السؤال: نحن طلاب في الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالامبور بماليزيا، تلك الجامعة التي طالما سعدت بحضوركم ومحاضراتكم، ولقائكم بطلابها وأساتذتها، ونحن ندرس في "كلية الوحي والمعارف الإنسانية" ونتتلمذ كثيرا على كتبكم التي نعتبرها من أهم مراجعنا لفهم الإسلام عقيدة وشريعة وحضارة، وكذلك فهم واقع الأمة وما تحتاج إليه من تجديد وإصلاح.
وكنا من قريب نتدارس في علم الحديث، وما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وأثير في مجلسنا حديث أخذ جدلا طويلا، فأكثرنا يرفضه، وأقلنا يحاول أن يلتمس طريقا لقبوله، ووجدنا الأقدمين مختلفين كما اختلفنا، وهذا الحديث هو "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، فاتفقنا على أن نكتب إليك، لتفيدنا بعلمك، وتبصرنا بما تراه، وقد تعلمنا منك أمرين هامين:
الأول: ألا نقبل قولا إلا بدليل، ولا دعوى بغير برهان، ولابد أن يكون الدليل قويًا سالمًا من المعارض الشرعي والعقلي.
الثاني: الاعتدال والإنصاف حتى مع الخصوم والمخالفين، كما هو المنهج الإسلامي.
نرجو ألا تضن علينا بالكتابة بما يشفى صدورنا، وتطمئن به قلوبنا، وألا تشغلك المشاغل الكثيرة عن أجابتنا. داعين الله تعالى أن يمد في عمرك، ويبارك في وقتك، وينفع أمة الإسلام بعلمك، ويجعلك من العلماء الربانيين المقبولين. إنه سميع مجيب.
مجموعة من طلبة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
عنهم إبراهيم ع. ر
مرحلة الماجستير
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فيسرني أن أشكر لأبنائي وإخواني من طلبة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، التي أكن لها كل حب وتقدير، وطالما زرتها وحاضرت فيها.
حقائق مسلمة:
وأود أن أقرر هنا في بداية إجابتي جملة حقائق لا خلاف عليها، أو لا ينبغي أن يختلف عليها اثنان.
الأولى: أن فضل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنزلته في الإسلام من أول يوم؛ من الأمور المتفق عليها، ولا يخالف فيها مسلم قط، لا شيعي ولا سني. فهو ابن الإسلام البكر، وفارس الإسلام، وزوج فاطمة البتول، وابن عم الرسول.
الثانية: أن منزلته رضي الله عنه في العلم والحكمة والبيان لا يماري فيها أحد، وقد روي عنه من ذلك كثير، وإن اختلط فيه الحق بالباطل، والصحيح بالسقيم.
ولابد من فرز ذلك وتمييزه بعضه من بعض، فلا يرفض كله، ولا يقبل كله. وعندنا -نحن المسلمين- المعايير المنهجية التي تميزت بها أمتنا لنقد المرويات، ومعرفة مقبولها من مردودها. وأعتقد أن الصحيح والمقبول من علم سيدنا علي وحكمته شيء كثير.
الثالثة: أن ثبوت منزلة علي وفضله في العلم، لا يتعارض مع ثبوت فضل إخوانه من الصحابة رضي الله عنهم جميعا، فربما كان منهم من يساويه، وربما كان منهم من يفضله، كما نرى ذلك في واقع الأمر، فهناك في باب الرواية من الصحابة من رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أضعاف ما روى علي رضي الله عنه، وخصوصا السبعة المكثرين: أبو هريرة، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وجابر، وأبو سعيد الخدري.
وفي باب الدراية والفتوى، رأينا منهم من هو أكثر منه فتوى، مثل عمر وابن مسعود وابن عباس وغيرهم.
الرابعة: أن دخول المبالغات والتهويلات في بيان فضائل الأشخاص، أو ذم خصومهم، هو الذي يفسد الحقائق الكبيرة في العلم وفي الدين وفي الحياة؛ ولذا يجب الحذر منها، والوقوف عند حد الاعتدال، والبعد عن الغلو والتفريط، الذي وقع فيه - للأسف- الشيعة وخصومهم.
الخامسة: أن "الهوى المتبع" من المهلكات التي ورد التحذير منها، وكذلك "العصبية العمياء" لقبيلة أو لحزب أو لفئة أو لشخص؛ من المهاوي السحيقة التي مزقت شمل الأمة الواحدة المجتمعة على العقيدة والشريعة والقبلة، لتصبح أمما يعادي بعضها بعضا، بل يقاتل بعضها بعضا، وقد أدت هذه العصبية إلى الكذب والاختلاق لنصرة من يتعصب له، أو من يتعصب ضده.
وفي ضوء هذه الحقائق المسلمة ننظر إلى مقام سيدنا وحبيبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفضله وجهاده وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصاهرته له، فنضعه في المكانة التي تليق به، ولا نبخسه حقه، ونترضى عليه، ونزيده عن غيره من الصحابة فنقول: كرم الله وجهه.
وقد أغناه الله تعالى بالحق الثابت في مدحه والثناء عليه، عن اللجوء إلى الباطل في تعداد فضائله ومزاياه.
وفي هذا السياق جاء حديث "أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب" أو "أنا دار الحكمة"، والحديث بوجهيه لم يروه أحد أصحاب الكتب المعتمدة، لا الصحيحان، ولا أصحاب الكتب الستة، ما عدا الترمذي الذي رواه عن علي بلفظ:" أنا دار الحكمة وعلي بابها" ثم قال: هذا حديث غريب منكر (1) فبين درجته عنده.
ولم يروه مالك في الموطأ، ولا أحمد في المسند، ولا أحد ممن التزم رواية الصحيح مثل: ابن خزيمة، وابن حبان.
بل قال ابن حبان في كتابه المجروحين (2/ 94): هذا خبر لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شريك حدث به، ولا سلمة بن كهيل رواه، ولا الصنابحي أسنده!
ولم يصححه أحد من أئمة الحديث غير الحاكم في مستدركه، وهو معروف بالتساهل وسعة الخطو في التصحيح كما ذكر المحققون.
وقد رواه في المستدرك بسنده عن ابن عباس بلفظ: "أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب" وقال: صحيح الإسناد، وأبو الصلت - راويه - ثقة مأمون. قال الذهبي في تلخيصه: "بل موضوع! قال: وأبو الصلت ثقة مأمون. قلت: لا والله لا ثقة ولا مأمون (2).
وقال الذهبي عن "أبي الصلت" هذا في كتابه "الضعفاء والمتروكين": اتهمه بالكذب غير واحد، قال أبو زرعة: لم يكن ثقة. وقال ابن عدي: متهم. وقال غيره: رافضي.
وقال الحافظ في التقريب: صدوق له مناكير، وكان يتشيع، وأفرط العقيلي فقال: كذاب. أ هـ.
وقد اضطرب قول ابن معين فيه على وجوه، ذكرها العلامة الألباني في سلسلة الضعيفة والموضوعة في الكلام على حديث "أنا مدينة العلم" رقم (2955).
وقد ذكر له الحاكم شاهدا من حديث جابر، من طريق أحمد بن عبد الله بن يزيد الحراني.
وعقب عليه الذهبي قائلا: العجب من الحاكم وجرأته في تصحيح هذا وأمثاله من البواطيل، وأحمد هذا دجال كذاب (3).
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وبين أن طرقه كلها موضوعة (1/ 439).
وكذلك القزويني ذكر أنه موضوع.
وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا فيه.
وقال أبو حاتم ويحي بن سعيد: لا أصل له.
ونقل السخاوي في المقاصد الحسنة: عن الدارقطني في العلل: أنه حديث مضطرب غير ثابت.
ونقل الخطيب في تاريخ بغداد عن يحي بن معين أنه قال: كذب لا أصل له.
وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد، بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وهو مشعر بتوقفه فيما ذهبوا إليه من الحكم بكذبه.
دفاع الحافظ العلائي عن الحديث:
بل صرح العلائي بالتوقف في الحكم عليه بذلك، فقال: وعندي فيه نظر، ثم بين ما يشهد لكون أبي معاوية راوي حديث ابن عباس حدث به، فزال المحذور ممن هو دونه، قال: وأبو معاوية ثقة حافظ محتج بأفراده كابن عيينة وغيره، فمن حكم على الحديث مع ذلك بالكذب، فقد أخطأ، قال: وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو كحديث: أرحم أمتي بأمتي (أي أبو بكر) وهو صنيع معتمد، فليس هذا الحديث بكذب، خصوصاً وقد أخرج الديلمي في مسنده بسند ضعيف جداً، عن ابن عمر مرفوعاً: "علي بن أبي طالب باب حطه، فمن دخل فيه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً"
ومن حديث أبي ذر رفعه: "عليّ باب علي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي، حبه إيمان، وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة"
ومن حديث ابن عباس رفعه: "أنا ميزان العلم، وعلي كفتاه، والحسن والحسين خيوطه .. " الحديث.
وأورد صاحب الفردوس وتبعه ابنه المذكور بلا إسناد عن ابن مسعود رفعه: أنا مدينة العلم، وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعلى بابها!
وعن أنس مرفوعاً: أنا مدينة العلم، وعلي بابها، ومعاوية حلقتها!
وبالجملة فكلها ضعيفة، وألفاظ أكثرها ركيكة، وأحسنها حديث ابن عباس، بل هو حسن، وقد روى الترمذي أيضاً والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث حبشي بن جنادة مرفوعاً: علي مني، وأنا من علي؛ لا يؤدي عني إلا أنا أو علي.
قال السخاوي: وليس في هذا كله ما يقدح في إجماع أهل السنة، من الصحابة والتابعين؛ فمن بعدهم على أن أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، أبو بكر؛ ثم عمر رضي الله عنهما؛ وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؛ وعمر وعثمان؛ فيسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينكره. بل ثبت عن علي نفسه أنه قال: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر؛ ثم عمر؛ ثم رجل آخر؛ فقال له ابنه محمد بن الحنفية؛ ثم أنت يا أبت. فكان يقول: ما أبوك إلا رجل من المسلمين: رضي الله عنهم. وعن سائر الصحابة أجمعين (4).
مناقشة الحافظ العلائي في تصحيح الحديث:
ومن حقنا أن نناقش الحافظ العلائي فيما ذهب إليه من الدفاع عن الحديث، وأنه لا يصل إلى مرتبة الموضوع، فإنه من أفراد أبي معاوية الضرير، ومثله يقبل ما انفرد به. وهنا نذكر جملة نقاط:
الأولى: أن ما تفرد به الثقة من زيادة في حديث يعتبر شاذا بمجرد خلافه لمن هو أوثق منه، فكيف إذا خالف كل الثقات في عصره، وانفرد بحديث دونهم.
الثانية: أنهم قالوا عن أبي معاوية أنه كان يروي هذا الحديث قديما، ثم كف عنه، ولم يعد يرويه.
الثالثة: ما قاله العلائي من أن الحديث ليس من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو كحديث "أرحم أمتي بأمتي (أبو بكر)": قول غير مسلم، فمتن الحديث يتضمن مقولة غير مقبولة شرعاً وواقعا لمن يحسن تدبره، ويتأمل في ألفاظه. وقد جلى ذلك بأوضح بيان: شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي عرض للحديث في كتابه الشهير "منهاج السنة النبوية" بعد أن ضعف حديثا قبله في مناقب علي، ثم قال: وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها أضعف و أوهى. ولهذا إنما يعد في الموضوعات، وإن رواه الترمذي.
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين أن سائر طرقه موضوعة. والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، و لم يبلغ عنه العلم إلا واحد، فسد أمر الإسلام.
ولهذا اتفق المسلمون على أنه لايجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.
وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن اكثر الناس فلا يحصل لهم العلم بالقران والسنن المتواترة.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فان جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فان هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا. وإنما كان غالب علمه في الكوفة ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلا عن علي.
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي. ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي. وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل. ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا، وهو وعبيدة السلماني تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة (5).
وقد رووا أن عليا رضي الله عنه لما قدم الكوفة وجد فيها عددا من تلاميذ ابن مسعود من الفقهاء الذين يؤخذ عنهم العلم، فقال: رحم الله ابن أم عبد. لقد ملأ هذه القرية علما!
أقوال أهل الجرح والتعديل في أبي الصلت:
ومن واجبنا هنا أن نستكمل البحث ببيان حقيقة أبي الصلت ومنزلته من العدالة والصدق والضبط عند علماء الجرح والتعديل. الذين هم المرجع في تقييم الرجال.
وقد ذكر الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي المتوفى (236هـ) - وهو العمدة في رواية الحديث" أنا مدينة العلم" عند الحاكم- أخبارا وفيرة تكشف لنا كثيرا من شخصيته واتجاهه.
من ذلك ما نقله من طريق الخطيب البغدادي عن أبي بكر المرّوذي: سئل أبو عبد الله (يعنى أحمد بن حنبل) عن أبي الصلت، فقال: روى أحاديث مناكير. مثل" أنا مدينة العلم وعلي بابها "قال: ما سمعنا بهذا.
قيل له: هذا الذي ينكر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به.
روى عن عبد الرزاق أحاديث (6) لا نعرفها ولم نسمعها.
قيل لأبي عبد الله: قد كان عند عبد الرزاق من هذه الأحاديث الرديئة؟ قال: لم أسمع منها شيئا.
وقال عمر بن الحسن بن علي بن مالك، عن أبيه: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ثقة صدوق إلا أنه يتشيع.
وقال إبراهيم بن عبدالله بن الجنيد: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: قد سمع وما أعرفه بالكذب.
قلت: فحديث الاعمش عن مجاهد، عن ابن عباس؟ فقال: ما سمعت به قط، وما بلغني إلا عنه.
وقال مرة أخرى: سمعت يحيى وذكر أبا الصلت الهروي.
فقال: لم يكن أبو الصلت عندنا من أهل الكذب، وهذه الاحاديث التي يرويها ما نعرفها.
وقال عبد الخالق بن منصور: سألت يحيى بن معين عن
أبي الصلت، فقال: ما أعرفه.
فقلت: إنه يروي حديث الاعمش عن مجاهد، عن ابن عباس "أنا مدينة العالم وعلي بابها "فقال: ما هذا الحديث بشئ.
قال الحافظ أبو بكر بن ثابت (يعني: الخطيب البغدادي): أحسب عبد الخالق سأل يحيى عن حال أبي الصلت قديما ولم يكن يحيى إذ ذاك يعرفه، ثم عرفه بعد فأجاب إبراهيم بن الجنيد عن حاله.
وأما حديث الاعمش فإن أبا الصلت كان يرويه عنه، فانكره أحمد بن حبل ويحيى بن معين من حديث أبي معاوية، ثم بحث يحى عنه، فوجد غير أبي الصلت قد رواه عن أبي معاوية.
وقال عباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت عبد السلام بن صالح، فقلت، أو قيل له: إنه حدث عن أبي معاوية، عن الأعمش "أنا مدينة العلم وعلي بابها" فقال، ما تريدون من هذا المسكين، أليس قد حدث به محمدد بن جعفر الفيدي، عن أبي معاوية، هذا أو نحوه.
وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي، فقال: ليس ممن يكذب.
فقيل له في حديث أبي معاوية عن الاعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: "أنا مدينة العلم وعلى بابها"، فقال: هو من حديث أبي معاوية أخبرني ابن نمير، قال: حدث به أبو معاوية قديما ثم كف عنه.
وكان أبو الصلت رجلا موسرا يطلب هذه الاحاديث ويكرم المشايخ، وكانوا يحدثونه بها.
وقال عبد المؤمن بن خلف النسفي: سألت أبا علي صالح بن محمد عن أبي الصلت الهروي، فقال: رأيت يحيى بن معين يحسن القول فيه، ورأيت يحى بن معين عنده وسئل عن الحديث الذي روى عن أبي معاوية، حديث علي: "مدينة العلم" فقال: رواه أيضا الفيدي.
قلت: ما اسمه؟ قال: محمد بن جعفر.
وقال زكريا بن حيى الساجي: يحدث بمناكير، هو عندهم ضعيف.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لم يكن عندي بصدوق، وهو ضعيف، ولم يحدثني عنه.
وأما أبو زرعة فأمر ان يضرب على حديث أبي الصلت، وقال: لا أحدث عنه ولا أرضاه.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان أبو الصلت الهروي زائغا عن الحق، مائلا عن القصد، سمعت من حادثني عن بعض الائمة أنه قال فيه: هو أكذب من روث حمار الدجال. وكان قديما متلوثا في الاقذار.
وقال أبو أحمد بن عدي: له أحاديث مناكير في فضل أهل البيت وهو متهم فيها.
وقال أبو بكر البرقاني: عن أبي الحسن الدارقطني، كان رافضيا خبيثا. قال لي دعلج: إنه سمع أبا سعد الهروي الزاهد وقيل له، ما تقول في في عبد السام بن صالح؟ فقال: نعيم بن الهيصم ثقة.
فقيل: إنما سألتك عن عبد السلام؟ فقال: نعيم ثقة.
لم يزد على هذا.
قال أبو الحسن: وروي عن جعفر بن محمد الحديث، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الايمان إقرار بالقول، وعمل بالجوارح ... " (7).
وهو متهم بوضعه لم يحدث به إلا من سرقه منه، فهو الابتداء في هذا الحديث.
قال أبو بكر البَرقاني: وحكي لنا أبو الحسن أنه سمع يقول: كلب للعلوية خير من جميع بني أمية.
فقيل: فيهم عثمان؟ فقال: فيهم عثمان (8). انتهى (9).
وأعتقد أن رجلا قيل فيه كل هذا من أئمة كبار؛ ليس أهلا لأن يؤخذ منه حديث مثل الحديث الذي معنا: "أنا مدينة العلم... ".
بين المتقدمين والمتأخرين:
والناظر في تراثنا العلمي - وبخاصة التراث الحديثي الضخم- يجد فرقا شاسعاً بين النظرة النقدية عند المتقدمين، وبين النظرة النقدية عند المتأخرين. فالمتقدمون مثل الإمام أحمد، وابن معين، وابن مهدي، وابن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وأبي زرعة، ويحي القطان، والدارقطني، وابن حبان، وأمثالهم؛ لا يتحرجون من رد الحديث إذا لم يستجمع شروط الصحة، ولا يتأثمون من حكم عليه بالوضع أو البطلان أو الإنكار (أي قولهم: منكر) أو غير ذلك من العبارات. ومثل هؤلاء من جاء بعد ذلك من المحققين أمثال: ابن الجوزي، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن كثير وأمثالهم.
على حين نجد المتأخرين ممن جاءوا بعد ذلك يعز عليهم أن يحكموا على حديث بالوضع والافتراء، أو بأنه باطل، أو لا أصل له، إلى غير ذلك من العبارات القوية المعبرة، ويتحاملون على تقوية هذا النوع من الأحاديث بتعدد الطرق التي قالوا: إنها يقوى بعضها بعضا، لينتقلوا بالحديث من مرتبة ضعيف جدا، أو واهٍ، أو موضوع مكذوب إلى درجة حسن لغيره، أو على الأقل درجة ضعيف لا مكذوب.
ومن هؤلاء: الحافظ الكبير، شيخ الإسلام في عصره، وفخر المحدثين، الذي يعبر عنه كثيرون بأنه "خاتمة الحفاظ" وهو العلامة الشهير: الحافظ بن حجر العسقلاني؛ شارح البخاري، وصاحب الكتب التي شرقت وغربت، والذي لا يرتاب عالم في غزارة علمه، وسعة اطلاعه، ونزاهته وإخلاصه.
وبعده الحافظ السيوطي، ومعاصره الحافظ السخاوي، وغيرهم من الحفاظ الذين شغلوا بالحديث وعلومه ومصادره، وكان كل واحد منهم كأنه مكتبة متنقلة في علوم الحديث.
ويبدو أن ملكة الحفظ الهائلة أثرت على ملكة النقد، فغلب عليهم تمشية بعض الأحاديث التي كان يرفضها مِن قَبلِهم أو يرفض مثلها الإئمة النقاد.
فهؤلاء من الصعب عليهم أن يحكموا على حديث بالوضع أو البطلان، بل هو يحاولون أن يجدوا له مخرجا ينقله إلى درجة الضعيف، بل الحسن المحتج به، ولو حسنا لغيره.
ومطيتهم الذلولة في ذلك تعدد طرق الحديث، التي يأخذون منها أن للحديث أصلاً، وهذا ليس دائما مسلماً.
وآخر دعوانا أن ا لحمد لله رب العالمين
................
* من كتاب "فتاوى معاصرة" لفضيلة الشيخ.
(1) رواه الترمذي في المناقب (3723).
(2) رواه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/ 137).
(3) رواه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/ 137).
(4) المقاصد الحسنة (1/ 54).
(5) (7/ 515 - 517).
(6) في الأصل (واحدا) ويبدو أنها محرفة عن كلمة (أحاديث) كما يبدو من السياق.
(7) رواه البيهقي في الشعب (1/ 48) عن علي.
(8) قال محققوه: وقال العقيلي: رافضي خبيث (ضعفاؤه: الورقة 129). وقال ابن حبان: يروي عن حماد بن زيد وأهل العراق العجائب في فضائل علي وأهل بيته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد (المجروحين: 2/ 151).
وقال أبو نعيم الاصبهاني: يروي أحاديث مناكير (ضعفاؤه: الترجمة 40).
وقال مسلمة عن العقيلي: كذاب.
وقال الحاكم والنقاش: روى مناكير.
وقال محمد بن طاهر: كذاب (تهذيب التهذيب: 6/ 321 - 322).
ونقل ابن حجر في "التهذيب" أن الآجري قال عن أبي داود: كان ضابطا ورأيت ابن معين عنده.
قلت: كذا قال ابن حجر وما أظنه إلا واهما، فقول الآجري إنما هو في عبد السلام بن مطهر (سؤالات الآجري: 5 / الورقة 8).
(9) تهذيب الكمال (7/ 77 - 81).