د. يوسف القرضاوي
اعتمد الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في منهجه الإصلاحي على ركيزتين أساسيتين؛ هما: التوعية والتربية. وهما في الواقع ركيزتا جمعية العلماء، فما كان للشيخ أن يحيد عنهما. وهو الأمين على مسيرة الجمعية والمُضِي بها قٌدُما في طريقها الذي رسمته من أول يوم.
أما التوعية، فهي لجماهير الشعب، الذي هو هدف الإصلاح ووسيلته معا.
وأما التربية، فهي للطلائع التي ينتظر منها أن تقود معركة التحرير، ومعركة البناء والتقدم فيما بعد.
التوعية:
وكانت التوعية في نظر الشيخ –كما هي في نظر جمعية الإصلاح منذ نشأت- تقوم على فهم الدين فهما صحيحا، بحيث تنشئ مسلما سليم العقيدة، صحيح العبادة، مستقيم السلوك، عزيز النفس، قوي الجسم، حر الإرادة، مستنير العقل، محبا للخير، غيورا على أهله ووطنه ودينه، عالما بمن هو صديقه ومن هو عدوه.
وكان إنشاء هذا الجيل هو قُرّة عين الشيخ وإخوانه، وكان هو معقد الأمل في تحقيق النصر المنشود على الاستعمار الفرنسي، وما خلّفه من آثار في الأنفس والعقول والحياة، وكان الاستعمار الفرنسي اللعين يعرف تمام المعرفة: أن هذا الجيل هو الخطر الحقيقي على وجوده وبقائه في الجزائر، ولذا كان له بالمرصاد، وكان يعوق طريقه بكل ما يمكنه، ولكن الإبراهيمي كان ماضيا في سبيله، مستعينا بربه، مشدود الأزر بإخوانه من العلماء، وبشعبه الجزائري الأبيّ.
وكانت جولات الشيخ في طول البلاد وعرضها، ودروسه وخطبه ومحاضراته، وأحاديثه الخاصة والعامة، ومقالاته في (البصائر): كلها تدور حول إيقاظ الوعي الديني الحقيقي، وتنقية الفكر الإسلامي من الخرافات والأباطيل والبدع، التي شوّهت وجه الدين الجميل، وأضافت إليه من الزوائد والشوائب ما كدّر صفاءه، ولوث نقاءه، ومن المحدثات ما عسّر الدين الذي أراد الله به اليُسر ولم يرد به العُسر، وما جعل فيه من حرج.
وكل عمل في هذا السبيل يهدم لبنة من لبنات الاستعمار المخرِّب، ويضع لبنة في بنيان الجزائر العربية المسلمة، جزائر الغد، ويغرس الآمال في أنفس الجزائريين؛ بقدر ما يغرس المخاوف في قلوب الفرنسيين.
أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:
ويتحدث العلامة الإبراهيمي عن التخريب الهائل الذي مارسته فرنسا في الجزائر منذ احتلالها، فيقول[1]:
(كانت الجزائر قبل احتلال الفرنسيين لها في سنة 1830م دولة مستقلة غنية، تملك خصائص الدولة في ذلك العصر، وأهمها العلم بالدين والدنيا، وفيها من الأوقاف الإسلامية الدارّة على العلم والدين ووجوه البر ما لا يوجد مثله في قُطْر إسلامي آخر، ومنذ تغلّب عليها الاستعمار الفريد في الخبث، وهو يعمل جاهدا على قتل شخصيتها بالقضاء على الدين واللغة العربية، وكان أول عمل قام به هو مصادرة الأوقاف الإسلامية والمعاهد التابعة لها من مساجد ومدارس وزوايا، وتحويلها إلى كنائس وثكنات واصطبلات وميادين ومرافق عامة، ثم أصدرت قانونا لا نعرف له نظيرا في تاريخ البشرية العاقلة يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في وطنها وبين أهلها، يتوقف تعليمها على إذن خاص وشروط ثقيلة، وزادت تلك الشروط على الأيام ثقلا وعنتا، حتى أصبحت في السنوات الأخيرة لا تطاق، وأصبح معلّم العربية يقف في قفص الاتهام مع اللصوص والسافكين، وتجري عليه العقوبات مثلهم بالسجن والتغريم والتعذيب.
(ثم دأب الاستعمار (من مائة ونيف وعشرين سنة) على طمس كل أثر للإسلام والعربية، وقطع كل صلة بينهما وبين الشرق، ليتم له مسخ الأمة الجزائرية، وإدماجها في الأمة الفرنسية، ولكن المناعة الطبيعية في هذه الأمة، وتصلبها في المحافظة على التراث الإسلامي المقدس، وعلى خصائصها الشريفة: دفع عنها ذلك البلاء، وأنقذها من ذلك المصير.
توعية الشعب وتنويره:
ويشرح الشيخ ما تقوم به جمعية العلماء من تنوير وتوعية للشعب الجزائري، وتحرير عقله ووجدانه وإرادته من الأوهام والضلالات، وشغله بمعالي الأمور عن سفاسفها، ووصله بالحق بدلا من ركضه وراء الباطل، عن طريق المساجد والأندية وغيرها. فيتحدث عن مبدأ جمعية العلماء وغايتها فيقول:
غاية جمعية العلماء تحرير الشعب الجزائري:
(مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان، والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذرا أو متعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم، ضاع غدا، لأنه بناء على غير أساس، والمتوهم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل.
لذلك بدأت جمعية العلماء-من أول يوم نشأتها- بتحرير العقول والأرواح، تمهيدا للتحرير النهائي، فوضعت برنامجا محكما، لوعظ الكبار وإرشادهم بالدروس والمحاضرات، حتى بلغت من ذلك أقصى غاية من الجهد وأقصى غاية من النتائج، وأصبح الشعب –في جملته- صافي الفكر، مستقل العقل، متوهج الشعور، مشرق الروح، فاهما للحياة، واسع الأمل فيها، عاملا للحرية والاستقلال، مؤمنا بماضيه، عاملا على ربط الحاضر بالماضي، ووصله بالوطن العربي الأكبر، متبصرا في وزن رجاله، لا ينطلي عليه غش الغشاشين ولا تدجيل الدجالين. ومعلوم أن هذه المعاني لا تدخل النفوس دفعة واحدة، وإنما تكمل بالتدرج، والذي وصل إليه الشعب الجزائري من هذا هو نتيجة نيف وعشرين سنة من أعمال جدية متواصلة، ولكنه لا يتم عادة في أقل من خمسين سنة.
أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي والتوعية:
ويعدد الشيخ ما قامت به جمعية العلماء من أعمال مجيدة للشعب، فيقول:
أولا: زادت الجمعية على هذا العمل العام آخر خاصا، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيدتها بمال الأمة، وصيرتها ملكا للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، من حملة الشهادات الابتدائية من مدارس الجمعية. (وسنتحدث بتفصيل عن هذا الأمر عند حديثنا عن عنصر التربية).
ثانيا: بما أن المساجد التي هي تراث الأجداد، صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيرا منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجر أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت إلى الآن هي التي تعين الأئمة والخطباء والمؤذنين والقومة، ولكنها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية وشيدت بمال الأمة نحو سبعين مسجدا في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلحة.
ثالثا: في الجزائر مئات الآلاف من الشبان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت لهم الجمعية عشرات من النوادي المنظمة الجذابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية، والاجتماعية، وأدّت هذه النوادي أكثر مما تؤديه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه.
رابعا: أنشأت الجمعية للعمال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي وزوّدتها بطائفة من الوعاظ والمعلمين من رجالها، يتعلم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلما وكتابة، ويتربون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي وأتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثم قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعف واحدها إلى الآلاف، فكان ذلك وحده سببا للعجز.
خامسا: أنقذت الجمعية عشرات الآلاف من أبناء الجزائر من الأمية، بوسائل دبرتها ونجحت فيها نجاحا عجيبا، وأن هذا العمل من غرر أعمالها لأن الأمية تشل الشعوب. أ. هـ.[2]
الميدان الداخلي أولى بالاهتمام:
كان أمام الشيخ البشير - ومن قبله الشيخ ابن باديس- ميدانان للكفاح: ميدان الاستعمار الخارجي، وميدان الاستعمار الداخلي... استعمار العقول والنفوس والضمائر بالأوهام والضلالات والبدع، فاختار الشيخان البدء بالميدان الداخلي، فهو أحق وأولى بالاهتمام.
وعلل ذلك الشيخ الإبراهيمي، فقال:
(كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأول للهجوم، أن موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع الاستعمار أن ينتصر لأوليائه في نزاع ديني انتصارا سافرا، وإنما ينتصر لهم بوسائل أخرى لا تؤثر في هدفنا الذي نرمي إليه، وهو انتزاع الأمة من هؤلاء المستغلين لها باسم الدين، وإنقاذها من جبروتهم، وأننا إذا حررناهم من سلطانهم الوهمي، كانت معنا على الاستعمار الخارجي الحقيقي، ومن لم يكن الشعب معه كان مخذولا في كل ميدان.
بدأنا هذه الحركة بجنب حركة التعليم الديني العربي، وأطلقنا عليها اسمها الحقيقي، وهو: (الإصلاح الديني) وهو اسم يهيج أصحاب البدع والضلالات من المسلمين في الدرجة الأولى، ويهيج الاستعمار الخارجي في الدرجة الثانية، فكان من تفاوت التهيج فسحة، سرنا فيها خطوات إلى النجاح، وكانت أعمالنا تسير في دائرة ضيقة، لأن الاستعداد لظهور جمعية العلماء لم يتم إذ ذلك، وكان مبدأ (العمليات) بدروس دينية ومحاضرات.
ورأى المرحوم عبد الحميد بن باديس: أنه لا بد من جريدة تظاهر الفكرة وتخدمها، فأنشأ جريدة (المنتقد) وهي أول جريدة إصلاحية بالشمال الإفريقي، فكانت أرفع صوت وأفعل وسيلة لنشر الإصلاح الديني، فارتاع لها الاستعمار الفرنسي وعطلها في مدة قريبة بما يملك من قوانين، فأصدر المرحوم جريدة أخرى باسم (الشهاب) كانت أسد رماية، وأوسع خطى من سابقتها، وسكت عنها الاستعمار فنقلها صاحبها من جريدة إلى مجلة، طال عمرها بضع عشرة سنة ورافقت سنوات الإرهاص بجمعية العلماء، فسجلت خطوات الحركة، وكانت لها مواقف رائعة في عدة ميادين، فخدمت العلم والدين والسياسة، وتردد صداها في المغارب الثلاثة، فتركت في كل قطر أثرا حميدا في النفوس، وفضحت الاستعمار الفرنسي فضائح لا ينسى خزيها، وبدروس الأستاذ عبد الحميد بن باديس، ومجلته الشهاب، استحق لقب (باني النهضة الجزائرية بجميع فروعها)، وأنشأ بعض الإخوان جريدة سماها (الإصلاح) كانت لها جولات في حرب البدع ولكنها لم تعمر إلا قليلا.
تساوقت الآثار المختلفة إلى غرض واحد، آثار دروس الإسلام الحية من ابن باديس، في نفوس تلاميذه، وقد أصبحوا آلافا، وآثار دروسه العامة في التفسير والأخلاق والاجتماع، وقد أصبح سامعوها المتأثرون بها عشرات الآلاف، وأكثرهم من العامة، وآثار الحرب في الأمة كلها، وآثار العلماء المصلحين بعد أن تكاثر عددهم وتلاحق مددهم، وعاونوا على تنوير الأفكار وتوجيه الأذهان لفهم حقائق الدين والدنيا، وهداية النفوس الضالة بإرشاد القرآن وسيرة محمد وأصحابه، وتجلية التاريخ الإسلامي.
وتألف في ذلك كله حداء قوي مطرب، سارت عليه الأمة الجزائرية عقدا من السنين، من سنة 1920م إلى سنة 1930م، واستوى في التأثر الموافق منها والمخالف، وأوائل نهضات الأمم تفتقر دائما إلى المخض العنيف بالكلام والرأي والجدال والوفاق والخلاف، وذلك المخض هو الذي ينشئ فيها الحياة ثم يصفيها، وهو دليل حياة الشعور فيها.[3]
التربية:
وكانت التربية في نظر الشيخ – وفي نظر الجمعية- هي الوسيلة المُثْلى لغرس التعاليم الإسلامية التجديدية، - ومعها النزعة العروبية والوطنية-، في عقول الناشئة وفي قلوبهم. ومقاومة تيار (الفرنسة) الذي يعمل منذ احتل الجزائر على أن يجردها من هويتها الإسلامية والعربية. وذلك بفرض الفرنسية لغة وحيدة في التعليم، وإبعاد العربية تماما عن هذا المجال. وحذف الدين الإسلامي من مجال التربية والتعليم حذفا تاما، باعتبار أن الدولة (علمانية) (لائكية) وأنها لا تعلم الدين في مدارسها.
فكان المطلوب هنا عملا مضادا لما يهدف إليه المستعمر، تقوم التربية فيه على أساس أن الدين هو الأساس. والعربية هي اللسان.
(فإذا كان التعليم الفرنسي السائد يقصد إلى فرنسة الجزائريين، فإن التعليم الذي قاده من قبل ابن باديس، وقاده من بعده الإبراهيمي، يقصد إلى إعادة (أسلمة) الجزائريين و(تعريبهم) أو إلى إبقاء الإسلام والعروبة عند من بقيا عنده، وكان شعار جمعية العلماء منذ البداية: الإسلام ديننا.. العربية لغتنا.. الجزائر وطننا!!
ولذا كان تركيزهم المستمر والدؤوب على ضرورة (التعليم العربي) الذي يجب أن تتاح له فرصة بجوار (التعليم الفرنسي) السائد والمهيمن على الساحة كلها).
وكانت مناهج هذا التعليم وكتبه ولغته ومعلموه وإدارته والجو المدرسي العام، كلها تصب في هذا الاتجاه.
حتى الأناشيد التي تحفظ للطلاب تغرس فيهم هذه المعاني، وتنمي فيهم هذه المشاعر، مثل النشيد المعروف الذي ألفه الإمام ابن باديس نفسه، ويحفظه الجميع:
شعب الجزائر مسلــم وإلى العروبة ينتسبْ
من قال حاد عن أصله أو قال: مات، فقد كذبْ
ومن حسن حظ الجزائر: أن الله تعالى وهبها رجلا مربيا من الطراز الأول، ومنحه من المواهب والملكات ما قاد به كتيبة التربية على بصيرة ووعي بالهدف المنشود، والمنهج المقصود، وأعد له من الرجال الكفاءة من يذلل بهم الصعاب، ويتخطى بهم العقاب. إنه الإمام ابن باديس الذي كان هدية الله للجزائر، كما يتحدث عنه الإبراهيمي.
ومن أراد أن يعرف أثر التربية والتعليم الذي قامت به جمعية العلماء، وبدأها الإمام ابن باديس، فليقرأ ما كتبه الإمام الإبراهيمي في البصائر، ونشر الكثير منه في (آثاره) التي نشرت بعد وفاته، وإن لم تستوعب كل ما خطه قلمه.
يقول الإبراهيمي في إحدى مقالاته أو دراساته عن جمعية العلماء ومؤسسها:
(وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرب جيوشها: عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللماح، والفهم الغواص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات، من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر، مع التمييز بين ضارها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير العربية، وكان التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها. إماما في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله: قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها.
وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بالمعز بن باديس، مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية، إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدثناكم عن دولها وأثارها بالجزائر، والمعز بن باديس هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال إفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين.
هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدر للتعليم حوالي سنة 1914م ببلدة قسطنطينة التي هي مستقر أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبان المستعدين فعلمهم ورباهم وطبعهم على قالبه ونفخ فيهم من روحه، وبيانه، تطوعا واحتسابا، لا يرجو إلا جزاء ربه ولا يقصد غير نفع وطنه.
وكان – رحمه الله- يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافة في أدمغتهم، ويدربهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرّج على يده وعلى طريقته جيل من الشبان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل، وصحة التفكير، والانقطاع للجهاد.
وكان من طريقته في التربية: أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسا في التربية والأخلاق.
فمن القواعد الإصلاحية المعروفة قولهم – مثلا- الفاعل مرفوع، والعامل يتقدم. فمن أمثال هذه الجمل المبتذلة الدائرة على الألسن في دراسة العلوم: كان يستخرج من معانيها اللغوية: نظرات اجتماعية طبيعية. ككون الفاعل العامل مرفوع القدر عند الناس، وككون العامل يجب تقديمه على الكسلان العاطل، في جميع المقامات.
وقد ذكر لي بعض من حضر درسه[4] في قول صاحب الألفية: (كلامنا لفظ مفيد كاستقم). قال: سمعته يقرر القاعدة النحوية التي أرادها ابن مالك فسمعت ما أدهشني من التحقيق الذي لم يعهد من علماء عصرنا، بالأسلوب الذي لم يعهد من شراح الألفية سابقهم ولاحقهم، ما عدا أبا إسحاق الشاطبي، ثم انتقل إلى شيء آخر نقلني إلى شيء آخر، وسما بي من الدهشة التي ما فوقها مما لا أجد لها اسما، فكان درسا اجتماعيا، أخلاقيا، على ما يجب أن يكون عليه الحديث الدائر بين الناس، وأنه إذا لم يكن مفيدا في المعاش والمعاد: كان لغوا وثرثرة وتخليط مجانين، وإن سمّته القواعد كلاما، ثم أفاض في الاستقامة الدينية والدنيوية وأثرها في المجتمع، فعلمت أن الرجل يعمل على أن يخرج من تلامذته رجالا، وأنه يجري بهم على هذه الطرائق ليجمع لهم بين التربية والتعليم، وكأنه يتعجل لهم الفوائد، ويسابق بهم الزمن، ما دامت الأمم قد سبقتنا بالزمن.
وهكذا كان الأمر، فإنه أخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلا يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة، ويتدرع إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدربهم على الأعمال النافعة، كما يدرب القائد المخلص جنوده، ويعدهم لفتح مصرٍ، أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الإصلاحية، التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته. وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة، التي نقلت الجزائر من حال إلى حال.
وقد كان تعليمه والآفاق التي فتحها ذهنه الجبار، وأسلوبه في الدروس والمحاضرات، كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بدلنا، حيث ابتدأ التعلم، وتوسط فيها، وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين، المحدودة بسنوات معدودة، وكتب مقروءة، على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي، وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غواص إلى نهاياتها، كما وصفناه في أول الحديث.
وحج في سنة 1913م ومر بالقاهرة ذاهبا وبدمشق آيبا وجاور بالمدينة ثلاثة أشهر بعد هجرتي إليها بسنتين، وكنا نجتمع في أغلب الليالي اجتماعا خاصا لا نتحدث فيه إلا عن القطر الذي يجمعنا وهو الجزائر، والبلد الذي يضمنا وهو قسطنطينة، والآمال التي تملأ نفوسنا، في ترقيته وإعداده للتحرير، فكنا نُجْمِع على أن لا وسيلة لذلك إلا العلم تنتشر أعلامه، والجهل ينقشع ظلامه، ثم تصور الخواطر لي وله مدارس تشاد للنشء وألسنة تفتق على العربية، وأقلاما تتشقق على الكتابة، فتصور لنا قوة الأمل، ذلك كله كأنه واقع نراه رأي العين. فإذا انتهينا من التصورات أخذني بالحجة، وألزمني بالرجوع إلى الجزائر، لنشترك في العمل، المحقق للأمل، وأقام لي الدليل من الدين على أن هذا العمل أشرف وأقرب إلى رضى الله من الهجرة، ولم أكن أنكر عليه هذا، ولكن والدي – رحمه الله- كان يأبى على ذلك، فكنت أتخلص بالوعد بالرجوع عند سنوح الفرصة.
ورجع هو من عامه، فابتدأ التعليم، وانثال عليه الطلبة من المقاطعات الثلاث، وقدّر الله فرجعت بعد سبع سنوات من افتراقنا، فوجدت عمله قد أثمر، وأملنا قد بدأ يتحقق، ووجدت الحرب قد فعلت فعلها في نفوس أمتي، فكان من آثارها حياة الاستعداد الفطري، الذي أماته الاستعمار في تلك المرحلة، التي عددنا لكم ما غرسته أيامها في نفوس الجزائريين من بذور خبيثة، كان من ثمراتها: تخدير الشعور، وإضعاف المعنويات.
وكان لرجوعي إلى الجزائر في نفس الشيخ عبد الحميد بن باديس ما يكون في نفس القائد اتسعت عليه الميادين، وعجز عن اقتحامها كلها، فجاءه المد لوقته، وتلقاني رحمه الله بمدينة تونس، مهنئا لي ولنفسه وللوطن، ومذكرا بعهود المدينة المنورة، ومبشرا بمواتاة الأحوال، وتحقق الآمال، فكانت مشاركتي له بالرأي والتفكير والتقدير والدعاية، أكثر مما هي بالتعليم والتدريب، لما كان يحول بيني وبين الانقطاع إلى ذلك من عوائق، وإن كنت شاركت في تحضير أذهان العامة للنهضة الكبرى بسهم وافر، بواسطة دروس ومحاضرات، ورجع أفراد من الإخوان الذين كانوا بالشرق مهاجرين، أو طلابا للعلم، وجماعة من تلامذة الأستاذ ابن باديس الذين أكملوا معلوماتهم بجامع الزيتونة، تنطوي نفوسهم من أستاذهم على فكره وروحه، ومن جامع الزيتونة على متونه وشروحه، فاستقام الصدد، وانفتح السدد، وتلاحق المدد، وكانت من أصواتنا مسموعة ما يكون من الصيحة رَجّت النائم، ومن أعمالنا مجموعة ما يكون من الروافد انصبت في النهر فجاشت غواربه، وكانت تلك بداية النهضة بجميع فروعها، والثورة الفكرية بتمام معانيها. أ. هـ.[5]
وبعد الشيخ ابن باديس: قاد الإبراهيمي سفينة التربية والتعليم، فكان يعلم بنفسه أحيانا، ويوجه المعلمين، ويؤلف في التربية، حتى أنه صنف كتابا باسم(مرشد المعلمين) قدمه أحد أبناء الجمعية(الأستاذ محمد الغسيري) فقال:
(وضع أستاذنا الجليل محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء منذ سنوات، برنامجا حافلا للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمّنه أصولا عظيمة من علم التربية، وقد سألناه منذ عامين: أن يجرد لنا فصولا عملية تتعلق بالسنوات الست الابتدائية ففعل، وسلّمه لنا لنطبعه وننتفع به، وطالعناه فلم نجده كالبرامج المعتادة، وإنما هو (معلم مكتوب). فهو يأخذ بيد المعلم ويسير به خطوة بخطوة إلى الغاية لا يضل عنها ولا يجوز، وكأنما هو (ملقن) من وراء المعلم يملي عليه الكلام ويرشده إلى كيفية العمل. لذلك آثر جماعة من قدماء المعلمين تسميته(مرشد المعلمين).[6]
ـــــــ
*عن كتاب "مع أئمة التجديد ورؤاهم في الفكر والإصلاح" لفضيلة الشيخ.
[1] في المذكرة التي قدمها مكتب جمعية العلماء في القاهرة إلى مجلس الجامعة العربية، ونشرت في صحيفة (منبر الشرق) و(الدعوة) في أغسطس 1954م. القاهرة.
[2] نشرت في صحيفة (منبر الشرق) وصحيفة(الدعوة) أغسطس 1654م.
[3] انظر: آثار البشير الإبراهيمي (/4 342 وما بعدها).
[4] سمعت هذا شخصيا من الجزائري المجاهد الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمه الله.
[5] انظر: آثار البشر الإبراهيمي (/4 340 وما بعدها).
[6] البصائر: العدد67/ السنة الثانية من السلسلة الثانية 19/ 2 / 1949م