د. يوسف القرضاوي
الشريعة هي المنهج الرباني الذي أوحى الله به إلى رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم- ليضبط علاقة الناس بالله وعلاقتهم بعضهم ببعض، هذا المنهج الذي جاء به القرآن وجاءت به السنة النبوية وشرحه الفقهاء واستنبطوا فيما لا نص فيه حتى تكوّن الفقه الإسلامي، والشريعة هي وحي الله، أما الفقه فهو عمل العقل الإسلامي في فهم هذا الوحي والاستنباط منه لضبط وقائع الحياة وفق أمر الله تعالى ونهيه كما يفهمها العالِم المسلم، ولذلك قد يختلف الفقهاء بعضهم مع بعض ولكن الشريعة توجد داخل الفقه، ويعني هذا أنه لا يوجد انفصال بين الشريعة والفقه، والفقه منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني، ومنه ما هو من الأصول ومنه ما هو من الفروع، منه ما هو من الكليات ومنه ما هو من الجزئيات، فداخل هذا الفقه توجد الشريعة الإسلامية.
فالشريعة هي الجزء الثابت الذي لا خلاف عليه، ويمثل مجموعة معينة من الأحكام القطعية وهذه الأحكام هي التي عليها مدار بقية الأحكام وما يجري من اجتهادات فرعية لا بد من أن تكون في إطار هذه الأصول الكلية، بحيث لا تتصادم ولا تتناقض معها فهذا شأن الفقه مع الشريعة.
الدين عقيدة وشريعة
وعندما نقول بأن الدين عقيدة وشريعة، نعنى بالعقيدة أصول الإيمان.. الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر... إلى آخره، وهذه لا تغير فيها، حيث إن الله واحد وسيظل واحدا، الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، هذه أشياء ثابتة في آخرها جنة ونار، هذه لا تغير فيها، ولذلك الثبات أصل في العقيدة، فالشريعة تجمع بين الثبات والتطور أو الثبات والمرونة أو الثبات والتغير، بالنسبة لكلياتها ثبات، وبالنسبة لمقاصدها فإن الشريعة تهدف إلى تحقيق مقاصد معينة مثل المحافظة على الدين، المحافظة على النفس، المحافظة على النسل، المحافظة على العقل، المحافظة على المال، وهو ما يطلق عليه الكليات الخمس، هذه مقاصد لا تختلف ولا تتغير بتغير الزمان والمكان.
وتضبط القواعد الكلية أحكام الشريعة والاستنباط منها، مثل أن الأمور بمقاصدها، المشقة تجلب التيسير، لا ضرر ولا ضرار، الضرورات تبيح المحظورات، العادة محكمة.. قضايا كثيرة اسمها القواعد الشرعية، هذه أيضا ثابتة لأنها مبنية على استقراء أحكام كثيرة حتى قُننت هكذا. يوجد أيضا أحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه لا مجال للاجتهاد فيها، لا يدخلها التطور ولا التغير ولا التجديد، وهي التي تمثل الثوابت، ونقصد بها الثوابت الشرعية، إذ إن الصلوات خمس والزكاة ركنان من أركان الإسلام، والزكاة تصرف في كذا وكذا.. وهناك الحج مرة في العمر، والزنا محرم، والربا محرم... وكذا، هذه أحكام ثابتة لا تختلف باختلاف الزمان ولا المكان ولا بتغير العصر ولا تغير البيئة، هي في القرن الأول مثل القرن الخامس عشر مثل القرن الخمسين.. هذه أحكام ثابتة، إنما هناك فروع كثيرة ولذلك اختلفت فيها المذاهب، تجد هذه الفروع وهي أكثر أحكام الشريعة، فمعظم أحكام الشريعة فرعيات اختلفت فيها الأفهام، وتنوعت في الاستنباط منها المدارس المختلفة، المذاهب السنية الأربعة ومذاهب الشيعة ومذهب الإباضية ومذهب الظاهرية والأئمة والفقهاء الذين ليس لهم مذهب متبوع، اختلف هؤلاء وهذا الاختلاف من رحمة الله بالأمة؛ لأنه يعطيها فرصة للاختيار، فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لآخر، ويصلح لبلد ولا يصلح لآخر، ويصلح في حالة ولا يصلح في أخرى.
منطقة العفو
ويمكن للشريعة الإسلامية أن تجمع بين مفهوم الثبات والمرونة في ذات الوقت، ويعني ذلك وجود ثبات في الأهداف ومرونة في الوسائل، ثبات في الأصول ومرونة في الفروع، ثبات في الكليات ومرونة في الجزئيات؛ ولذلك فإن الفقيه المجتهد في مشاكل وقضايا الأمة والمجتمع في زماننا هذا يجد أمامه فرصة لذلك؛ فكما أن هناك أمورا ثابتة هناك أمور قابلة للتغير، وعندنا لذلك أسباب وعوامل كثيرة، أولا أن هناك منطقة في الشريعة اسمها منطقة العفو، ما معنى منطقة العفو؟ هي منطقة ليس فيها نصوص ملزمة، ليس فيها أوامر ولا نواهٍ تلزمنا بشيء، الله أرادها هكذا كما جاء في بعض الأحاديث: "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". تركها عمدا كما جاء في حديث أبي الدرداء: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم في كتابه فهو حرام، وما تركه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا"، ثم تلا قول الله تعالى: (ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيا). من هنا أخذنا تسمية هذه المنطقة المسكوت عنها، واسمها منطقة العفو منطقة فراغ من التشريع المُلزم، فنستطيع أن نملأها بالقياس على المنصوص عليه، أو نملأها بمراعاة المصلحة المرسلة .. بمراعاة الاستحسان .. بمراعاة العرف.. أدلة كثيرة فيما لا نص فيه، وهذا من رحمة الله عز وجل.
باب الاجتهاد مفتوح
والشريعة صالحة لكل زمان ومكان بأصولها قطعا، لأن التفاصيل يمكن أن تتغير، ولذلك نجد أن الشريعة دخلت بلاد الحضارات المختلفة، دخلت بلاد الشام ودخلت بلاد العراق التي كان فيها الحضارة الآشورية والبابلية، ودخلت مصر وفيها الحضارة الفرعونية، ودخلت بلاد الهند وفيها الحضارات المختلفة، ودخلت إيران وفيها الحضارة الفارسية، دخلت بلاد هذه الحضارات ولم تقف عاجزة ولا مكتوفة اليد أمام أي واقعة تقع، وكان من فضل الله تعالى أن الصحابة كانوا موجودين، أمثال عمر وأمثال علي وأمثال عثمان وأمثال ابن مسعود؛ فكان عندهم سعة أفق في معالجة كل قضية تحدث، ما ضاقت الشريعة بحادثة قط أبدا، ولذلك أرد على البعض الذي يقول إن هذه الشريعة جاء أصلها في بلاد الحجاز ولبلاد بعينها.. لا فقد دخلت بلاد الحضارات كلها ونشأ من ذلك فقه ثري خصب، ويعتبر أكبر مجموعة فقهية في العالم هي مجموعة الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه ومجالسه ومشاربه، توجد آلاف المجلدات التي خدمت هذه الشريعة، حيث عملت العقول العبقرية في خدمة هذا الفقه والاستنباط له وخصوصا في عصور الاجتهاد، الأربعة قرون الأولى كان فيها اجتهاد على كل مستوى، وحتى الآن حقيقةً الاجتهاد مستمر على الرغم من أنه قد يضيق في بعض الأحيان ويتسع في بعض الأحيان، ويزعم بعض الزاعمين أن باب الاجتهاد قد أغلق .. ولكن الاجتهاد ما زال مستمرا.
وردا على من يقول بأن الجانب البشري الاجتهادي من الفقه الإسلامي هو فقط القابل للتغير أما الجانب الإلهي ويعنون بها النصوص فهي لا تقبل التغير، أقول لهؤلاء ما معنى الجانب البشري والجانب الإلهي؟ هل يعني الجانب الإلهي النصوص، النصوص لا بد من أن يفهمها بشر، وهناك نص من القرآن أو نص من السنة، كيف نأخذ هذا النص؟ لا بد من أن يفهمه البشر، ولنتأمل قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا( ما معنى لامستم النساء؟ هل لمس البشرة ووضع اليد، أم الملامسة كما قال ابن عباس: الملامسة والمس واللمس في القرآن كناية عن الجماع، إن الله كريم يكني عما شاء بما شاء. هل هذا اللفظ يدل على الحقيقة أو يدل على المجاز؟ إذن فالمسألة ليست مسألة الجانب الإلهي والجانب البشري، إنما مسألة قطعي وظني، القطعي الذي لا مجال للاجتهاد فيه، والظني هو مجال للاجتهادات المستمرة، لا يستطيع أحد أن يوقف اجتهاد البشر في النصوص الظنية، فواحد يضيق وواحد يوسع، واحد ييسر وواحد يشدد، واحد ينظر إلى مقصد النص وفحواه وواحد ينظر إلى ظاهر النص وحرفيته، هذه طبيعة البشر في فهمهم النصوص مهما اختلفت.
ويفهم بعض الناس كلمة الاجتهاد في مورد النص بأن النص أي الدليل الشرعي يعني الآية أو الحديث. وهنا أود أن أوضح أن قول الأصوليين والفقهاء لا اجتهاد في مورد النص، يعنى النص الأصولي الذي لا يحتمل وجها آخر في تفسيره؛ فالنص الأصولي ليس هناك اجتهاد إذا ورد، إنما كلمة لا مورد.. ولا اجتهاد في مورد النص يعني إذا ورد لا بد من أن تجتهد.. قد نجتهد هل نقبل النص أو لا نقبله، حديث هل هو صحيح أم ضعيف؟ قد يختلف هذا في قبول الراوي، وقد يقول هذا: لا الراوي عندي غير ثقة، قد يأخذ هذا بالمرسل وهذا لا يأخذ بالمرسل، قد يقدم هذا الحديث على عمل أهل المدينة، ويقدم مالك عمل أهل المدينة على الحديث، وهكذا.. ففي قبول النص في فهم النص، والنص إذا كان بمعنى الدليل الشرعي أي إنه إذا كان عندنا آية واحدة، وجب الاجتهاد في فهمي كيف.. هل آخذه ولا أعرف ماذا يراد بهذا النص، إنما النص الذي يقولون بأنه لا اجتهاد معه هو النص الأصولي على أرجح الأقوال وهو ما لا يحتمل وجها آخر في فهمه أو تفسيره.
مبدأ الاجتهاد في العبادات
قد تطرأ بعض التغيرات بسبب تطور العصور، كتطبيق الصلاة في الفضاء، حساب الصوم بالحسابات الفلكية، تيسير الحج بسبب الزحام، وقضايا أخرى كثيرة.
ويقول بعض الناس: إنه لا اجتهاد في أمور العبادات على أساس أن العبادات أشبعت بحثا. ولكن لا بد من أن نعرف أن الاجتهاد نوعان، اجتهاد نسميه الاجتهاد الإنشائي الإبداعي، وآخر نسميه الاجتهاد الترجيحي الانتقائي، والانتقائي كما هو الحال في أقوال مأثورة كثيرة يختلف بعضها مع بعض، ونريد أن نرجح قولا من هذه الأقوال فنختار رأيا، ومعظم الاجتهاد في العبادات من هذا النوع، والبعض يقول لا مجال للاجتهاد الإنشائي الإبداعي في العبادات، إنما مع هذا قد يوجد في عصرنا وخصوصا إذا أدخلنا في العبادات الزكاة، لأن الزكاة عبادة من العبادات الأربع )الصلاة والزكاة والصيام والحج(؛ فالزكاة أصلها ضريبة وهي عبادة وضريبة، لا بد من أن نجتهد فيها، وأنا لي في فقه الزكاة كتاب يتألف من مجلدين ويضم اجتهادات كثيرة، لأنني وجدت أشياء في الحياة لم تكن توجد من قبل تحتاج منا اجتهادا.. حتى الصلاة الآن عندما صعد البشر إلى الفضاء، أصبح السؤال إذا أتيح للمسلمين الصعود أيضا أين تكون وجهة القبلة عند الصلاة؟ إذا نحن في حاجة إلى اجتهادات في أمور كثيرة، وخصوصا في الكيفية وفي أداء العبادات، يوجد أنواع كثيرة من الاجتهادات فليس باب الاجتهاد مغلقا لا في العبادات ولا في أشياء أخرى كثيرة غيرها، ولكن نحن أحوج ما نكون إلى الاجتهاد في المعاملات في أمور الحياة، أمور الأسرة وأمور المجتمع وأمور الأمة وأمور الدولة وأمور العلاقات الدولية، خصوصا أن الحياة تغيرت كثيرا عما كانت عليه من قبل، فلا يمكن أن نأخذ القديم على قدمه ونقول: "ما ترك الأول للآخر شيئا"، وليس في الإمكان أبدع مما كان، لا.. هناك حتى في العبادات وفي غيرها أمور كثيرة تحتاج منا أن نُعمل العقل بحيث نختار ما هو أصلح وما هو أليق بحال الفرد وحال الجماعة، وبحيث نحقق له المصلحة وندرأ عنه المفسدة، وهكذا جاءت الشريعة لتحقيق المصالح ودرء المفاسد.
ـــــــــــــ
- عن حلقة من برنامج "الشريعة والحياة" بعنوان "الشريعة بين الثابت والمتغير"، 29 ديسمبر 2004م.