عبد الشافي صيام (العسقلاني)
نقف أمام ظاهرة غريبة بدأت تتفشى كالوباء في جسد المجتمعات الإسلامية، وهي التطاول على علماء الأمة من قبل جهات مشبوهة. وبلا شكٍ أنها ذاتُ ارتباطاتٍ مُقنّعةٍ توحي لك أنها حريصة على المصلحة الوطنية العليا، وتدفع من أجل ذلك باتهامات ومواقف تسيئ للوطنية والقومية والدينية وحتى "البزرميطية" التي تنتمي طبقة عريضة لها من عبيد وخدم السلاطين وأشباه السلاطين، ومن خَدَمِ وماسحي مراحيضِ أصحاب السلطة والنفوذ، والذين لا عيش ولا حياة لهم إلا في "الظِلِّ الوَسِخِ" لهذه الطبقة المُبَاعَةِ بِعَرَقِ الحياء، إن جاز تصنيف الظلِّ إلى ظلٍّ وسخٍ وظلٍّ نظيف .
هذه الظاهرةُ تَمَدّدَ وجُودُها وبَرزتْ للعيانِ مع انتصار ثورات الربيع العربي وما أحدثتهُ ثوراتُ الشعوبِ من هَزّاتٍ وتغييراتٍ في بعض الدول العربية، والإطاحةِ ببعضِ أنظمةِ الحكم الطاغية والمستبدّةِ التي حَكَمَتْ لسنواتٍ طويلةٍ بقوةِ القهر وإذلال الناس والبطش بهم، وفرض سَطوةِ الحاكم الناهبِ المُطلقةِ على الدولة وشعبها وخيراتها ومقدراتها وأمنها واستقرارها .
ومن أبرزِ ما طفى على السطحِ مواقفُ بعض العلماء الذين أيدو مسارات ثورات الربيع العربي، وفي مقدمتهم فضيلة العلامة الإمام الجليل الشيخ يوسف القرضاوي، الذي غَرَزَ رايةَ الموقفِ الإسلامي الواضحِ في صَدْرِ أحداثِ التحوّلْ، وليكونَ الصوتَ المسموعَ في الشارع العربي والإسلامي الذي جَعَلَ من الرجلِ أبرزَ علماءِ المسلمين في العصر الحديث لعلمهِ ومواقفهِ وتأثيرهِ على مستوى العالم الإسلامي كحوزةٍ إسلاميةٍ، وعلى مستوى العالمِ كحوزةٍ تتلاقى فيها الرسالاتُ السماويةُ الثلاث.
ولن ندخل في التفاصيلِ النَجِسَةِ لفهمِ بعض المواقف المعاديةِ لمواقفِ الرجل، لِجَهْلِ الأسبابِ الدافعةِ لِمَنْ يقفونَ وراءها رغم تناقض الادعاءات التي يسوقها المرجفون من حَمَلةِ المصابيحِ السوداء، إذ أننا لسنا معنيين بالدفاع عن فضيلة الإمام الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، فذلكَ أمرٌ يتولاهُ علماءُ متخصّصونََ في هذا المجال .
ولسنا بصددِ نفي أو تبريرِ التهم الموجهةِ لفضيلته وكُلها بلا شك تهمٌ كاذبةٌ وباطلة، وهي تعبيرٌ عن حالة الإحباطِ التي تعيشها الأنظمةُ وبقايا أجهزتها المنهارة، وعبيدُ مصالحها الذين هَزّتهم ثوراتُ الربيع العربي.
ولنريحَ أنفسنا ونريحَ الناسَ من الخوضِ في متاهاتِ المواقفِ غير واضحةِ المعالمِ والأهداف، فإننا ندعو الناسَ أنْ يُلزِموا أنفسهم بشرعيّةِ الفتوى الشرعيّةِ، وَعَدَمِ شَرْعِيّةِ الحاكم، إذ لا يُعقلُ أن يُمْسِكَ الحاكمُ بسوطِ الأحكامِ الشرعيّةِ ويَجْلِدُ بها الناسَ والعبادَ، بما يُرِيحُ الحاكمَ ويمكّنهُ من رقابِ العباد.
وبِجَرّةِ أقلامِ المصالحِ تَتَحَوّلُ هذه الفتاوى الشرعية إلى فتاوى لبرامج ومخطّطات الناتو، التي جلبتها الأنظمة والحكامُ أنفسهم، فهي مُعشّشةٌ في سراويلهم. ويقذف بها القاذفون باتجاه هَبّــاتِ الريح، واستراحات الهوى، وإلى فتاوى الأمير الفلاني أو الدولة العلانية، وإلى الصراع المذهبي "السرطاني" الذي يسعى إلى تقسيم العالم العربي والإسلامي وتمزيقه لصالح الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية مصدر الإرهاب وراعيته في عالمنا المقيت.
فإذا كانت قدرة دولة صغيرة كدولة قطر تصل إلى هذا الحد من القوة والنفوذ والتأثير، وإذا كان تأثير عالم دين (شيخ أزهري) بهذه القوة والحضور، وقادر على إحداث هذه التغييرات، فالأمر بحاجة للبحث بجدية في أكثر من أمرٍ أولها:
طبيعة وجود وتركيبة الجهات التي أصابتها الفتاوى الشرعية، والتي جعلت الناس المصابين بهذه الفتاوى، لا يرفعون أصابعهم من آذانهم أو عن بطونهم التي يتحسسونها كحاملٍ في أول أشهر الحمل.
وثاني هذه الأمور: هل "فقط" النظام القطري هو النظام العربي الوحيد الذي يقيم علاقات مشبوهة وغير نظيفة وتآمرية على العرب والمسلمين لصالح الغرب الأمريكي والصهيونية العالمية.
وثالث هذه الأمور: هل يعقل أن تربط دول وسخة سياسيا مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والعدو الصهيوني مواقفها الإستراتيجية وبرامجها ومخططاتها في العالم بمهام توكلها لدولة صغيرة مثل قطر كي تديرها وتنفذها، ونحن هنا لا ندافع عن قطر وعن مواقفها تجاه بعض القضايا، وآخر ما نتمناه على سمو أمير دولة قطر الذي نحترمه ونقدره ونكبر فيه إرثه الوطني العربي والإسلامي الكبير، ومواقف الشهامة والنخوة العربية التي ورثها عن أجداده الذين يذكر التاريخ أن أحدهم رهن بيته للتبرع لفلسطين. بأن لا يكمل الزيارة التي يزمع القيام بها للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، مهما كانت المغريات التي سيضعها العدو اللئيم بين يدي سمو الأمير، ولتكونوا كما عرفناكم يا سمو الأمير أكثر دهاءاً ومكرا وفطنة ونباهة وذكاءا من قوم جادلوا الله سبحانه وتعالى.
لقد ركعت أمتنا بأنظمتها المنخورة لإرادة المجتمع الدولي ولا نقول لتعليمات وأوامر أمريكا، ووافقت وحضرت مؤتمر مدريد للسلام قبل ربع قرن من الزمان، لحل القضية الفلسطينية والخروج من حالة الحرب والعداء التي تعيشها المنطقة، فلم تُحَلّ القضية، وها هي تنبت في رؤساننا قرون الفشل، ولا ندري متى ستنمو الأذناب..!!!
ورابع هذه الأمور: ما الذي تملكه قطر من قوة وقدرة على المضي في هذا البرنامج الذي يحتاج دائما لتوافق دولي لتمريره وديمومته.
وعلى ظهر سفينة الإنزال هذه نفاجأ بتلك الحملة الغبية ضد فضيلة الإمام العلامة الشيخ يوسف القرضاوي.
لقد عرفنا الرجل من منتصف ستينيات القرن الماضي في إمارة قطر قبل استقلالها بمواقفه الواضحة من قضية فلسطين، ولعلي أذكّرُ الذين تدرجوا في الفسوق وظنوا أن حصونهم مانعة.
فبعد أن نالت قطر استقلالها، وما تبع ذلك من قيام سفارات الدول الموجودة في الدوحة بإقامة مناسبات تدعو لها الشخصيات الرسمية والمهمة في المجتمع وكنا نلتقي في هذه المناسبات بفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي بصحبة رجل آخر هو الشيخ محمد العمّاري وهو يمني كان يُدعى ضمن المدعووين وله عمود يومي في جريدة العرب القطرية، وكنا نشعر أن وجودهما يمثل وضعا غير مرغوب فيه بالنسبة لكثير ممن يُسَبِبُ وجود "الشيخين" حرجاً لهم لأنهم يريدون أن "يسكروا"، وكثيراً ما كنا نسمع همساتهم وغمزاتهم من الذي دعى هذين الشخصين.. ولم نكن وقتها نعرف "الناتــــو" وإلا لقلنا بأنهما ضيفي الناتو.
يقال ليس اليوم كالبارحة..
ونقول بأن الأمس هو البارحة.. وأن غدا هو البارحة. ولقد تأثرتُ وأنا أرى الرجل وقد ذرف دمعاً وهو يعلق على موقف بعض المسئولين في سلطة رام الله الذين "تفشخرَ" بعض ممثليها بأن القيادة المنضوية تحت لواء محمود عباس وزّعتْ وعمّمتْ مذكرةً عاجلة تطلب فيها من البوليس الدولي "الإنتربول" إلقاء القبض على الشيخ القرضاوي بتهمةِ حيازتهِ على جواز سفرٍ مزوّرٍ وضرورة جلب الجواز قبل أن توضع عليه أختام.
لعلنا نطمئن العقيد أو العميد أو اللواء أو المستشار "فلان" بأن فضيلة الشيخ القرضاوي "معروف العنوان" وصحته لا تساعده على الجري والهرب. ويمكن لأجهزة البوليس الدولي وضعه في كيس وإحضاره هو والأخ إسماعيل هنية رئيس مجلس الوزراء الفلسطيني المنتخب دستوريا وليس بطريقة الفتاوى التفسيرية الشارحة بأن غير الموجودِ موجودٌ، لكنهُ غيرُ موجودٍ وهذا ما يؤكدُ ما قلناهُ بأنه موجود.. لِذا تمدد الولاية فترة إضافية.. يُنشَرْ ويُوزعْ في الجريدةِ الرسميّة.
ونحن على ثقة بأن العبارة.. " يُنشَرْ ويُوزعْ في الجريدةِ الرسميّة " لن تمر بغبائها على فطنة القارئ الكريم.
لنعتبر أن فضيلة الإمام العلامة الجليل الشيخ يوسف القرضاوي شخص غير مرحب به.. ألا يغطي سلبية مواقف الرجل إن كانت هناك مواقف سلبية باستثناء أنه يسبّبُ حالة مَغَصٍ نفسي لمحمود عباس أيام كانا سويا في وزارة التربية والتعليم القطرية، ألا يغطي هذه السلبية وصول عدد من كبار علماء المسلمين كاسرين الحصار الذي فرضه العدو الصهيوني على شعبنا بحذائه دون أن يُحرّكَ "أصحاب الطقعة" ممن لا يرحبون بوصول الوفد الزائر إلى أرض فلسطين ساكناً.
لو كان عباس ذكيا لأصدر بيانا رحب فيه بضيوف الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين.
ألم يدعو عباس الشيخ أبو بلعة لزيارة القدس ولم يترك دَفّــــاً إلا دق عليه، وأصدر مفتية "فتــاوى الساعة في ضحض القناعة" ولم نسمع أن أحدا فكر في زيارة القدس ضمن فلسفة مفاهيم عباس الدينية.
لماذا لم يكتب وينتقد أصحاب الاهتزاز الرخو قيام "يوفال ديسكين" رئيس جهاز المخابرات الصهيونية الداخلية الإسرائيلية "الشاباك" بزيارة قيادة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في رام الله للوقوف والاطمئنان على إنجازات هذه الأجهزة في محاربة الإرهاب حسب اتفاقات التنسيق الأمني بين سلطة عباس وإسرائيل.
والسؤال المجرد من كل العواطف.. ألا يتساوى فضيلة الشيخ القرضاوي في سوء مواقفه من وجهة نظر مَرْضَى سلطة أوسلو مع سوء مواقف الخواجـــه الإرهابي القاتل "يوفال ديسكين" من وجهة نظرنا والذي يمجدونه في إسرائيل ويطلقون عليه لقب "بطل إسرائيل" لكثرة العمليات التي خطّط لها ونفذها ضد الفلسطينيين.
نقول لفضيلة الشيخ القرضاوي.. لست بحاجة إلى شرح للتمييز بين المواقف فقد استقبلك أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم على أرض الرباط والرجولة والكرامة، وعبر شعبنا عن موقفه الرسمي نحوكم ونحو علماء الأمة.
وكما نقول.. بأن العاقل لا يعنيه ما لا يغنيه.
ــــــــ
* عن موقع ArabNyheter
19-5-2013