د. يوسف القرضاوي

اشتهر في عصرنا لون جديد من التفسير، أطلق عليه "التفسير العلمي للقرآن"، ويقصد به التفسير الذي تستخدم فيه العلوم الكونية الحديثة: حقائقها ونظرياتها، لبيان مراميه، وتوضيح معانيه. والذين يُعنون بهذا اللون من التفسير في الغالب ويتحمسون له هم علماء الكون والطبيعة، وليسوا من علماء الدين والشريعة.

وعلماء الدين والشريعة يختلفون فيما بينهم حول جواز هذا اللون من التفسير، ومدى شرعيته، وفي الخمسينيات من القرن العشرين ثارت معركة جدلية على صفحات الصحف المصرية بين فريقين من علماء الدين حول هذه القضية، وأحسب أن الخلاف فيها لم يزل إلى يومنا بين منتصر لهذا الرأي ومنتصر لمخالفه. وقبل ذلك وجدنا من كبار العلماء الباحثين المحدثين المؤيدين والمعارضين، وإن كان المعارضون أكثر وأوفر.

معارضة الشيخ شلتوت

وجدنا من المعارضين الإمام الأكبر محمود شلتوت رحمه الله، الذي أنكر في مقدمة تفسيره على طائفة من المثقفين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وانتقلوا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية وغيرها، وأخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها، قال الشيخ عن هؤلاء:

(نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام: 38) فتأولوها على نحو زيَّن لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا، ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.

نظروا في القرآن على هذا الأساس، فأفسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن، وأفضى بهم إلى صورة من التفكير لا يريدها القرآن، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله.

هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك؛ لأن الله لم يُنزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.

وهي خاطئة؛ لأنها تعرّض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العالم ما يصبح غدًا من الخرافات.

فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة، لعرضناه للتقلب معها، وتَحَمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه. فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر، ليزداد الناس إيمانا مع إيمانهم.

وحسبنا أن القرآن لم يصادم الفطرة، ولم يصادم –ولن يصادم– حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول.

قيل: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حالة واحدة؟ فنزل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة: 189).

وإنك لتجد هذا في سؤالهم عن الروح حيث يقول الله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85) أليس في هذا دلالة واضحة على أن القرآن ليس كتابا يريد الله به شرح حقائق الكون، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح وتشريع؟)[1].

معارضة الشيخ الخولي وآخرين

ووجدنا من المعارضين الأستاذ الشيخ أمين الخولي في بحثه المركّز (التفسير: معالم حياته، منهجه اليوم) وقد نقل فيه رأي الشاطبي، واعتراضه على الذين أرادوا أن يخرجوا بالقرآن عن نهجه في مخاطبة العرب بما يفهمون، وفي إطار ما يعهدون من علوم ومعارف، ورد على الذين زعموا أن في القرآن علوم الأولين والآخرين، دينية ودنيوية، شرعية وعقلية.

وهو رأي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق، قاله في تقديمه لكتاب عبد العزيز (باشا) إسماعيل (الإسلام والطب الحديث)[2].

وهو رأي د.عبد الحليم محمود، والشيخ عبد الله المشد، والشيخ أبو بكر ذكري، أعلنوه في مقدمة تفسيرهم الموجز للقرآن، والذي كان ينشر في مجلة (نور الإسلام) لسان علماء الوعظ والإرشاد في الأزهر.

معارضة سيد قطب

وينحو صاحب (الظلال) سيد قطب -رحمه الله– هذا المنحى في تفسيره لآية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ)[3]، إذ يقول بقلمه البليغ: وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها... كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!.

إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها... لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكتشف هذه المعلومات وينتفع بها.. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان –بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره– كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب. وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.

كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانا عن الكون في طريقة لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه.. لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفرض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما نسميه (حقائق علمية) مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.

إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما ما يصل إليه البحث الإنساني –أيا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها... فمن الخطأ المنهجي –بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته– أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية. وهي كل ما يصل إليه العلم البشري.

هذا بالقياس إلى (الحقائق العلمية)... والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى (علمية).. ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه.. وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها... فهذه كلها ليست (حقائق علمية) حتى بالقياس الإنساني. وإنما هي نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، وإلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرا أدق! ومن ثم فهي قابلة للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب، وبظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!.

وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة –أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسفلنا– تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بالقرآن الكريم:

المعنى الأول:

الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسع الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.

والمعنى الثاني:

سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق –بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي؛ حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة!.

والمعنى الثالث:

هو التأويل المستمر –مع التمحل والتكلف– لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يوجد جديد، وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي، كما أسلفنا[4].

الإمام الغزالي والتفسير العلمي

والموضوع قد أثير من قديم، ويبدو أن أول من أثاره هو الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله، فقد ذكر في (الإحياء) قول ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن، ونحو ذلك من الأقوال، ثم قال: (وبالجملة، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها)[5].

وفي كتاب (جواهر القرآن) وهو مؤلف بعد (الإحياء) عاد إلى الموضوع وتوسع فيه. وفيه ذكر أن جميع العلوم (مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه لا ساحل له)[6].

ثم ذكر من أفعال الله تعالى الشفاء والمرض، كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء:80)، قال: وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من يعرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه... إلى أن قال: (لا يعرف كمال معنى قوله: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ) (الانفطار:6-8) إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنا، وعددها وأنواعها، وحكمتها ومنافعها... إلخ).. فهذان مثالان لتخريج الغزالي العلوم المختلفة من القرآن.

ومن هنا نفهم معنى قول الغزالي: إن علوم الأولين والآخرين ليست خارجة عن القرآن، فكأنه يقول: إن العلوم كلها خادمة لحسن فهم القرآن، كما أن القرآن نفسه يشير إليها، ويدل عليها، بصورة من الصور الضمنية أو الكلية.

وقد قال في الإحياء: (بل كل ما أشكل فهمه على النُّظَّار (علماء المعقول) واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، ففي القرآن إليه رموز، ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بدركها)[7].

ابن أبي الفضل المرسي والسيوطي

وجاء بعد الغزالي ابن أبي الفضل المرسي، والذي سجل السيوطي رأيه في (الإتقان)[8] وهو أشبه برأي الغزالي، فقد ذكر –فيما ذكر– أن أصول الصنائع مذكورة في القرآن كالخياطة في قوله: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ) (الأعراف:22)، والحدادة: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) (الكهف: 96)، والبناء في آيات[9]، والنجارة: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) (هود: 37)، والغزل: (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا) (النحل92)، والملاحة: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) (الكهف: 79)، والفخارة: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) (القصص: 38)... وهكذا.

وقد أيد السيوطي في (الإتقان) وكتاب (إكليل التأويل في استنباط التنزيل) هذا التوجه، واستدل له بالقرآن والحديث، وبقول ابن مسعود والحسن والشافعي وغيرهم.

أبو إسحاق الشاطبي والتفسير العلمي

ولقد رأينا الإمام أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله، قد عارض هذا التوجه في كتابه (الموافقات) معتمدا على أن الشريعة نزلت في الأساس لقوم أميين، فهي –على حد تعبيره- شريعة أمية، فلا ينبغي أن نخرجها إلى حد التكلف والتعقيد والتفلسف. وإن بالغ في ذلك، حتى تعقبه العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره (التحرير والتنوير)، كما تعقب بعضه العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على الموافقات[10].

بيّن الشاطبي أن الشريعة الإسلامية شريعة أمية؛ لأن الله بعث بها رسولاً أميًّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ) (الجمعة: 2)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) (متفق عليه، عن ابن عمر) فيلزم أن تكون الشريعة على معهودهم وفي مستواهم.

ثم بعد هذا البيان أوضح الشاطبي أن الشريعة – في تصحيح ما صححت، وإبطال ما أبطلت– قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، ثم يتوجه باللوم إلى قوم أضافوا للقرآن كل علوم الأولين والآخرين، مفندًا هذه الدعوى قائلاً:

ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها –وهم العرب– ينبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا -في الدعوى على القرآن– الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم [كالهندسة وغيرها من الرياضيات] والمنطق وعلوم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح[11].

ثم يدلل الشاطبي على رأيه هذا ويحتج له بما عرف عن السلف من نظرهم في القرآن فيقول: (إن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه شيء مما زعموا، نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودهم مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا)[12].

ثم شرع الشاطبي بعد هذا في ذكر الأدلة التي استند إليها أرباب هذا التفسير (التفسير العلمي) فقال: (وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89)، وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام: 38).. ونحو ذلك، وبفواتح السور –وهي لم تعهد عند العرب– وبما نقل عن الناس فيها، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء).

بعد ذلك طفق الشاطبي ينقض هذه الأدلة، واحدا بعد الآخر بمنطقه القوي، فقال رحمه الله: (فأما الآيات: فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ): اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.

وأما فواتح السور: فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا، كعدد الجُمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك, أما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون, ولم يدّعِهِ أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقوّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق)[13].

ومنطق الشاطبي هنا منطق قوي، وأدلته لا مطعن فيها، إلا ما كان من اعتماده على (أمية الشريعة) بناء على أمية الأمة. ذلك أن أمية الأمة ليست أمرًا مطلوبًا ولا مرغوبا فيه، بل بعث الله رسوله في الأميين رسولاً ليخرجهم من الأمية إلى باحة العلوم والنور، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2) فهذه مهمة الرسول مع الأميين: التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة ولا عجب أن كانت الآيات الأولى من الوحي تنبئ بذلك: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1-5)، وأقسم سبحانه بالقلم فقال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم: 1).

فالأمية ممدوحة في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أدل على الإعجاز وليست ممدوحة في الأمة، وعلى الأمة أن تتحرر منها ولتتعلم وتتفقه وتنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، وقد قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9).

ولقد كان الرسول الكريم هو أول من حارب الأمية، كما رأينا ذلك حين قبل في أسرى بدر أن يفتدي بعضهم نفسه إذا كان كاتبا، وأن يعلم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة. من أجل هذا لا نقبل فكرة أمية الشريعة إلا إذا حملت على معنى الفطرية والسهولة، والبعد عن التكلف والتعقيد، وبالله التوفيق.

---------

[1] مقدمة تفسير الشيخ شلتوت ص11-14 طبعة دار الشروق بمصر

[2] ذكر ذلك الدكتور الذهبي في الجزء الثاني من كتابه (التفسير والمفسرون) ص495،496 طبعة المختار الإسلامي سنة 1985 نشر مكتبة وهبة.

[3] وهي قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج...) البقرة : الآية 189

[4] في ظلال القرآن ج 1 م 180- 182 طبعة دار الشروق

[5] الإحياء 1/289 دار المعرفة بيروت.

[6] انظر جواهر القرآن ص32-34.

[7] إحياء علوم الدين، الموضع السابق.

[8] في النوع الخامس والستين: في العلوم المستنبطة من القرآن، 4/27-31.

[9] أي في مثل قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (البقرة 127).

[10] انظر الموافقات وتعليقات دراز 2/69 وما بعدها.

[11] الموافقات 2/79.

[12] الموافقات 2/79-80.

[13] الموافقات 2/81-82

*مقتبس من كتاب العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: "كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟".