د. يوسف القرضاوي

(6) بيان شيخ الأزهر بعد مجزرة (النصب التذكاري)

وبعد مجزرة النصب التذكاري في شارع النصر، وما سالت فيه من دماء بريئة، وما ارتقت فيه من أرواح طاهرة، طالعنا شيخ الأزهر بهذا البيان:

( إنَّ الأزهر الشريف وقلبه يتمزق ألما بسبب تلك الدماء الغزيرة التي سالت علي أرض مصر اليوم ، يستنكرُ ويدين بقوة سقوط هذا العدد من الضحايا، ويعلن أن هذه التصرفات الدموية ستفسد على عقلاء المصريين وحكمائهم كل جهود المصالحة ومحاولات رأب الصَّدع ولم الشمل ، وعودة المصريين إلي توحدهم كشعب راق متحضر.
ولا يزال الأزهر يتمسك بالمبدأ الذي يُؤكِّد أن مقاومة العُنف والخروج على القانون لا يكون إلا في حُدود القانون، وباحتِرام حقوق الإنسان، وأخصها الحق في الحياة. ويُطالب الأزهر الحكومةَ الانتقالية بالكشف فورًا عن حقيقة الحادَث، ومن خلال تحقيق قضائيٍ عاجل، وإنزال العُقوبة الفوريّة بالمجرمين المسئولين عنه، أيًّا كانت انتماءاتهم أو مواقعهم.
أيها المصريون، إن الأزهر الشريف ينادي ويستصرخ العقلاء من كل الفصائل، أن يبادروا فورا ودون إقصاء، إلي الجلوس علي مائدة حوار جادة مخلصة، ذات مسؤولية وضمير، للخروج من هذه الأزمة ومن هذه التداعيات الدموية ومن هذه الأجواء التي تفوح منها رائحة الدماء .
ولايزال الأزهر يحذر من أنه لابديل عن الحوار إلا الدمار ، وأخيراً يذكّر الأزهر المصريين جميعاً بتحذير نبي الرحمة صلي الله عليه وسلم "إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار".
حفظ الله مصر ووقاها شر الفتن).

التعقيب:

جاء بيانكم يا شيخ الأزهر، مستنكرا لهذه المقتلة البشعة، والمجزرة المروعة، التي ارتقى فيها قرابة المائتي مصري، وأصيب الآلاف منهم. والذين قاموا بهذه المقتلة هم رجال الشرطة الشرفاء، الذين أثنيت عليهم في خطابك يوم عزل الرئيس مرسي، هؤلاء هم شرفاء الوطن، الذين يقتلون أبناءه، وخيرة شبابه، وزهرة مجتمعه، وأطهر من أنجبت مصر .. قتلهم رجال الشرطة الشرفاء، الذين أرادوا أن يطهروا مصر من كل حر شريف! وأن يجهزوا على كل أمل بريء، وأن يذبحوا معاني العزة والكرامة والإباء من أبناء هذه الأمة، الذين انتفضوا للدفاع عن حقوقهم.

لم يذكر المنصفون أن هؤلاء المعتصمين في ميادينهم المختلفة قد تحرشوا بفتاة، ولم يتناقل الصادقون أن أحدهم سرق من آخر هاتفا ولا جنيها، ولا لقمة! لم يذكر المنصفون أن ميادينهم قد فاحت منها السحب الزرقاء، ولا تراقص من بها مع الهابطات، إنما ميادينهم محاريب العابدين، وقبلة القانتين، وملاذ المستغفرين.

هؤلاء المعتصمون الذين عرفوا الإسلام وتمسكوا به، وصفّوا أقدامهم في سكون الليل، يدعون ربهم رغبة ورهبة، وتضرعا وخيفة. يقتسم أحدهم جرعة الماء، وكسرة الخبز مع أخيه، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لقد أحيوا القرآن في حياتهم الطاهرة، وجسدوا خلق النبي محمد صلى الله عليه وسلم في معاملاتهم النبيلة، وأخلاقهم الفاضلة.

وذكرت أن هذه الممارسات ستفسد جهود المصالحة، وأنا أناشدك يا شيخ الأزهر فاصدقني: أين هي جهود المصالحة؟ وما هي شروطها؟ ومن هم طرفاها؟ ومن يملك أن يحكم في هذه المصالحة؟

هل تستطيع أن تأمر الجنرال السيسي أن يتراجع عن فعلته؟!

هل تجرؤ أن تعلن أمام الجميع أنك اجتهدت فأخطأت، وأن الرئيس مرسي على بعض أخطائه واجتهاداته في الحياة السياسية، خير ألف مرة من هؤلاء المتسلطين على رقاب المصريين، دون إرادتهم، ورغما عنهم!

هل هذه المصالحة في نظرك تعني: إما أن تستجيب لأوامر الانقلابيين وإما فالمقصلة أو غياهب السجون، أهذه هي المصالحة؟! أن تنزل على رأي المفسدين؟!

لقد كذب هؤلاء الكذابون – وذاك ديدنهم- فقالوا خرج  حوالي 33 مليون مصري رفضا لحكم مرسي، وسمعنا عن تصريحات تُنسب إلى جوجل إيرث  (google earth) وغيرها، ثم كذّب هؤلاء الخبر، بل أحصى بعضهم أن العدد الإجمالي لهؤلاء المعارضين على اختلاف توجهاتهم، وتنوع مشاربهم، وتعدد مآربهم لم يصلوا إلى عشر هذا العدد!

وكان هناك من هم مثلهم أو يزيد يؤيدون الرئيس الشرعي.

لا أدري أي ثورة هذه التي يرعاها الجيش والشرطة، وتنثر فيها الورود، وتوزع العصائر والأعلام، بلا شهيد واحد ولا مصاب واحد، وتحتفل بها أجهزة الدولة كلها؟!

وإذا كان موقف الأزهر أنكم تستنكرون مواجهة العنف خارج دائرة القانون، فأين هذا العنف يا فضيلة الإمام الأكبر؟! هل مازلت تصدق تقارير الشرطة المصرية، التي قالت عن خالد سعيد : شهيد الحرية ومفجر ثورة يناير إنه مات بسبب جرعة (بانجو) زائدة، مع أن آثار التعذيب الوحشي ظاهرة على جسده؟!

وطالبتَ الحكومة المؤقتة ( الانقلابية) بسرعة الكشف عن أسباب هذه المجزرة البشعة وسرعة تقديم المسئولين إلى العدالة الناجزة، فجاءت الإجابة كسابقتها، لقد قتل الإخوانُ الإخوانَ، وفي رواية أخرى: لقد قاوم أهالي منطقة النصب التذكاري المتظاهرين! وعقلاء الأرض يعلمون أن المنطقة التي سالت فيها دماء مئات المصريين، وأصيب فيها آلاف منهم ليس حولها مناطق سكنية، بما يشير إلى سذاجة القول، وعدم إحكام كذبهم.

إن الصور المرئية، ومقاطع الفيديو، يثبتان بما لا يدع مجالا للشك، أن جهاز الشرطة بلباسهم الرسمي، ولباسهم المدني متورطون في ذلك. فهل أمامك إلا تصديق الرواية الرسمية؟! وهل في مقدورك أن تقول للكذاب: كذبت، وللقاتل: قتلت؟!

ودعوت إلى مائدة حوار جادة، ومن يدعو إلى ذلك لابد أن يكون لديه القدرة على إلزام المتنازعين برأيه الذي يراه، فهل باستطاعتك يا سماحة الإمام الأكبر، إذا رأيت أن ما حدث كان خطأ، وأن الشارع ليس كما صورت لكم الصور المزيفة، ثورة الفوتو شوب، ثورة الست ساعات، وإذا رأيت جموع المتظاهرين السلميين الذين لا يريدون مالا ولا جاها ولا وظيفة، ولا مسكنا، إنما قاموا لرب العالمين، حفاظا على دينهم، وحرصا على دستورهم، ورغبة في عودة رئيسهم، وبحثا عن أصواتهم المهدرة.

هل تستطيع أن تعلن أن ما حدث لم يكن عن رغبة من جموع الشعب المصري، وإنما كان رغبة بعضهم، وأن الواجب علينا أن نعيد الحق لأصحابه، وألا نتمادى في الباطل؟!

ثم جاء استشهادك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بأن القاتل والمقتول في النار، وكان حريا بك يا شيخ الأزهر وأنت تذكر هذا الحديث: أن تنظر إلى الواقع الحادث على الأرض، هل ما حدث في شارع النصر قتال بين فئتين، رفع كل منهما السلاح في وجه أخيه؟! أم هو اعتداء صارخ، وعدوان صريح من فئة تملك السلاح بمختلف أنواعه، ولديها أدوات البطش بتعدد وسائله، على متظاهرين عُزْل، لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، لا بندقية، ولا مسدسا، ولا سيفا، ولا سكينا، ولا حجرا! ويواجهون آلة القتل والقنص بصدور عارية، وقلوب مؤمنة، وهم يعلمون أن طريق الحرية لابد له من تضحيات، وصدق أمير الشعراء، حينما قال:

وللحرية الحمراء باب     بكل يد مضرَّجة يدق!

كان يننبغي أن نقول الحق، وأن نصور الواقع على حقيقته، كيف لا، والله تعالى يقول: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [ الأنعام:152].

كان ينبغي ألا نسوي القاتل بالمقتول، والظالم بالمظلوم، والجلاد بالضحية.

هذا الحديث لا يستدل به هنا يا شيخ الأزهر، هذا الحديث يقال لفئتين متكافئتين ، متقاتلتين، يشهر كل منهما السلاح في وجه صاحبه، أما هنا فالقتلة  ظالمون فجرة، والمقتولون شهداء بررة.

(7) بيان شيخ الأزهر بعد محرقة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة

وبعد مذبحة رهيبة، ومقتلة عظيمة، ولغ فيها الانقلابيون في دماء الأحرار من أبناء مصر وحرائره، وقُتل فيها الآلاف من خيرة شبابه وفتياته، ورجاله ونسائه، في هجوم لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر القديم أو الوسيط أو الحديث، انقض هؤلاء المجرمون على اعتصامي (رابعة العدوية) والنهضة، كالضباع الضارية، لا يخافون خالقا، ولا يرحمون مخلوقا، بقلوب هي كالحجارة أو أشد قسوة، وتعاملوا مع المعتصمين العُزْل بطريقة وحشية؛ بل إننا نظلم الوحوش حينما نُشَبِّه هؤلاء المجرمين بهم.

لقد جاؤوهم من كل حدب وصوب، وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، وتذكرت وأنا أشاهد على شاشات الفضائيات الحرة، هذه الجريمة المنكرة، وتلك المجزرة البشعة، قول الله تعالى في سورة الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا  } [الأحزاب:10-11]

جاءوا مدججين بمختلف الأسلحة، معهم المدرعات، والرشاشات الخفيفة والثقيلة، وعندهم قنابل الغازات: الخانقة، والحارقة، والمسيلة للدموع. والقناصة يعتلون أسطح المباني المجاورة للاعتصام، يطلقون النيران الحية على المعتصمين في كل مكان، وشاركت الطائرات العسكرية في هذه الجريمة فأخذت تصول وتجول، وتطلق رصاصاتها القاتلة في رقاب المعتصمين ورؤوسهم، في حين سلم الصهاينة من هؤلاء الجنود، فلم توجه نحوهم طلقة واحدة، منذ أربعين عاما، وهذا ما ذكرني بقول عمران بن حطان الخارجي يهجو الحجاج الثقفي:

أسَدٌ عليَّ وفي الحروبِ نعامةٌ      فتخاءُ تنفرُ من صفيرِ الصَّافرِ!
هلَّا برزتَ إلى غزالةَ في الوغَى    أم كان قلبُك فِي جَناحَيْ طائرِ؟!

شاهد العالم كله صورا تدمي القلوب، وتمزق الأكباد، وتبكي الأعين، ونحن نرى رؤوسا تتفجر، ووجوها تتمزق، وأبدانا تتحرق، ولا يشفي هذا غليل الظالمين، بل يظل سُعارهم يشتد طلبا لمزيد من الدماء، ورغبة في إيقاع لكثير من الضحايا ، وكأن هؤلاء القتلى جرذان لا قيمة لها، أو حشرات لا فائدة منها، بينما تطالعنا التقارير أن من يقتلون في هذه المجازر هم خيرة شباب مصر، ورواد نهضتها من أهل العلم والفكر والرأي، منهم علماء الأزهر ، ومنهم الأطباء، ومنهم المهندسون، ومنهم المعلمون، ومنهم المحامون، ومنهم العلميون، ومنهم كافة طبقات المجتمع وشرائحه.

وفي هذا الحدث الجلل، والمصيبة الكبرى يخرج علينا شيخ الأزهر بقوله:

إن "الأزهر الشريف وهو يسعى إلى جمع أطراف الصراع السياسي على مائدة حوار جادة مخلصة للوصول إلى حل سلمي للخروج من الأزمة الراهنة، لَيُؤكِّدُ على حُرمة الدماء، ويأسف لوقوع عدد من الضحايا صباح اليوم، ويترحَّم عليهم، ويعزي أسرهم.

ويكرر الأزهر تحذيره من استخدام العنف، وإراقة الدماء، ويذكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون عند الله من دم امرئ مسلم".

لا يزال الأزهر على موقفه، من أن استخدام العنف لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحلول السياسية، وأنَّ الحوار العاجل والجاد، هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة، إذا صدقت النوايا.

هذا، ويدعو الأزهر جميع الأطراف إلى ضبط النفس وتغليب صوت الحكمة والعقل، والحفاظ على الدماء الزكية بكل السبل، والاستجابة إلى الجهود الوطنية للحوار لتحقيق المصالحة الشاملة"

وإيضاحًا للحقائق وإبراءً للذمة أمام الله والوطن، يُعلن الأزهر للمصريين جميعًا أنه لم يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام، ويُطالب بالكف عن محاولات إقحامه في الصراع السياسي".

تعقيب:

أهذا كل ما خطر لك أن تقوله يا شيخ الأزهر، بعد هذه المذبحة الهائلة المروعة، التي لم ترَ مصر ولا غيرها من البلاد العربية لها مثيلا، بعد فض اعتصامي (رابعة) و (النهضة) بالقوة، وأن جمعت السلطة الحاكمة للمعتصمين كل أدوات القوة اللازمة، من الجيش والشرطة، وقوات الأمن المركزي، والبلطجية المسلحين، والقناصة الذين يرمون المعتصمين العُزْل من كل سلاح، من فوق المباني العسكرية، الذين يصورون بالآلات المكبرة، ثم يطلقون الرصاص على أشخاص معينين، ينتقونهم، وهم يمضغون اللبان. بالإضافة إلى طائرات (الهليوكوبتر) التي تطير  في إطار منخفض، بحيث تضرب من فوق أشخاصا وفئات تختارهم، لا تخاف من الله، ولا تستحيي من الناس.

لقد كانت الحصيلة يا شيخ الأزهر من هذه المقتلة من هذه الفئات، من عشرات الآلاف، ومئات الآلاف المسالمة، التي تربت على الخشوع والقنوت، والصيام والقيام، في حر الشمس، ومشقة الصيام، في شهري يوليو وأغسطس، وعلى صلاة التراويح بجزء من القرآن، وعلى صلاة التهجد، وعلى الأخوة والحب والإيثار، حتى انتهى شهر رمضان، إلى أكثر من خمسة وأربعين يوما، قضاها هؤلاء الصائمون القائمون، الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، الحافظون لحدود الله.

وقد شهد الجميع – مصريون وأجانب- أنهم سلميون مسالمون، لا يملكون إلا حناجرهم، وليس مع أحد منهم بندقية، ولا مسدس، ولا سيف، ولا سكين، ولا عصا، ولا حجر.

لقد تقدموا بصدورهم العارية للرصاص الحي، وهم يهتفون: كلنا يبغي الشهادة، نبتغيها للسعادة، { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]

وكانت الحصيلة من الشهداء والجرحى آلافا مؤلفة، ممن ضُربوا في رؤوسهم، أو في رقابهم، أو في بطونهم، وليسوا كما هونتهم بقولك (عدد من الضحايا) !!

فهذا أعجب ما أسمع من شيخ الأزهر، الذي خذل هؤلاء الأحرار بوقوفه في معسكر الانقلابيين، ثم يبخل على شهدائهم بلقب الشهادة، ويتحدث عنهم بلفظ ( الضحايا). هؤلاء شهداء يا شيخ الأزهر، وإن أبيت، وهذا وصف ثابت لهم في السنة النبوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قال إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".[1]

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:" من قتل دون ماله فهو شهيد".[2]

وروى أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وغيرهم، عن سعيد بن زيد، مرفوعا: " ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد".[3]

ولا أرى قوما قاموا يدافعون عن دينهم وحريتهم، وحقوقهم ومكتسباتهم، وأعراضهم ودمائهم ، أحق بالشهادة من هؤلاء.

وتدعو الجميع إلى الاجتماع على مائدة للحوار، كيف يجتمع المقتول مع القاتل؟! وكيف يجتمع الضحية مع الجلاد؟! وكيف يُقَرُّ المغتصب المعتدي على اغتصابه وعدوانه؟!

يا شيخ الأزهر، إن الحوار مع القتلة الظلمة المغتصبين للسلطة، الذين يسلطون الجيش والشرطة والقناصة والطائرات والبلطجية على الشعب : لا يستقيم أبدا!!

كن قويا يا شيخ الأزهر، وأعلن براءتك من هؤلاء، فهم أضعف وأجبن، وأذل وأهون، من أن يفعلوا بك شيئا.

لا معنى لحوار تدعو إليه، طرفه جانب واحد، ولا وجود للطرف الثاني.

وتدعو يا شيخ الأزهر ( جميع الأطراف إلى ضبط النفس، وتغليب صوت الحكمة والعقل، والحفاظ على الدماء الزكية بكل السبل) وهل الطرف المقتول يُدعى إلى مثل هذا؟!

هل تجرؤ أن توجه هذا الكلام إلى الطرف المتجبر في الأرض، المستكبر بغير الحق، الذي يستخدم قواته المسلحة - التي صار لها أربعون سنة، لم تحارب – لتقتل المصريين الأحرار، بدل أن ترد على مظالم الصهاينة، واستهانتهم بدماء المصريين.

ويختتم قوله: بأن الأزهر لم يكن له علم بقرار فض الاعتصام، ظانا بذلك أنه يخلي مسؤوليته من دماء المسلمين الزكية، وأرواحهم الطاهرة.

أقول لشيخ الأزهر: والله إن دماءهم في رقبتك، وإن أرواحهم تتعلق بك يوم القيامة، وتحاجك أمام الله، إن دماء الشهداء، وبكاء اليتامى، وأنين الثكالى: ستطاردك في صباحك ومسائك، وفي يقظتك ونومك، وفي حياتك وآخرتك!

إن رغبتك في الانسحاب من المشهد السياسي، لا يبرئك بعد أن كنت ركنا ركينا، وعضوا أصيلا في هذا الانقلاب!

ولمَ لم تقل قبل ذلك للسيسي ألا يدخل الأزهر في أتون السياسة، بعد أن وقفت بجواره، وآزرته في فعلته، وقويته في جريمته، ونصرته في باطله؟!

إن توبتك مما صنعت في حق الدين والوطن، وفي حق الحاضر والمستقبل، لن تقبل بالانسحاب والصمت .. لن تقبل توبتك إلا أن تعلنها صريحة أنك أخطأت في حق الشعب، وأن تقول للظالم: يا ظالم. وللقاتل: يا قاتل. وأن تشد من عضد المظلومين، وأن تقوي ظهورهم، وأن تقف إلى جوار الحق مرة، بعد أن انغمست في الباطل مرات!!

إننا نريدك يا شيخ الأزهر أن تكون مع الشرعية، ولا تكون مع المغتصبين، الذين لم يحكموا كتابا ولا سنة، وأن تقف مع الشعب الأعزل، الذي ليس في يده سلاح إلا الإيمان بالله، والتوكل عليه، والدعاء له أن ينتقم من الظالمين، وينزل بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأن ينصر عباده المؤمنين المضطهدين، الذين يفتنون في دينهم، ويمتحنون في وطنيتهم، { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [ البقرة:191] { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ  } [البقرة:217 ] { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء:227 ] { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة:144 ] (يتبع)

ــــــــــ

[1] رواه الطبراني في الأوسط (4079)، والحاكم في المستدرك (4884)، عن جابر بن عبد الله. وصححه الألباني في الصحيحة (374 ).

[2] رواه البخاري في  المظالم (2480)، ومسلم في الإيمان ( 141).

[3] رواه أحمد في مسنده (1652)، وأبو داود في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، وقال: حسن صحيح. والنسائي في تحريم الدم (4095)، عن سعيد بن زيد.