د. جاسر عودة
شرفني فضيلة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بدعوتي إلى "ملتقى الإمام القرضاوي" الذي يتدارس فيه العلم مع تلامذته ومحبيه من كل مكان، والذين يشرفني أن أكون واحدا منهم، وكم كانت سعادتي بالغة حين طلب مني الشيخ أن أبحث وأكتب عن مقاصد الشريعة في منهجه وفقهه وفكره، فمقاصد الشريعة هي الموضوع الإسلامي الأثير لدي، والشيخ -حفظه الله- له مكانة خاصة في قلبي، فتضاعفت سعادتي بالكتابة عن الشيخ الأحب إلي في الموضوع الأحب إلي.
والحق أنه منذ أن تفتحت عيوننا على العلم والدعوة والفقه والفكر الإسلامي نشأت أتعلم من محاضرات الشيخ وكتبه وخطبه، وكنت أحرص على الحضور والاستفادة في كل مرة كان الشيخ يزور فيها القاهرة ليشارك في مسيرة الدعوة هناك، منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وفي التسعينيات -وكنت أعيش وقتها في كندا- كان الشيخ يكرمنا دائما بقبول دعوة رابطة الشباب المسلم العربي في أمريكا لحضور مؤتمرنا السنوي الحاشد الذي كنا نسعد فيه بمداخلات الشيخ وعلمه وفتاواه.
ثم إن عندي ركنا في مكتبتي فيه جُل كتب الشيخ -حفظه الله- وأحرص على أن أتابع الجديد دائما مما يخطه قلمه الرشيق، وينتجه عقله المتدفق.
الشاهد من ذكر هذا كله هو أن لي باعا بفكر الشيخ ومنهجه -جزاه الله خيرا- غير أنني حين راجعت كتب الشيخ هذه المرة لكي أكتب هذا البحث بعين "مقاصدية" -إن صح التعبير- كان في انتظاري مفاجأة!.
كنت قد وضعت تصورا نظريا لموضوع هذا البحث على هيئة جدول محتويات مبدئي قبل أن أشرع في مراجعة كتب الشيخ، وضعت هذا الجدول بناء على أحلامي وأمنياتي العلمية بأن أرى علم المقاصد يتسع ليشمل حكم التشريع في كافة دوائر التشريع، وأن يتعدى البحث في حكم العبادات إلى حكم المعاملات بأنواعها، بل وأدوات أصول الفقه؛ من دلالات، وقياس، واستصلاح، ومراعاة عرف، وسد ذرائع، وغيرها، حتى تكون المقاصد أصلا من الأصول، بل أصلا للأصول.
ثم إنني أضفت إلى جدول المحتويات المجرد هذا عناوين لموضوعات عن علاقة علم المقاصد بالإسلام بشكل عام؛ كمنهج حياة فكري واجتماعي وسياسي واقتصادي... إلى غير ذلك من جوانب الحياة، ووضعت عنوانا مفاده أن تكون المقاصد الشرعية فلسفة إسلامية جديدة يقوم عليها الإصلاح الإسلامي المعاصر، والتنمية البشرية الشاملة المرجوة للمجتمعات الإسلامية.
والحق أنني كنت أحسب أنني لن أستطيع أن أملأ هذه الفصول والأقسام التي تصورتها مبدئيا لبحثي هذا عن الشيخ، وكانت نيتي أن أحذف العناوين التي أجد -بعد مراجعة الكتب- أن الشيخ لم يكتب فيها، ولكنني حين شرعت في مراجعة أول مجموعة من كتب الشيخ كانت المفاجأة أنني وجدت فيضا من النظر المقاصدي والرؤى المقاصدية، فيضا يملأ كل الأقسام التي كنت قد قسمتها، بل ويزيد عليها أقساما وموضوعات أخرى ما كنت أحسب أن لها معالجات مقاصدية موجودة كما وجدتها عند الشيخ.
فمثلا، علاقة مقاصد الشريعة بالحوار بين المذاهب الإسلامية، وبقضايا الحريات السياسية، وبالتكافل الاجتماعي، كل هذه الموضوعات التي لم تكن في حسباني، وما كانت في تقسيمي النظري على تفصيله وإطنابه، فأضفتها إليه.
ومقصد "مراعاة الفطرة" لم أكن قد لاحظت في قراءاتي سابقا أن الشيخ القرضاوي قد كتب عنه، ولكنني جمعت فيه مادة وفيرة من كتب الشيخ، حتى انتهى بي الاستقراء إلى اعتباره ضمن ما أطلقت عليه: "المقاصد العامة الرئيسية في فكر الشيخ".
ووجدت ألوانا من "الفقه الجديد" -حسب تعبير الشيخ- لم أكن قد أدخلتها في خطتي، مثل: فقه السنن الإلهية، والفقه الحضاري، وكان من إبداعات الشيخ -حفظه الله- أن ربطها بعلم المقاصد ربطا... إلى غير ذلك من الموضوعات.
وإذًا فالبحث الذي خططت لكي يقع في عشرين أو ثلاثين صفحة يتسع حتى غدا كتابا متوسط الحجم، وقررت أن أقتصر على تقديم جدول المحتويات فقط في الوقت المتاح في الملتقى!.
فصول الدراسة
محتويات البحث -إذًا- تنقسم إلى فصول ستة وخاتمة، أعرض في الفصل الأول علاقة التكوين العلمي للشيخ بموضوع المقاصد، وأبدأ بعلماء السلف ممن كان لهم في علم المقاصد سهم بارز، واستقرأت أن الشيخ قد تأثر بهم وتبنى نظرياتهم، وأثنّي بنشأة الشيخ العلمية، والعلماء الذين عاصرهم و"علقوه بعلم المقاصد"، حسب تعبيره، ثم أذكر شيئا عن تطور النظر المقاصدي عند الشيخ نفسه في مراحل حياته كما ظهر لي من كتبه التي كتبها على مدار العقود، وأختم هذا الفصل الأول بنقول من بعض من كتبوا عن الشيخ حفظه الله، وممن تحدثوا عن علاقة الشيخ بعلم المقاصد ومنهجه فيه.
أما الفصل الثاني -وعنوانه: "أبعاد المقاصد وأهمية دراستها عند الشيخ القرضاوي"- فأعرض فيه أولا تعريفا بل تعريفات للمقاصد بأبعادها المختلفة كما وجدتها عند الشيخ، وأثنِّي بتحليل نواحي التجديد في هذه التعريفات تفسيرا ونقدا وإضافة، ثم أعرض المقاصد العامة الرئيسية التي أخذ بها الشيخ كما استقرأتها من فكره وفقهه، وهي مقاصد التيسير، والعدل، وعبادة الله، والدعوة، ومراعاة الفطرة، وختمت هذا الفصل بمبحث عن أهمية دراسة المقاصد وعلم المقاصد من كتابات الشيخ.
والفصل الثالث يعرض نماذج من المنهج الفكري للشيخ من خلال المقاصد، ويبدأ الفصل بمناقشة قضيتين فلسفيتين منهجيتين متعلقتين بالمقاصد، ألا وهما: قضية قطعية الاستقراء، وقضية تصنيف المذاهب الفكرية المعاصرة، ثم يعرض الفصل للنظر المقاصدي في نماذج من فكر الشيخ في مجالات السياسة، والاقتصاد، والأسرة، والمرأة، والحوار مع "الآخر".
أما الفصل الرابع فيتناول العلاقة بين المقاصد وفقه الشيخ -حفظه الله- ليس من باب الفتاوى المجردة، وإنما حاولت تحليل الأدوات الأصولية المنهجية عند الشيخ وعلاقتها بالمقاصد. ويتناول هذا الفصل الاجتهاد بنوعيه الإنشائي والانتقائي، والقياس، واعتبار تغير الظروف، والتفرقة بين الوسائل المتغيرة والمقاصد الثابتة، ومقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم في تصرفاته، وسد الذرائع وفتحها، والحكم بالمآلات، وقضية الحيل الفقهية، وأثر قصود المكلفين على المعاملات، وحِكَم وأسرار بعض العبادات والمعاملات، وأخيرا أبيِّن البعد المقاصدي في وقوف الشيخ على ظواهر النصوص أحيانا.
أما الفصل الخامس فأعرض فيه من كلام الشيخ تلك الأنواع من "الفقه الجديد" التي ترتبط ارتباطا عضويا بفقه المقاصد، ألا وهي: فقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه المآلات، وفقه السنن الإلهية، وفقه الأقليات المسلمة، والفقه الحضاري.
ــــــــــ
- أُلقيت مادة هذا البحث في أثناء فعاليات "ملتقى الإمام القرضاوي بين التلاميذ والأصحاب"، والذي أقيم بالعاصمة القطرية (الدوحة) في الفترة من 14- 16 يوليو 2007.