د. يوسف القرضاوي
من موانع التوكل: الركون إلى الخلق، والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات، والنصرة في الملمات، وتدبير الأمور، وتذليل الصعاب، ناسياً قول الله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) (الأعراف:194)، وقوله سبحانه: (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق) (العنكبوت:17).
فالابن الذي له أب من ذوي المال والجاه، أو له أسرة عريقة، أو قبيلة كبيرة، أو كان من العائلة الحاكمة، أو الحزب الحاكم، إذا لم يكن من ذوي الإيمان.. يحس بأنه يستند إلى ركن ركين، ومتمسك بحبل متين، فلا يشعر بفقره إلى الرب الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.
ومثل ذلك من كان مقرباً من الملك أو الأمير أو الرئيس أو الوزير أو الثري المليونير، صاحب الشركة أو مدير المؤسسة، أو من شابه هؤلاء، فهو يظن نفسه قوياً بقوتهم، مستغنياً بغناهم، فلا حاجة له إلى التوكل على الخالق، وقد توكل على الخلق، والتوكل لا يقبل الشركة.
ولا يفيق هذا الصنف من سكرته إلا إذا تغير حال من اعتمد عليهم، فمات الملك، أو تغير الأمير، أو عزل الرئيس، أو أقيل الوزير، أو سقط الحزب الحاكم، أو ضعف القوي، أو افتقر الغني وأفلس المليونير، الذي كان يركن إليه، ويتوكأ عليه.
ولهذا قال ابن عطاء الله في "حكمه": "إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى".
وصدق .. فكل عز في الدنيا فهو فان -كما قال العلامة زروق في شرح الحكم : "لأنه إنما يكون بأسبابها، وهي فانية، وما ترتب على الفاني زال بزواله.
قال في "التنوير" فإن اعتززت بالله دام عزك، وان اعتززت بغير الله فلا بقاء لعزك، إذ لا بقاء لمن أنت به متعزز.
وأنشد بعض الفضلاء لنفسه:
اجعل بربك شأن عزك يستقر ويثبت
فإن اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
ويقال لك: إذا اعتززت بغير الله فقدته، أو استندت إلى غيره عدمته! (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً * إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شيء علماً).
على أن الخلق لا أمان لهم، ولا ضمان لاستمرار ودهم وحسن صلتهم، فكم منهم من عاهد فغدر، ومن خاصم ففجر، ومن وعد فأخلف، ومن ائتمن فخان.
كم من صديق أسلم صديقه في ساعة الشدة، حتى قال الشاعر محذراً:
أحذر عدوك مـرة وأحذر صديقك ألف مرة!
فلربما انقلب الصديق فـكان أعلم بالمضــرة!
وكم من سلطان غدر بأقرب بطانته إليه، وآثر خاصته لديه، لوشاية من حاسد، أو مكيدة من منافس، أو لظهور من يحل محله، ممن يسارع في هوى السلطان أكثر منه، أو لغير ذلك من الأسباب التي دونها التاريخ، والتي لم يدونها التاريخ.
وانظر "البرامكة" في عهد الرشيد، كيف كانوا، وكيف صاروا .
وقد تدرك المرء صحوة تتفتح فيها عين قلبه على الحقيقة، وهي أن عجز الخلق عجز ذاتي، ولا قوة لهم من أنفسهم ولا بأنفسهم، ولا قوة لهم إلا بالله، وأن الجن والإنس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء، لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء، لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وهنا لا يكون توكله إلا على مولاه.
ــــــــ
- عن كتاب "التوكل" لفضيلة الشيخ.