محفل الدوحة المتمثل في مؤتمر حوار المذاهب الإسلامية كان مميزا وله صدى واسع في الأوساط الثقافية في المنطقة ولكن عادة ما تنتهي هذه المؤتمرات إلى ذكرى تسجل في تاريخ الوعي العربي وربما أثمرت عن مداخلات مباشرة وتقارير وبحوث تأخذ صفات الديمومة والنتيجة الحديثة النادرة من خلال ما توصلت إليه مطارحات وأوراق هذه المؤتمرات العديدة في الوطن العربي.
لكن التميز في مؤتمر الدوحة صنعه وكالعادة إمام الأمة الأكبر في هذا الزمان سماحة الوالد الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله بعد أن تبنى وعدد من العلماء والباحثين نقل المؤتمر من رسالة علاقات عامة متبادلة بين العرب وإيران تخفي واقعا ضخما وأحداثا استراتيجية كبيرة دون إشارة أو تسجيل لموقف أو تحديد لمسار.
فنقل الإمام المؤتمر إلى ما يُطلق عليه فقهاء الأمة (ما يترتب عليه العمل) في قاعدتهم الشرعية المدونة.
وكان تدخل الإمام في تغيير مسار المؤتمر نجاحا للمنظمين من الجانب العربي أي دولة قطر وإحالة قوية تعيد طرح المنبر الذي استقى منه عشرات الملايين في الوطن العربي والعالم الإسلامي والجاليات المسلمة في الشرق والغرب فكرهم ودينهم وهويتهم وقضاياهم وهو هنا مجدد - الإمام القرضاوي - إذ ليس من مصلحة قطر أو أي دولة عربية أن تختفي معالم القضية العراقية الفاجعة خلف عبارات الثناء والمجاملة المتبادلة.
وكان من الواجب أن يخرج المؤتمر إلى هذا الحيز الأكبر من تحديد المسارات والمواقف بناء على ما يحدث وبناء على ما يرجى فعله للخلاص من حالة الصراع والحرب الطائفية التي أشعلتها الشراكة الإيرانية القوية والمباشرة لاحتلال العراق وما بعده جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية الغازية وليس من المعقول والمتصور أن يُستثمر العربي لمصلحة مشروع واشنطن أو مشروع طهران حين يُحتل ويكون ضحية مرة أخرى ولم تهدأ الأوضاع بعد وما تزال مستعرة ولم تقدم القيادات السياسية والدينية لإيران أي موقف أو منهج أو حتى تهدئة تساعد على إخراج العراق من محنته فكان لابد من تسجيل هذا الموقف التاريخي الذي قام به الإمام وأعاد طرح الأسئلة المفصلية:
الأول: وقبل أي شيء يجب أن توقف طهران المذابح القائمة والشراكة الفاعلة في العدوان الدموي والسياسي الذي يعايشه العراق الآن وإلا فكيف تكون هناك أجواء مصالحه والحراب ما تزال في ظهور الشعب العراقي عبر الاحتلال أو عبر المليشيات أو عبر الحكومة التي ولدها الاحتلال وطالب بدعمها وكانت طهران وما تزال أكبر طرف يدعمها عسكريا وأمنيا وسياسيا وثقافيا.
الجانب الثاني الخطير والملتهب حملات التشهير الجديدة والحرب الفكرية اللا أخلاقية على جيل الصحابة الأول من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وباقي المهاجرين والأنصار وصولا إلى مرافئ التاريخ العربي والإسلامي الجليلة هذه المادة التي تزخر بها مطبوعات الإيرانيين وجامعاتهم والآن قنواتهم الفضائية الممتدة في الخليج والقضية ليست مجرد خلاف فكري عقائدي مستقل عن أرض المواجهة كلا.. بل هي في حقيقتها وقود خطير ومُمَزق لأي محاولة لردع الفتنة أو جمع الكلمة وهو ما أثبته واقع المشهد العراقي فكراهية الصحابة ولعنهم وتكفيرهم وبالذات الشيخين أصبحت وقودا للعديد من عمليات المجازر الجماعية التي ارتكبتها المليشيات وباركتها مرجعياتهم فكيف تكون تسوية لقضية مثل هذه دون إعلان واضح بيّن كما فعل أئمة الوحدة والتضامن الشيخ المؤيد والخالصي وغيرهما من الشخصيات العلمية والثقافية الشيعية ولماذا تُواجه مواقف الوحدة الحقيقية الصادرة من هؤلاء المخلصين بمناهضة من قبل طهران وقواها الثقافية وتهاجمهم على اعتدالهم وتوحدهم مع أشقائهم.
الجانب الثالث الذي ذكره الإمام وهو محل قلق شديد من علماء الأزهر الشريف وغيرهم بأن برنامج التبشير الذي تنفذه طهران بحماس كبير وجدي ومدعوم بمبالغ ضخمة لفكر التشيع الصفوي لا يدل أبدا على نية حسنة من هذا الطرف المقابل ولا على ما يردده بعض مندوبي العلاقات العامة لديهم بأنهم لا يرون حرجا ولا اختلافا كبيرا حسب ما يزعمون بين العقيدتين فإذا لماذا يطفح التبشير بهذه الصورة وهذا الحماس.
وانتقد الشيخ ومعه حشد كبير من مثقفي المنطقة عدم السماح لأي رأي يُعبر عن معاناة عشرات الملايين من مواطني إيران يمارس عليهم أبشع درجات الحرمان والحصار سواء في إقليم حوزستان ومواطنيه العرب سنة وشيعة أو عموم أهل السنة في إيران ولقد كان قمع المتحدث وهو الداعية الإسلامي المرموق د حامد الأنصاري رسالة مؤسفة جدا لهذا البعد والنسيج الاجتماعي المتداخل مع منطقة الخليج وهم أهلنا وإخواننا تمثل ذلك في تعامل رئيسة المؤتمر وهم يراقبون هذا الموقف عبر الفضائيات والصحافة.
إن من مصلحة إيران ومن واجبات أصدقائها أن تسعى حقيقة للمصالحة مع العمق العربي الإسلامي في الخليج ولكن ليس عبر الخطاب المزدوج إنما العمل الجاد على التجاوب مع ما طرحه الإمام الأكبر من حقائق ومسارات يجب أن يُشجع أصدقاء طهران في المشرق العربي الثورة الإيرانية عليها لا أن يشجعوها على العكس وبالتالي تُعزز الأرضية الخطيرة التي تهدد استقرار وتعايش الخليج وتدفع المنطقة إلى مواجهة كبرى لا يعلم عواقبها إلا الله ولن يصدق الناس مهما بلغت مسارات العلاقات العامة واختراق النخبة العربية وتسخير البعض منهم للدفاع عن إيران بحجة المواجهة مع واشنطن لن يقتنعون ما لم تتقدم طهران بخطوات عملية على الأرض لتثبت فعلا لا قولا سلامة نيتها وموقفها سواء في العراق أو خارجه.
لقد صدرت توجيهات الإمام وتلقاها الملايين بالقناعة والرضا وهو من هو في سعيه لجمع الكلمة ووحدة الصف والاعتدال التي تتجاوز الفتن ولكن مسؤوليته الكبيرة أمام أمته تجعله دائما يضع النقاط على الحروف ولا يمكن أن يتخلى عن دعم المقاومة العراقية وإنقاذ المدنيين الذين يجري دمهم أنهارا ولكنه وكما عرفه الناس سيبقى حصنهم وإمامهم يوم تدلهم الأمور وتتمايز المواقف ولقطر بكل وضوح مشكورة مقدرة شرف استضافة منبره واحترام رأيه وقوله وبلا شك أنه لمكسب تاريخي عظيم.
_____
نقلا عن صحيفة "الشرق" القطرية في 1-2-2007