الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
(أما بعد)
فإن التطرف آفة خطيرة على الفرد، وعلى المجتمع، وعلى البشرية كلها سواء كان تطرفا في الدين أم متطرفا في الدنيا، أي تطرفا ضد الدين. وإن كان معظم الذين يتحدثون عن التطرف في عصرنا يكادون يخصونه بالتطرف الديني، في حين أن هناك تطرفا لا دينيا أشد منه خطرا، وأبعد أثرا، وأعظم شررا. وكثيرا ما يكون هذا التطرف اللاديني هو المُولِّد الأول للتطرف الديني.
والإسلام أعظم دين رفض التطرف، وإن لم يسمه بهذا الاسم، ولكن الاعتبار ليس بالأسماء والعناوين، بل بالمسميات والمضامين.
والتطرف في الإسلام يقع تحت جملة عناوين:
أولها: عنوان (الغلو) وفيه جاء حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"[1].
ثانيها: عنوان (التنطع) وفيه جاء حديث ابن مسعود في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هلك المتنطعون". قالها ثلاثا[2].
والمتنطعون هم: المتعمقون المبالغون، الخارجون عن حد الوسط.
ثالثها: (التشديد) كما جاء في حديث أنس مرفوعا عند أبي يعلى: "ولا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم"[3]. وجاء هذا المعنى من حديث سهل بن حنيف أيضا[4].
وفي حديث أبو هريرة عن البخاري: "لن يشاد الدين أحد إلا غلبه"[5].
ورابعها: (التعسير) فقد روى الشيخان عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"[6] ورويا أنه أرسل أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، وأوصاهما بهذه الوصية الجامعة: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا"[7] أي: لا تختلفا.
وخامسها: (التنفير) كما جاء في الحديثين السابقين، والغالب أن يكون التعسير في مجال الفقه والفتوى، والتنفير في مجال التبليغ والدعوة.
والإسلام يريد للمسلم – كما يريد للأمة- أن ينهج المنهج الوسط، بعيد عن الإفراط والتفريط، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن:7-9]، فهذا هو المطلوب: لا طغيان في الميزان، ولا إخسار في الميزان. بل توسط واعتدال.
وقال تعالى في الثناء على الأمة الإسلامية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143].
والوسطية كما تعني الخيرية، تعني التوازن والاعتدال أيضا.
وقال الإمام علي كرم الله وجهه: عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرد إليه الغالي.
وقال الحسن البصري: هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
وأصل التطرف أن يكون في الفكر، ولكنه كثيرا ما يؤدي إلى العنف، واستحلال حرمات المخالفين له، ومن هنا ارتبط التطرف بالعنف في أذهان الكثيرين، مع أنه لا تلازم بينهما.
وقد ابتليت أمتنا من قديم بالغلاة من الخوارج، الذين استحلوا دماء المسلمين الآخرين وأموالهم، من كل لا يرى رأيهم، حتى كفروا ابن الإسلام البكر: علي بن أبي طالب، وقاتلوه، ثم قتلوه غيلة وغدرا، متقربين إلى الله بسفك دمه الطاهر رضي الله عنه، حتى قال شاعرهم في مدح قاتله، ويا لشناعة ما قال:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوان
إني لأذكره يوما فأحسـبه أوفى البرية عند الله ميـــزانا
كان هؤلاء من المتعبدين المكثرين للصيام والقيام وتلاوة القرآن، حتى قال فيهم الحديث الصحيح: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"[8]
بين الحديث الشريف أن آفة هؤلاء ليست في ضمائرهم، إنما آفتهم في عقولهم، فهم يقرءون القرآن، ولكنها قراءة لا تتجاوز الحناجر، لتدخل إلى العقول لتفهم، والقلوب لتستبصر، وفي حديث آخر وصفهم بأنهم "يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام"!!
وفي عصرنا ابتليت أمتنا بأصناف من الغلاة ورثوا غلو الخوارج القديم، ربما كان لدى بعضهم إخلاص الخوارج، مع سوء فقههم، وربما لم يكن عند آخرين منهم إلا الدعاوى العريضة ولا فقه ولا إخلاص، لا يحملون عقلا ذكيا، ولا قلبا نقيا. وإنما هم مغرورون غرتهم أنفسهم، وغرتهم الأماني، وغرهم بالله الغرور، وإذا اجتمع الجهل والغرور كانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
ولقد تصدى صديقنا العزيز الدكتور عمر عبد الله كامل، لتعقب هؤلاء الغلاة أو المتطرفين وتفنيد شبهاتهم، والرد على دعاويهم الباطلة.
وقد أوتي الدكتور عمر قلما سيالا، جنَّده لنصرة الحق كما يراه، ولفضح الباطل وبيان زيفه، فقد رد على غلاة العلمانيين، مثل سعيد العشماوي، ونصر حامد أبو زيد، وأمثالهم.
ولقد شغلتُ منذ نحو ربع قرن، بما شغل به الدكتور عمر كامل الآن، أي بالوقوف في وجه التطرف والمتطرفين، لما رأيتُ خطره على الدين والدنيا، وعلى الفرد والمجتمع.
وأصدرتُ في ذلك رسالتي (ظاهرة الغلو في التكفير) لمقاومة تلك الموجة العاتية التي برزت أول ما برزت في مصر، وسَرَت العدوى في غيرها بعد ذلك: موجة تكفير الناس بالجملة.
ثم أصدرتُ رسالة (صحوة الشباب المسلم: ظاهرة صحية يجب ترشيدها لا مقاومتها).
ثم أَصْدرتْ سلسلة (كتاب الأمة) كتابي (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) وهو يتحدث عن ظاهرة التطرف وعلاماته وأسبابه وعلاجه.
ثم ظهرت عدة كتب في ترشيد الصحوة، ومقاومة الغلو والتنطع، ولا غرو فالموضوع في غاية الخطورة، ويجب أن تتصدى له الأقلام الواعية المقتدرة على التصدي له ببصيرة وقوة من (أولي الأيدي والأبصار).
ولقد رأينا نتيجة الغلو فيما يجري في أرض الجزائر الحبيبة من دماء تسفك، وحرمات تهتك، وأبكار تغتصب، وأموال تنتهب، ومنشآت تدمر، وينسب هذا- واأسفاه- إلى الإسلام!.
ولهذه وقفت قلمي ولساني وفكري على الدعوة على الوسطية والاعتدال، ورفض الغلو والتفريط، سواء في مجال الفقه والفتوى، أم في مجال التبليغ والدعوة.
وقد قال الإمام الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو الذي يحمل الناس على العهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
هذا في مجال الفتوى.
وفي مجال الدعوة قال الإمام علي: ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟ من لم يوئس عباد الله من روح الله، ولم يؤمنهم من مكره.
أي يحملهم على الوسط، فلا يخوفهم حتى يقنطوا من رحمة الله، ولا يرجيهم حتى يأمنوا من مكر الله، وإنما يمزج الترغيب بالترهيب، والرجاء بالخوف، والوعد بالوعيد، حتى تتوازن في النفس كفتا الميزان: خوفا وطمعا، خشية ورجاء، كما وصف الله بعض عباده بأنهم {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57]، {يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِِ}[الزمر:9].
ولقد أحسن الدكتور عمر كامل في تحديد ما هو التطرف، فإن بعض الناس، يجعل من يصلي في المسجد متطرفا، ومن يطلق لحيته متطرفا، ومن تلتزم الحجاب – ناهيك بالنقاب- متطرفة!
والتطرف ظاهرة بشرية، فالإنسان إذا لم يعصمه منهج راشد من الله تعالى، مال إلى الإفراط أو التفريط. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72].
ومن هنا رأينا التطرف في كل الأديان، وفي سائر القارات، وليس مقصورا على المسلمين وحدهم، كما يزعم ذلك أعداء هذا الدين.
رأينا ذلك عند الأمريكان كما تجلى ذلك في حادثة أو كلاهما.
ورأيناه في الهند، كما تمثل ذلك في اغتيال أنديرا غاندي، وأبنها راجيف غاندي.
ورأينا ذلك في انجلترا، كما تبين كذلك في أعمال الجيش الجمهوري الأيرلندي.
ورأينا ذلك في اليابان، كما في أحداث الأنفاق، التي ارتكبها من يسمون: أنصار الحقيقة السامية.
ولسنا في حاجة على الحديث عن التطرف في إسرائيل، فهي أم التطرف، منذ عهد العصابات وإلى اليوم.
في الختام أسأل الله تعالى للدكتور عمر التوفيق والسداد، والثبات على الحق والخير، وان يرزقنا وإياه الوسطية والاعتدال في مقاومة التطرف، فلا نحارب التطرف بتطرف مثله، وان يجندنا وإياه في نصرة دينه، وإعلاء كلمته في الأرض، حتى يحقق الله وعده لهذه الأمة بالتمكين، ولهذا الدين بالظهور، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:32-33].
الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
2001م
..............
[1] رواه أحمد في المسند (1851) وقال مخرّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن الحصين فمن رجال مسلم، و النسائي في مناسك الحج (3057)، و ابن ماجه في المناسك (3029) عن ابن عباس.
[2] رواه مسلم في العلم (2670)، وأحمد في المسند (3655)، وأبو داود في السنة (4608) عن ابن مسعود.
[3] رواه أبو داوود في الأدب (4904) ، وأبو يعلى في مسنده (3694). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(6/256): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، وهو ثقة. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3468) عن أنس.
[4] مجمع الزوائد (1/62).
[5] رواه البخاري في الإيمان (38)، والنسائي في الإيمان(5034)، وابن حبان في الصدق (352) عن أبي هريرة.
[6] متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، كما رواه أحمد في المسند (12333) والنسائي في الكبرى كتاب العلم (5859) عن أنس.
[7] متفق عليه: رواه البخاري (3038)، ومسلم (1733) كلاهما في الجهاد، كما رواه أحمد (19742)، وأبو داود في الحدود (4355)، والنسائي (5595)، وابن ماجه (3391) كلاهما في الأشربة، عن أبي موسى الأشعري.
[8] متفق عليه: رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3344)، ومسلم في الزكاة(1064)، كما رواه احمد (11008)، وابن حبان في الاعتصام بالسنة (25)، عن أبي سعيد الخدري.