصحاب" بالدوحة في يوليو 2007م.