أحمد الله ربنا الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، معلم الناس الخير، وقائد الخلق إلى الحق، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه، إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فقد عرفت الأخ الدكتور عارف الشيخ شاعرا وكاتبا، وهو في شعره ونثره يصدر عن نبع فياض، غير متكلف ولا متصنع.

وشأنه - إذا شعر أو نثر - شأن حملة الرسالات، يوظف الكلمة في خدمة الرسالة الكبرى التي يحيا لها ويموت عليها، ويجاهد في سبيلها. وهي هنا رسالة الإسلام، التي منَّ الله بها على الناس أجمعين، وجعلها رحمة للعالمين، وأخرج بها البشرية من الظلمات إلى النور.

فإذا كان بعض الأدباء أو الشعراء، قد وظفوا أدبهم وشعرهم ومواهبهم في نصرة الباطل، أو كسب الدنيا، أو التطبيل في موكب النفاق، أو التسويق لدعاوى الفساد، فإن أخانا الدكتور عارفا، قد حماه الله تعالى من لوثات تلك الفتن، ومن أغراض تلك الأمراض، التي شكا منها أحد الشعراء قديما فقال:

ذهب الـذين يعاش في أكنافهم الـمنكرون لـكل أمــر منكر

وبقيت في خلْف يزين بعضهم بعضا، ليدفع مُعْـوِر عن مُعْوِر!

وكلما قرأت له مقالا في صحيفة، أو كتابا في قضية، وجدته على هذا النهج القويم، الذي اختطه لنفسه، لا يحيد عنه، ولا يرضى به بدلا، ولا يبغي عنه حِوَلا، لأنه نهج يبدأ بالدعوة إلى الله، وينتهي إلى مرضاة الله، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33].

وهذه المجموعة التي يسعدني أن أقدمها اليوم للقراء: باقة زهر في حديقة ذات بهجة، تتضمن نماذج بشرية شامخة، في الإيمان واليقين، وفي البذل والعطاء، وفي الحب والإيثار، وفي الصبر والمصابرة، وفي تقوى الله، ومكارم الأخلاق. نماذج رباها الإسلام في أحضانه، وغذاها من ألبانه، وسقاها من طاهر حِياضِه، فنمت وترعرعت على عشق الفضائل والمعالي، ورنت أعينها إلى القمم ترتقي إليها، لا إلى القيعان تهبط إليها، فكانوا نجوما يقتدى بهم فيهتدى.

جُلّ هؤلاء من الصحابة الكرام، الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لصحبة رسوله، ونصرة دعوته، فكانوا أعمق الناس علما، وأقلهم تكلفا، وأفقههم في دين، وأزهدهم في دنيا، يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، كما وصفهم الله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}[الفتح:29].

ولقد أحسن الكاتب باختيار نماذجه من غير المعروفين المشاهير من الصحابة رضي الله عنهم جميعا، فلم يخترهم من الخلفاء الراشدين، ولا من العشرة المبشرة بالجنة، ولا من الفاتحين البارزين مثل: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. لكنه اختار نماذج لا يعرفها العامة، عرفت بمواقف بطولية وأخلاقية مميزة، فأراد أن يبرزها بقلمه للناس، في صورة أدبية مشرقة، ليتعرف عليها القراء، ويتخذوا منها المثل والأسوة، بدل أن يبحث الناس عن مُثُل لهم من خارج تراثنا وحضارتنا ممن لا يبلغون مبلغ هؤلاء الغُر الميامين، ولا يدانونهم ولا يقارنون بهم، فأين الثريا وأين الثرى؟

ولله در الشاعر الذي قال:

إذا أنت فضلت امرءا ذا مكارم على ناقص كان الـمديح مـنقّصا

ألم تر أن السيف يزرى بقدره إذا قيل: هذا السيف أمضى من العصا!

ومما يحمد لكاتبنا الفاضل في عرضه لسير أبطاله: ما يذكره من فوائد لغوية نافعة، قصد بها أن يصل القراء بلغتهم العربية وبمعاجمهم التي أغفلوها، لهذا يبحث في كل اسم يعرضه عن معناه وأصله اللغوي، كما فعل في حديثه عن عياش بن أبي ربيعة، وأبي خيثمة، وجليبيب، وجرير البجلي، ومرثد الغنوي، وعُكَّاشة بن محصن وغيرهم. وهي لفتة تربوية لها دلالتها من رجل يعمل في حقل التربية.

ومما ينبغي أن ننوه به في اختيارات كاتبنا لنماذجه السامقة: أنه لم يقصره على الرجال وحدهم، بل جعل للمرأة نصيبا في مجموعته المختارة، فتحدث عن نسيبة بنت كعب، وخولة بنت مالك، وأروى بنت عبد المطلب، وأم سلمة رضي الله عنهن، وهذا توجه حسن ومقدور من الكاتب حفظه الله، وهو يدل على مبلغ وعيه، وسعة أفقه، وسداد رؤيته لموقع المرأة في الحياة الإسلامية، وفي الدعوة الإسلامية. وربما يغفل كتاب آخرون عن مثل هذه الرؤية الرحبة، ناسين قول الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران:195].

شكر الله لأخينا الحبيب الدكتور عارف الشيخ جهده، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي به أصحاب الأقلام المؤمنين الواعين الصادقين، إنه سميع مجيب.

الفقير إلى ربه

يوسف القرضاوي

10محرم سنة 1422هـ

4 إبريل سنة 2001م