مهنا الحبيل - موقع القرضاوي/ 9-10-2008
منذ أن انطلقت الحملة الطائفية والسياسية العنيفة على الإمام القرضاوي التي قادتها المؤسسات الإعلامية والسياسية الإيرانية والشخصيات التابعة و الموالية لها كنت راصدا لها, لكنني آثرت تأخير طرح رؤيتي لسببين الأول هو أن الحملة قد تتوقف برغبة شخصيات من الطائفتين وعليه فلا حاجة أو ضرورة لتمديد ذلك التوتر , ويبقى مقام الإمام فوق هذه الحملات المسعورة اللاّأخلاقية والتي سيجهدها الضنك والتعب , ثم تستفيق على الحقيقة الكبرى لمقام الإمام في أمته وتاريخها المعاصر الذي ارتبط جزءٌ مهمٌ منه مع جهاد وكفاح الإمام الفكري والسياسي, ثم أثمر للوطن العربي في نهضته الإسلامية الصاعدة لاستعادة الهوية وصناعة ثقافة المشروع الإسلامي الحقوقي والسيادي , والذي كان مداد قلم الإمام وكفاحِه زاد التقدم الأكبر في ثقافته ومسيرته الكبرى.
والسبب الثاني المُهم أيضاً هو تيقني بعد متابعة الرصد بأن هذه الحملة المُستمرة حتى الآن ليست عارضة أو وقتية وليست ردة فعل على مُقابلة الإمام في صحيفة المصري , إنما ذات قرار مُسبق وخلفية إستراتيجية عميقة لدى المُعسكر الطائفي الإيراني أنفذها في هذا التوقيت بعد أن أثار هذا المعسكر نفسه عاصفة لا معنى لها سوى هدفه الاستراتيجي لاستغلال المقابلة الصحفية ثم اتبعها بالحملة المذكورة.
عودة إلى أصل القضية
وبالعودة إلى نص مقابلة الإمام يوسف القرضاوي سوف يتبين لأي قاريء متابع وبالقطع , بأنه لا جديد في حديث الإمام عن الخلاف السُنّي الشيعي وحديثه يتوزع على مسارين الأول عقدي في تبيين مسائل الخلاف التي تنقل في الأصول والموقف المنهجي لأهل السنّة منها , والثاني الموقف من المشروع الاستعماري الطائفي للجمهورية الإيرانية والذي تحالف ولا يزال عمليا مع الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان عسكريا وسياسيا .
ففي تقريره العلمي ذكر الإمام ما نعرفه عنه دائما من القول الحسم بان الحكم الجازم للمنتسبين للطائفة الشيعية هو الإسلام ونبذ تكفير الأعيان والشخصيات , ثم وضّح على أنّ ما ينقل من أقوال تذكرها قلة تستهدف أصل الدين في قطعياته اليقينية الكبرى يخرج قطعا عن دائرة المعترف به إسلاميا, فهل يشك أحداً في ذلك , ما اقصده هل الإسلام عقيدة مشاعة تتغير بحسب العلاقات العامة بين الناس أم أنها ثوابت لدعوة الرسالة الخالدة و ومفاصلها لإنقاذ البشرية وتحريرها من جاهلية العقل واستبداد الإنسان , وهل قبِِل أصحاب الأفكار الوضعية كالرأسمالية والشيوعية أن يُغيروا ثوابت فلسفتهم لأجل علاقات عامة , فما بالك بالوحيين وتفسيرهما.. هل يُعدّلان .؟ لا احد يقول بذلك .
لقد أكدّ الإمام نزعته للوحدة ودعوته الذاتية لها قبل الآخرين , لكن الوحدة كما شرح الإمام هذه القضية , لا يُمكن أن تؤتي ثمارها ما لم تقم على احترام الحقيقة ونبذ أصل التفرقة , الذي تجسد بصورة واسعة منذ سقوط كابل وبغداد قي إعلام المعسكر الطائفي الإيراني وليس الشيعي المستقل وركز على كارثة الكوارث في الانحراف وتثبيتها في الوجدان , الذي يغلي بسبب هذا الخطاب في داخل بعض إخواننا من أبناء الطائفة الشيعية , من أنّ أصل الخلاف ممتد منذ التاريخ القديم حتى الزمن الحاضر مع معسكر السقيفة الأول الذي قاده أبي بكر الصديق بزعمهم ونقض حق الإمامة ونص العصمة وحقوق آل البيت سلام الله عليهم, ثم تجسيد هذا الموقف في حشد من التحريض الطائفي لا يمكن أن يُقال أن المقصودين به يعترف الطرف المهاجم بأنهم مسلمون .
فحين ينبه الإمام على أنّ هذه الفكرة الكارثية والعمل على تغذيتها لا يُمكن أن تُبقي جسورا للوحدة وقد شهد الناس تأثيرها في أعمال المليشيات المروعة في العراق , فهو يُعلن موقفه التاريخي كأبرز إمام لأهل السنّة في زماننا وهو يرقب أمانة التبليغ للرسالة والصيانة للأمة.
ما الذي حرك طهران؟
وخلال نفس المقابلة الصحفية أعقب الإمام توضيحه بقضية اعترف بها الإيرانيون بالتواتر من خلال حملتهم الشرسة على الإمام , فإشارة الإمام بان الدعوة إلى الطائفية ضد المجتمعات السنية في مناطقها يحمل نزعة استعمارية تستغلها طهران لتحقيق النفوذ التاريخي في حواضر العالم السُني , وهي بذلك تبني إمبراطورية قومية بخطاب طائفي تحريضي في لغته الدينية الخاصة في حين ترفع خطاب وحدوي تزعمه في إعلامها الرسمي , وكشف هذه الحقيقة التي تحدّث عنها الإمام قبل ذلك هو الذي جعل الإيرانيين ومدارهم يُطلقون الحملة العنيفة ضد ه .
الدليل من المُدعي
ولقد اختصر لنا القوم القضية في خطاب وكالتي فارس ومهرة الإيرانيتين وحشد من المواقع بقيادة الشيخ الكوراني , فلم يعد هناك أي داعي لإسناد أدلة على الأرض ففي نفس حملة المعسكر الطائفي الإيراني تم تبني هذا الأمر بقوة وهو أن الإمام بحسب تعبيرهم استفزهم توجه قطاعات ضخمة من شباب أهل السُنّّة إلى الاستجابة لدعوة الاستبصار !! أي نبذ منهاج أهل السنة والقول بعقيدة الطائفة الأخرى بحسب الخطاب الإعلامي .
فماذا بعد ؟؟ فاعتقد أن اعتراف هذه الأطراف يكفينا ردا لتوضيح موضوعية طرح الإمام ومصداقيته .
أمّا اللغة الرخيصة التي انتهجها الكوراني وحشده وغطتها الوكالتين بأن وكالة فارس قد سجلت شهادة فيديو لأحد أقارب الإمام بحسب زعمهم , ينبذ فيه منهاج أهل السنة فيكفينا فيها لغة الانحطاط في التخاطب التي تُبين لنا من هو الطائفي الاستئصالي ومن هو الوحدوي على المنهج الحقيقي .
ورغم أنني اشك دائما في مصداقية هذا المعسكر ولطالما نقل عن أقوام وشخصيات واجتزأ من تصريحهم إلى درجة لا يسع الإنسان إلاّ أن يتعجب من جُرأة هؤلاء الناس في البهتان , ولذا فلا يعنينا ما يلحنون عليه وإنما دندنتنا من دندنة بلال وشهادته على البيت العتيق , ويكفي ردا التذكير بان دعواهم قد سقطت لسبب بسيط فقد كان ذلك قول الإمام كرره مرارا قياما بشهادته على الناس وبلاغا للحق قبل شريطهم المنتظر وغدا سوف ننظر من يصدق له الحق في لغته وخطابه.
البعد السياسي وثقافة التحالف ضد الطائفة الأخرى
وحين نعود إلى الانكسار الفكري في هذه القضية وبصورة مركزية , نجدها قد برزت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول كمنهجية على الأرض تبنّت فيه الثقافة الطائفية الإيرانية موقفا تحريضيا للغرب على عموم المدرسة السُنيّة والتأكيد للغرب بان المدرسة الإسلامية لأهل السنة بذاتها بالفعل تحمل الفكر (الإرهابي).
وهو ما تجسد عمليا على الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع المدني العربي وتسبب إضافة للتدخل الشنيع في العراق , وما أعقبه من رعاية إيرانية إعلامية وثقافية مكثفة لشخصيات الاحتلال الرئيسية , في حدوث وتوتر الاحتقان الطائفي, وتجسد كذلك من خلال سيل من اللقاءات الإعلامية والثقافية والفكرية لمحور المعسكر الطائفي الايرني كُلها تُحرض على الفكرة الإسلامية السنيّة وسيادة أراضيها, فضلا عن ذلك السيل الهادر للقنوات الفضائية التي نشأت بعد الاحتلال وكانت رعايتها مزدوجة امريكيا وإيرانيا انتهجت إثارة العاطفة الهوجاء في لغة المآتم والوعاظ كلها تُجسِد مع الأسف الشديد لثارات الإمام الحسين عليه السلام ممن؟ من المجتمع الإسلامي الآخر وعليه فان مقاومة هذا المجتمع للاحتلال في العراق وأفغانستان هي محل استهداف ومناهضة وليس تضامن وتأييد .
وخلال هذه الحقبة عايشنا مباشرة ورصدا حركة تحالف قوية ومركزية بين التيار العلماني الاستئصالي الذي نفرزه عن التيار العلماني الوطني ذي المشتركات مع هوية الأمة وتطلعاتها الحقوقية ورفضه إن يكون تكيّةً للأجنبي .
أمّا التيار العلماني الآخر فقد اشتد تحالفه مع اللغة الطائفية وتبادل لغة التحريض على العالم السُنّي ومجتمعه المدني مع المعسكر الطائفي الإيراني .
هذه هي الحقيقة نُسجِلها كتحليل علمي واستعادة لنماذج واقعية , لكي نتعرف على من هو المُحرض الطائفي وأين كان الخلل , ولكن أصدقائنا في طهران ومدارهم يمارسون مثلا عربيا يتجسد لديهم على الواقع وهو قول القائل - رمتني بدائها وانسلت - .
تزامن التحرك لإسقاط الإمام مع صفقة واشنطن
قلت في مقدمة هذه الدراسة بأننا رصدنا ابتداءً حالة تصعيد واستراتيجية هجوم غير مسبوقة على شخصية الإمام وبالتالي مكانته ومدرسته المُتحدة في المنهج العام مع الأطياف السُنيّة كلها , بل والتنسيق في المشتركات مع المذهبيات الأخرى خارج المعسكر الطائفي التحريضي لإيران , ولذا فان تغيّر اللغة والانطلاق بعنف وقطع شعرة معاوية بغض النظر عن ما ستسفر عنه حملات العلاقات العامة مستقبلا وما سيبدونه للإمام من اعتذار , إلاّ أن السياق السياسي الاستراتيجي هو الأهم , وهو قناعة طهران بضرورة أن تزحف لمواقع أخرى بعد استبعاد خيار الحرب وعقد الصفقة , وهي الحرب التي رفضناها مرارا لوحدة الجغرافيا الإسلامية قبل مصالح المنطقة رغم إيماننا بعدائية المشروع الإيراني الاستعماري.
لذا فطهران ومدارها تسعى سريعا لتفعيل الآثار السياسية لهذه الصفقة , وهدفها في العقل الاستراتيجي الإيراني نحو ما ذكره السيد لاريجاني وغيره من أن الاعتراف بهيمنة إيران على المنطقة وتفهم التغيرات الاستراتيجية التي تأتي في هذا السياق , هو المطلوب أوربيا وأمريكيا وعليه وقد عُقدت الصفقة وان كانت بين طرفي صراع على النفوذ والمصالح وقد فصلّت ذلك في مقال سابق, فان طهرن حريصة على استغلالها قبل أي اضطراب يأتي أو تفوق قوى الممانعة الإسلامية في أفغانستان والعراق وحصدهم لآثار هزيمة الأمريكيين على يديهم , وهو ما تخشى طهران من آثاره على الجانب الفكري واللوجستي لمشروعها , ولذا فهي تندفع بقوة لتحصين مواقع زحفها ولذا شاهدنا ماذا فعلت من مواجهة دموية مع حركة التمرد لقبائل الجنوب العربية الشيعية في العراق التي نبذت كلا الاحتلالين.
من هنا نفهم اختلاط الطائفي الفكري بالسياسي الاستراتيجي وقرار طهران بدء الهجوم على الإمام القرضاوي خشية من العقبات التي تمثلها قوة الإمام في الساحة الإسلامية ومنهجه الوحدوي لها مع قطاعات عديدة من حركة القوميين العرب وقطاعات ثقافية أخرى .
والقضية المُهمة للغاية وضع الإمام في ذاكرة الأمة وحاضرها ودفعه المعنوي للمقاومة الراشدة التي تنبذ أي انحراف فكري أو دموي عن المنهاج الصحيح , وخاصة أنها في حالة صعود في فلسطين وأفغانستان وترتيب للصفوف في العراق , وهي قضية معروفة لتوجهات الإمام تولت واشنطن وتل أبيب التحريض العنيف عليه فيها , ولا تزال فكان من المهم أن تلتقط طهران في توقيت الصفقة هذا الحبل المشترك مع الأمريكيين لتحقيق الضربة المزدوجة , وهو ما خاب به ظنهم فيه وأقول ذلك كرؤية تحليلية قبل أن يكون موقفا وجدانيا , لقد خسر الإيرانيون الكثير بحملتهم وانتصر الإمام وقوى الممانعة العربية المستقلة وبقي أن تفطن تلك الشخصيات والقوى لحجم الاختراق الإيراني لديها , وكيف يوظف لمصلحة واشنطن وطهران معا , وان كنتُ لم اشهد حركة تضامن وحدوية سنية وعربية من عقود كما شهدتها بعد غزوة مهرة وفارس ولا أظنهم يغزونَ بعد اليوم.