الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى، وآله وصحبه مصابيح الدجى، ومن بهم اقتدى فاهتدى.
(أما بعد)
فمن فضل الله على المسلمين أن استيقظوا بعد طول رقود، وأدركتهم هذه الصحوة الإسلامية المباركة، التي شرقت وغربت، وكان لها أثرها في إحياء القلوب بالإيمان، وفي تنوير العقول بالمعرفة، وفي تقويم العزائم باليقين، وفي تقويم السلوك بالالتزام.
ولم يقف أثر هذه الصحوة عند حدود العالم الإسلامي، بل امتدت أضواؤها وآثارها إلى خارج العالم الإسلامي، حيث توجد الأقليات والجاليات الإسلامية، وقد تجلى ذلك بوضوح في ديار الغرب، وفي أوروبا بصفة خاصة، فقد كان فيها ملايين من أهل البلاد الأصليين يعيشون في شبه عزلة عن أمتهم الإسلامية، وكان بعضهم مكتومي الأنفاس وراء الستار الحديدي أيام سطوة الشيوعية.
وكان (المهاجرون) الأُوَل الذين غادروا أوطانهم في دار الإسلام، طلبا لعيش أرغد، ورزق أوسع أو أسهل، قد ضاع كثير منهم في المجتمعات الجديدة، وذابوا فيها تماما.
ثم اتسعت الهجرة، وزاد عدد المهاجرين، تبعا لتطورات حدثت في العالم كله، فهناك من هاجر طلبا للأمن، وفرارا من الإضطهاد في بلده، ومن هاجر للدراسة، ومن هاجر للعمل، ومن هاجر لأسباب أخرى.
وأصبح في أوروبا الشرقية والغربية من أهل البلاد الأصليين، ومن المهاجرين نحو خمسين مليونا، ولم يكن غريبا أن تدركهم الصحوة التي أدركت إخوانهم داخل الوطن الإسلامي، وأن يشعروا بهويتهم الإسلامية، وأنهم جزء من أمة القرآن، وأتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وأثَّر ذلك بلا ريب في وعيهم وسلوكهم، وطفقوا يعودون إلى أمتهم ورسالتهم من جديد.
وبدأت العقول الذكية والقلوب النقية والعزائم الفتية تتجمع وتتساند، والتي تحفظ عليها شخصيتها دون عزلة أو انغلاق.
ومن هنا أنشئت المساجد للعبادة، والمدارس للتعليم، والأندية للتوجيه والترفيه، وأقيمت المخيمات، وعقدت المؤتمرات، وتوالت الندوات والحلقات، وصدرت المجلدات، ونشرت الكتب زالمقالات، وألقيت الدروس والمحاضرات، وفرع الدعاة والمعلمون.
وفي السنوات الأخيرة فكر الأخوة الغيورون في استكمال المؤسسات التي لا تستغنى عنها المجموعات الإسلامية في أي مكان.
فكان من ذلك: تأسيس (اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا) الذي كان من ثمراته: إنشاء (الكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية) في فرنسا، وقد خرجت أول دفعة منها منذ بضعة أشهر، ومثلها ينشأ الآن في بريطانيا.
ومن ذلك: (إنشاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) الذي يضم عددا من العلماء الذين يتصدون للفتوى في المراكز الإسلامية المهمة في أوروبا، إلى جوار عدد من العلماء الذين يعيشون داخل الوطن الإسلامي، ولكنهم مهمومون بأمر إخوانهم في أوروبا، ويترددون عليهمن ويعرفون ظروفهم وأحوالهم.
مهمة هذا المجلس محاولة (توحيد الفتوى) في هذه الديار بقدر الإمكان، ومنع البلبلة والصراع الفكري حول هذه الأمور، ما وجد إلى ذلك سبيلا. وذلك عن طريق التشاور والبحث المشترك، والإجتهاد الجماعي، الذي أصبح اليوم فريضة وضرورة.
كما يراد أن يكون هذا المجلس (مرجعية دينية معتمدة) لدى السلطات المحلية في كل بلد، وهذا يقوي شأن الجاليات الإسلامية، ويشد من أزرها.
ليس هذا المجلس منافسا أو بديلا للمجامع الإسلامية الأصلية والكبيرة في داخل عالمنا الإسلامي، مثل (مجمع بحوث الأزهر)، و(المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي)، و(مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي)، بل هو مكمل لعملها في هذا الميدان الذي عُنى به وتخصص فيه، وهو (فقه الأقليات) ومن يعيش خارج ديار الإسلام ومجتمع المسلمين، وهو ينتفع يقينا بما يصدر عن هذا المجامع الكبرى من قرارات، وما يقدم إليها من بحوث.
إن فقهاءنا – رحمهم الله- قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وأعظم مظهر لتغير المكان هو: اختلاف دار الإسلام عن غيرها.
فالذي يعيش في قلب المجتمع الإسلامي، بجد من الأوضاع التي حوله – غالبا- مايعينه على السلوك الإسلامي، والإلتزام الإسلامي، بخلاف من يعيش في مجتمع مختلف تماما.
ومن هنا كانت رسالة هذا المجلس أن ييسر في فتواه على هؤلاء ولا يعسر، وأن يبشر في دعوته ولا ينفر، وأن يستبقي الناس في إطار الدين، ولو بالحد الأدنى من الإسلام، وأن يفتيهم بالأيسر لا بالأحوط، وقد قال الإمام سفيان الثوري رضى الله عنه: (إنما الفقه الرخصة من الثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد).
ومما أكد ضرورة وجود هذا المجلس وجود بعض المتعالمين، الذين حشروا أنفسهم في زمرة أهل الفتوى، وصدرت عنهم فتاوى ضالة مضلة، تبيح للمسلمين أن يسرقوا أموال تلك البلاد التي آوتهم، وأطعمتهم من جوع، وآمنتهم من خوف، وأن يستولوا عليها بكل ما يستطيعون: بالإختلاس، أو بالتزوير، أو بالغش، أو بأي وسيلة كانت، فلايدفعوا ثمن ما يستهلكون، ولا أجر مايستخدمون، وهم يكذبون ليأخذوا من المعونات ما لا يستحقون، ويخونون من يتعاملون معه، ويغدرون به متى قدروا على ذلك، فهؤلاء وصمة في جبين الإسلام، وهم أشبه باليهود الذين استحلوا مال الآخرين، وقالوا كما ذكر القرآن: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[آل عمران:75].
هذه الفتاوى تسئ إلى سمعة الإسلام وأهله، وتضر بالجاليات الإسلامية أبلغ الضرر، وتصور المسلمين بصورة العصابات التي لاتؤمن بقيم ولا أخلاق، ولا تعترف بعهد ولا ميثاق، فهؤلاء هم الرؤوس الجهال، الذين وصفهم الحديث الصحيح أنهم إذا سئلوا "أفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا"(1).
وقد أفضت هذه الفتاوى الجاهلة إلى أن دخل بعض المسلمين السجن متهمين بالسرقة أو الإختلاس أو نحوها من الجرائم.
وأشد من ذلك خطرا: إفتاؤهم لأفراد المسلمين باستباحة قتل أهل هذه البلاد، التي يعيشون فيها آمنين، وإذا تبطلوا عن العمل، أو ظهرت لهم حاجة، صرفوا لهم من المعونة ما يساعدهم على العيش، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[الرحمن:60].
لهذا كان لا بد من هذا المجلس ليرشد المسيرة الإسلامية في الغرب، ويسكت هذه الأصوات المتطاولة بالباطل، ويعمل على حل مشاكل المسلمين في ضوء الشريعة السمحة الغراء.
وقد يسر الله للمجلس أن يعقد ثماني دورات في أقطار مختلفة من القارة الأوربية، وأن يناقش عدة قضايا مهمة، قدمت فيها دراسات وبحوث عميقة كما أجاب على أسئلة عديدة، وصلت إليه من الأفراد أو المؤسسات في البلاد الأوروبية المختلفة، وكان من ثمرات ذلك مجموعة طيبة من الفتوى لها قيمتها العلمية، أكثرها أجمع عليها أعضاء المجلس، وأقلها اختلف فيه، وأخذ بأصوات الأغلبية، كما هو الشأن في كل المجامع الفقهية.
وقد صدرت مجموعة منها من قبل، وضم اليها اليوم المجموعة الثانية، لتصدر في هذا الكتاب الذي يسرني أن أقدمه للقراء الكرام، سائلا الله تعالى أن ينفع به المسلمين في أوروبا وفي غيرها ممن كان حالهم مثل حاله، وألا يحرمنا أجر المجتهد وإن أخطأنا، { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:286].
كما لا يفوتني أن أشكر لهيئة آل المكتوم الخيرية تلبيتها لهذا المجلس وسخاءها في الإنفاق عليه دون من ولا أذى، ولا تدخل في شؤونه من قريب أو بعيد، فجزاهم الله خيرا، وأثابهم على ما قدموا. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
..........
(1) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673) كلاهما في العلم، وأحمد (6511)، والترمذي في العلم(2652) وابن ماجه في الإيمان(52) عن عمرو بن العاص.