المؤتمر الذي دعا له الشيخ القرضاوي في مدينة الدوحة لدعم الحكومة والشعب في فلسطين لا بد أن يعتبر منعطفا مهمًّا في تطور الاجتماع العربي-الإسلامي، وليس كحدث سياسي فقط. الشيخ القرضاوي هو بالطبع واحد من أبرز العلماء المسلمين المعاصرين وأكثرهم تأثيرًا، والدعوة باسمه لعقد المؤتمر تحمل في حد ذاتها سلطة مرجعية.
ولكن الشيخ القرضاوي أيضا هو رئيس اتحاد علماء المسلمين، الذي يضم عددا كبيرا من علماء الأمة الإسلامية من المذاهب والبلدان كافة. وقد لعب الاتحاد دور الإطار لمؤتمر الدوحة، الذي قصد به أصلا أن يكون مؤتمرا للعلماء. وإلى جانب التأييد الذي أعرب عنه المؤتمرون للقضية الفلسطينية، ودفاعهم عن حق الفلسطينيين في اختيار الحكومة التي تدير شئونهم، والموقف الصلب الذي أعلنوا عنه تجاه سياسة محاصرة الفلسطينيين وتجويعهم، فإن المؤتمر يحمل دلالات من نوع آخر.
الاتحاد.. كإطار جامع وتاريخي!
أسس اتحاد علماء المسلمين قبل عامين فقط، في مؤتمر علمائي حاشد بمدينة لندن، بعد أن وجد منظمو المؤتمر صعوبة في عقده بإحدى العواصم العربية أو الإسلامية؛ وانتخب المؤتمر الشيخ القرضاوي رئيسا له. كان الهدف الرئيسي من تأسيس الاتحاد أن يصبح إطارا واسعا للعلماء، الذين لم تعد هناك من وسيلة للقائهم واجتماعهم وإعرابهم عن موقف جماعي من قضايا المسلمين والعالم.
وليس هناك من شك في أن مشروع الاتحاد استبطن تطورات تاريخية وأخرى حديثة. فعلى المستوى الحديث يمكن ملاحظة الأثر الذي تركته التطورات الهائلة في وسائل الاتصال، والتداخل البالغ في الاجتماع الإنساني. ففي تاريخهم كله لم يجمع العلماء المسلمين إطار واحد، بل جمعتهم ثقافة ولغة ومرجعية النص الإسلامي المؤسِّس. لم يكن ثمة طريقة، وبالتالي مبادرة، لتأطير علماء بغداد ونيسابور أو أصفهان والقاهرة، في تجمع منظم.
وبالرغم من ذلك، كان العلماء يعرفون بعضهم من خلال إنتاجهم المتداول، وآرائهم وفتاواهم المنقولة من بلد إلى آخر. كان العلماء يتحدثون لغة واحدة ويستخدمون مصطلحا مشتركا ويقطنون عالما رمزيا واحدا. ولم يكن من المستغرب بالتالي أن يدرس عالم من أواسط آسيا على آخر من شمال أفريقيا، أو أن يرجع عالم دمشقي إلى نصوص آخر يمني. ربما لعبت المذاهب والطوائف دورا ما في إقامة إطار متخيل للعلماء المنتمين لهذا المذهب أو تلك الطائفة؛ ولكن وضع وسائل الاتصال آنذاك لم يكن ليوفر طريقة لجعل هذا الإطار فعالا.
هذه المحاولة إذن، محاولة إقامة مؤسسة ثابتة وواضحة المعالم للعلماء، لا بد أن تقرأ أولا من خلال منظار العالم الحديث وقواه المتسارعة. فقد أصبح من الممكن أن يلتقي عدد كبير من العلماء في موقع واحد، وبعد جهود تنظيمية بسيطة نسبيًّا؛ كما أصبح من الممكن إقامة قنوات اتصال دائمة بينهم. ولكن الأهم، أن العالم الحديث ينزع للاعتراف بالكتل المنظمة، ولاسيما تلك العابرة للحدود والثقافات. وفي حقبة تكتل القوى والتيارات والمجموعات من كل صنف وخلفية، كان لا بد للعلماء المسلمين من التعبير عن أنفسهم من خلال إطار جمعي. ويمثل سعي الاتحاد لضم علماء سنة وشيعة اثني عشرية وزيدية وإباضــيين، وهي المجموعات التي تشكل الأغلبية الساحقة من المسلمين، عملا غير مسبوق في التاريخ الإسلامي.
الاتحاد.. كإطار فاعل ومستقل
بيد أن هناك عاملا تاريخيا لا يقل أهمية، يقف خلف تأسيس الاتحاد. فقد أطاحت حركة التحديث في العالم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر بالكثير من قوة ونفوذ طبقة العلماء المسلمين. وسواء خطط رجال الدولة التحديثيون في الدول الإسلامية والإدارات الاستعمارية أم لم يخططوا، فقد أدت برامج التحديث إلى تهميش متزايد لطبقة العلماء في المجتمعات الإسلامية.
كان العلماء هم القوة الاجتماعية النافذة والأكثر انتشارا في الاجتماع الإسلامي التقليدي: منهم القضاة والمفتون والمدرسون والمحتسبون وحراس الأوقاف، وهم الطبقة التي تصل بين الحكام وعموم الناس، وهم حراس الشريعة ومصدر خطاب المجتمع ورؤيته للعالم. ولكن حركة التحديث أدخلت مدرسة ومناهج من نوع جديد، أدخلت قضاء ومحاكم وقوانين جديدة، ولدت فئات وقوى اجتماعية جديدة. وبذلك تشظت المرجعية في المجتمع الإسلامي، ولم يعد العلماء هم القادة المتفردين للجماعة. وشيئا فشيئا، تضاءلت حتى نسبة المسلمين المنضوين في سلك العلماء.
وببروز دولة الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، عملت الدولة، ولاسيما في المجال السني، على السيطرة على مؤسسات العلوم الإسلامية والتحكم بطبقة العلماء، والتحدث مباشرة أو مواربة، باسم الدين والشريعة. بل إن أكثر المشاريع السابقة لإقامة تجمعات علمائية ارتبطت على هذا النحو أو ذاك بدول عربية أو إسلامية، وفشلت بالتالي في بناء مرجعية مستقلة لها، أو كسب شرعية كافية للتأثير في الاجتماع الإسلامي الحديث. فمؤتمرات هيئات الفتوى في رابـطة العالم الإسلامي، أو مجامع البحوث العلمية في الأزهــر الشريف، لا تجد الحد الأدنى من الاهتمام العام.
من زاوية النظر هذه يعكس اتحاد علماء المسلمين تحركا للحفاظ على ما تبقى من دور وموقع للعلماء المسلمين. بل ويمكن ملاحظة طموح لدفع الآثار السلبية لحركة التحديث ولو قليلا إلى الخلف، واستعادة بعض من النفوذ والقوة والتأثير الذي خسره العلماء خلال القرن ونصف القرن الماضيين. ما يعزز من هذا المشروع استقلاليته عن أنظمة الحكم؛ فالاتحاد لم تدفع لتأسيسه دولة ما، ولا يرتبط بمصالح هذا المحور أو ذاك من المحاور السياسية العربية أو الإسلامية، والواضح حتى الآن أنه يعتمد اعتمادا تاما في تمويل أعماله ونشاطاته على أعضائه والمهتمين من الأفراد والشخصيات وذوي القدرة من المسلمين.
الطبيعة المتغيرة للعلماء
كما أن الاتحاد يأخذ في الاعتبار الطبيعة المتغيرة لما يمكن تسميته بالعلماء المسلمين في العصور الحديثة. فقد برز خلال العقود الأخيرة عدد ملموس من الشخصيات الإسلامية المؤهلة للعب دور العالم، والتي اكتسبت علمها بجهود ودراسة خاصة لا الالتحاق بمراكز العلوم الإسلامية التقليدية، وبنت دورها في حقل العمل العام (نشاطا وكتابة) وليس بالضرورة من تسنم مواقع عمل علمائية تقليدية. هذه الفئة العلمائية الحديثة وجدت موقعا لها أيضا في الاتحاد.
كما يعزز من دور اتحاد علماء المسلمين أن عددا كبيرا من أعضائه البارزين يحافظ على علاقات جيدة بقوى الإسلام السياسي. وكانت هذه القوى قد تقدمت هي الأخرى في القرن العشرين لتحتل المساحة الخالية من مساحات تمثيل الإسلام والتحدث باسمه، عندما بدا وكأن طبقة العلماء قد تم استيعابها تماما في مؤسسة الدولة الحديثة.
بهذه العلاقات الجيدة مع التيارات الإسلامية السياسية، يعمل الاتحاد على استعادة ما أمكن من دور العلماء مع تجنب صدام لا طائل منه مع القوى الإسلامية السياسية. وبنجاح الاتحاد في افتتاح مقر أمانته العامة في مدينة القاهرة، أكبر المدن العربية-الإسلامية وأكثرها تأثيرا، يكون الاتحاد قد تجاوز إشكاليات الانعقاد في العواصم الأجنبية أو الاستقرار في مدن عربية أو إسلامية ثانوية الوزن.
مهمات.. ومحاذير
بيد أن الاتحاد يواجه مهمات ومحاذير كبرى قبل أن يصبح الإطار الأكثر تأثيرا ونفوذا في تعبيره عن طبقة العلماء المسلمين. أمام الاتحاد مهمة التوسع للوصول إلى أكبر قطاع ممكن من العلماء، ولاسيما أولئك المنضوين في تجمعات ومؤسسات وطنية، وأولئك الذين يفصلهم عن الاتحاد بعض من الشكوك والهواجس حول أهداف الاتحاد وخلفية قياداته. وأمام الاتحاد مهمة الارتقاء بتمثيل العلماء غير السنة من مستوى التمثيل الرمزي إلى مستوى التمثيل الحقيقي والجاد والفعال.
كما يجب أن يؤسس الاتحاد نهجا لعمله ونشاطاته، يحافظ على ثوابته ويستجيب لمتطلبات دوره، ويتجنب في الآن نفسه الصدام مع الدول وسياساتها أو الإيحاء بأن الاتحاد محاولة لتقويض سلطة الدولة الوطنية على شئونها الداخلية وشئون شعبها. ولكن الأمر الأهم الذي لا ينبغي أن يغيب عن الاتحاد وقادته أن الاعتبار الأول للعلماء المسلمين على مر التاريخ نبع دائما من النظر إلى كل منهم كفرد، يكتسب موقعه ونفوذه من العلم والتقوى والاستعداد لتحمل عواقب المسئولية العلمائية. العلماء المسلمون ليسوا مؤسسة شمولية، ليسوا كنيسة كاثوليكية صارمة المعتقد والوظائف، بل شخصيات مستقلة ومتميزة تجمعها مشتركات أساسية وعامة.
كما أن العلاقة بين العلماء وعموم المسلمين، ولاسيما في المجال السني، هي علاقة حرة، ضميرية، وتقديرية. فليس ثمة ما يجبر مسلما ما على اتباع مرجعية علمائية ما، ولا سلطة للعلماء على الناس سوى السلطة النابعة من الاختيار الحر للناس. وعلى الاتحاد أن يتجنب النزعة الطبيعية والمتوقعة في مثل هذه الأوضاع والأزمنة للتحول إلى سلطة أو مرجعية شمولية لأعضائه أو لعموم المسلمين، وأن يتذكر دائما أنه سيبقي الآلاف من العلماء خارج إطار الاتحاد، بعضهم على درجة عالية من العلم والتقوى والإحساس العميق بالمسئولية، وأن ملايين المسلمين لن يلتفوا حول الاتحاد ويقروا بمرجعيته إلا بعد امتحان طويل لمصداقيته ومصداقية مواقفه.
نشط اتحاد العلماء المسلمين خلال العامين الماضيين في تقصي حقائق الوضع السوداني وفي متابعة الشأن الفلسطيني وفي ملاحظة التطورات على صعيد العلاقة المتوترة بين العالم الإسلامي وما يعرف بـ الغرب، أو دول جانبي الأطلسي. وقد أعرب الاتحاد عن مواقفه تجاه الأحداث والتطورات المختلفة في تقارير وبيانات وفتاوى.
وإن كانت متابعتي لنشاطات الاتحاد على درجة كافية من الدقة، فإن مؤتمر الدوحة هو المؤتمر العلمائي الأول الذي يدعو إليه الاتحاد ورئيسه بهدف التصدي لقضية واحدة، التي هي على أية حال أكبر قضايا المسلمين وموقع إجماعهم. ولعل مؤتمر الدوحة يواصل ما انقطع من جهود في هذا المجال. فمنذ انفجار الصراع على فلسطين في العقود الأولى من القرن العشرين، عمل الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الفلسطينية، على حشد الرأي العام العربي والإسلامي لدعم الشعب الفلسطيني.
وكانت فتاوى ومؤتمرات العلماء، وأشهرها مؤتمر القدس العام في 1931، إحدى أهم أدوات هذا التوجه. ولكن مؤتمر الدوحة ليس مجرد استعادة لميراث الحاج أمين الحسيني، بل هو أيضا استعادة للميراث التاريخي الكبير لطبقة العلماء. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي جرت مياه كثيرة تحت أقدام طبقة العلماء المسلمين، وبات دورهم في النطق باسم الأمة والشرع مهددا ليس فقط بالآثار البالغة لحركة التحديث وبالنزعة الشمولية للدولة، بل بعدد متزايد من غير المؤهلين الذين زحفوا لاحتلال الفراغ الناجم عن تراجع وانكماش طبقة العلماء كذلك. بهذه المعاني المتداخلة لا بد أن يُرى الاتحاد ومؤتمره الأخير.
ـــــــــــــ
- نُشر هذا الموضوع للمرة الأولى في صحيفة القدس العربي في العام 2006