د. كوثر يونس*
في حياة الأمم رجال عظماء، وعباقرة أفذاذ تمتد يد العناية الإلهية لتبعث بهم في وسط هذا النقيع العاصف من الأحداث الجسام والمنعطفات عن المسارات الأصيلة التى تشهدها الأمة، وتزج بهم بين هذا الضجيج الهائل ليمسكوا بناصية الأحداث ويحولوا بين شعوبهم وبين السقوط في مهاوي الضياع والانفلات الرهيب من دائرة تاريخهم وحضارتهم.
الشيخ المجاهد العالم العامل القرضاوي، هو من هو علماً ومكانة في تاريخ الأمة التي شهدت وما تزال تشهد تطورات خطيرة منذ بداية القرن العشرين، امام الوسطية والاعتدال, امام الصحوة واليقظة, وهاهي آثاره حتى الآن تتفاعل بها الأمة المعاصرة، التي تلقى الألاقي في عهود المستبدين والمستشرقين الحاقدين والمستغربين المغربين وأعداء الدين الذين انسلخوا من دينهم، وحاربوا شعوبهم في عقيدتهم وقيمهم وأخلاقهم.
لم تكن حياة العلامة القرضاوي إلا ملحمة من الوقائع والأحداث التي وضع جميعها في خدمة القرآن العظيم وتفسير نصوصه وبيان مرامي آياته البينات ضمن رؤية تبلورت مع الزمن ومع أطوار رحلة العمر، وكانت غايتها النهائية بث اليقظة وإعادة الحياة والفعل للأمة الإسلامية بعد طول رقاد.
يدعو إلى إنقاذ الإيمان، وعودة الإسلام إلى الحياة، وعودة المسلمين إلى دينهم، وقرآنهم، وتحكيم شرع الله في سائر أمورهم وأحوالهم.. تصدى بقوة ايمانه ويقينه وينابيع العلم الهادرة من عقل قرضاوي فذ للعلمانيين والقوميين والسياسة الميكيافيلية القائمة على التزلف والنفاق والمصالح الشخصية، السياسة التي نحت الدين جانباً، وولى أصحابها وجوههم نحو أوروبا، والسير في ركابها؛ ولهذا رأيناه في هذه المرحلة، يقف - بكل قوة وصلابة - في وجه التيارات الإلحادية الشاملة، وفي وجه كل ظالم مستبد برغم ضراوة الهجمة وشراستها، وبرغم ما تعرض له من ضغوط و تضييق.
في هذا المنعطف الخطير في حياة الأمة وأمام هذه الأعاصير الهائلة المزعزعة للحياة الاجتماعية بأسرها يظهر القرضاوي العلامة الفذ ليحمل هموم الأمة ويقوم بأعباء رسالة نذر لها نفسه وحياته وكل لحظة من وقته وأنكب على تأليف موسوعة علمية فريدة لو نهل منها العرب جزءا لما تربعنا فوق عرش التطور والتقدم وركبنا سفينة نجاة البشرية, موسوعة نشرها بين طبقات الأمة في ظروف غاية في الدقة والصعوبة ليهيئ بها مجتمعا إسلاميا كاملا يتدفق بالحيوية والإيمان.
ولأنه القرضاوي مجدد عصره فإن المهمة الملقاة على علماء العصر اليوم أكبر وأثقل من أي عصر آخر, فها هو اليوم يرزح تحت وطأة هجمة إعلامية شرسة وسياسية قذرة تحاصره وتشوه صورته وتنعته بالتطرف حينا وبالإرهاب حينا آخر، بما تقدمه بعض الفئات المنحرفة والضالــة من تصرفات غير إنسانيــة وصور همجيــة تسيء للإسلام وتلطخ سمعة المسلمين بشمولية التطرف والإرهاب دون تمييز وتعمل على تأليب الرأي العام العالمي على الإسلام وعلى الأمة العربية، بما يستدعي أن نكون حاضرين لهذه المواجهة بخطاب إسلامي معاصر لا ينتمي إلى عالم التكرار والاجترار بقدر ما يسعى جاهدا خلف الإبداع والابتكار، خطاب يصل إلى الأفكار والأبصار بأسلوب يعتمد الذكاء في إيصال ما نريد من خلال إقناع المشاهد أو المستمع أو القارئ برسالتنا وسماحة ديننا ووسطية إسلامنا.
لقد وصل أرباب الضلالة إلى درجة كبيرة من الخطورة والتأثير بحيث أصبحوا قادرين على أن يزنوا الباطل ويجعلوه حقا، ويزروا بالحق ليجعلوه باطلا، وأن يسحروا العيون وأسماع وعقول الناس .
ولكن هيهات هيهات فلقد تربع القرضاوي في قلب الأمة وسيرقد فيه.. و لن يُهزم أمام هذا الحشد الغفير من المعارضين والفلاسفة المُتعنّتين وأرباب الضلال, فعلى الرغم من إقامتهم سداً منيعاً -إلى حدٍ ما- ليضيقوا عليه و ليحول دون انتشار موسوعته العلمية الدينية الايمانية و الفكرية و الأدبية, المستخلصة من سر ذوب قلبه و عقله ووجدانه في هذا الدين العظيم وعلى الرغم من حرمانهم الكثيرَ من الناس، ولا سيما الشباب الأبرياء من حقائق الإيمان بتسهيل سُبُل السفاهة لهم وإغرائهم بملذّات الحياة الدنيا..
وعلى الرغم من محاولتهم كسر قوة هذا العلامة الجليل بشتى وسائل الغدر وأساليب الهجوم العنيف واختلاق الأكاذيب وإشاعة الدعايات الزائفة وتخويف الناس منه وحملهم على التخلي عنه..
وعلى الرغم من ذلك فقد أحب هذا الشيخ ملايين البشر في كل مشارق الأرض و مغاربها. فما الحكمة من التفاف الشباب و العلماء نحو هذا الرجل التفافا لم يَسبِق له مثيل؟، و ما الحكمة من أن تحظى كتبه و محاضراته و لقاءاته بانتشار واسع ويتلقاها الناس بشوق بالغ، وتستقرئ نفسها في داخل البلاد وخارجها بكمال المسرّة والمحبة؟.
نعم لأنه القرضاوي الذي استطاع ويستطيع أن يغير الحياة من حوله.
ــــــــــ
* كاتبة وأديبة تونسية