د. يوسف القرضاوي

يستحب للصائم تعجيل الإفطار، فقد رغب في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله وفعله. ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" (متفق عليه من حديث سهل بن سعد، كما في اللؤلؤ والمرجان -668). وإنما أحب التعجيل لما فيه من التيسير على الناس، وكره التأخير لما فيه من شبهة التنطع والغلو في الدين، والتشبه بأهل الأديان الأخرى الذين كانوا يغلون في دينهم.

فعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون" (رواه أبو داود في الصوم (2353)، وابن ماجه (1698)، وابن خزيمة (2060)، والحاكم (431/1) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي) .

ومعنى التعجيل: أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر. وفي الحديث الصحيح: "إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" (متفق عليه من حديث عمر، اللؤلؤ والمرجان -668). ويكفيه في ذلك أن يغلب على ظنه غروبها، فالظن الغالب يكفي في هذه الأمور، كما في القبلة وغيرها، وقد أفطر المسلمون في عهده عليه الصلاة والسلام، وهو معهم، ثم طلعت الشمس.

وكان من سنته العملية عليه الصلاة والسلام: ما رواه أنس خادمه: أنه كان يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات، فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء (رواه أحمد -164/3، وأبو داود -2356، والترمذي -696). ويقول أيضًا: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة المغرب حتى يفطر، ولو على شربة من ماء (رواه أبو يعلي وقال الهيثمي في "المجمع": رجاله رجال الصحيح -155/3، وابن خزيمة -2063، وابن حبان -3495).

وقال عليه الصلاة والسلام: "من وجد التمر فليفطر عليه، ومن لم يجد التمر، فليفطر على الماء، فإن الماء طهور" (رواه عبد الرزاق في مصنفه (7586)، وأحمد (17/4، 18)، وأبو داود (2355)، والترمذي (694)، وابن ماجه (1699)، وابن خزيمة (2067)، وابن حبان (893)، والحاكم (431/1، 432)، وصححه ووافقه الذهبي. والأمر هنا للاستحباب عند الفقهاء كافة، إلا أن ابن حزم شذ، فجعله للوجوب على قاعدته، وأوجب الفطر على التمر إن وجده. وإلا فالماء).

والبلاد التي لا يوجد فيها الرطب أو التمر، يغني عنها بعض الفواكه الأخرى أو شيء من الحلو. وينبغي أن يلزم الاعتدال في تناول الطعام، فلا يسرف ويكثر إلى حد التخمة، فيُضَيِّع حكمة الصيام الصحية، كما يفعله كثير من الصائمين.

السحور وتأخيره

ومما سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم للصائم أن يتسحر، وأن يؤخر السحور. السحور: ما يؤكل في السحر، أي بعد منتصف الليل إلى الفجر، وأراد بذلك أن يكون قوة للصائم على احتمال الصيام، وجوعه وظمئه، وخصوصًا عندما يطول النهار.

ولذا قال: "تسحروا فإن في السحور بركة" (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -665). وفيه تمييز كذلك لصيام المسلمين عن غيرهم، وفي الصحيح: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر" (مسلم -1096، وأبو داود (2343)، والنسائي (2168)، والترمذي (907) عن عمرو بن العاص).

والأصل في السحور أن يكون طعامًا يؤكل، ولو شيئًا من التمر، وإلا فأدنى ما يكفي شربة من ماء. روى أبو سعيد اخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين" (قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد، وإسناده قوي. وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3683)، عند ابن حبان (883، 884) عن حديث ابن عمر: "تسحروا ولو بجرعة ماء").

ومن بركة السحور: أنه - بجوار ما يهيئه للمسلم من وجبة مادية - يهييء له وجبة روحية، بما يكسبه المسلم من ذكر واستغفار ودعاء، في هذا الوقت المبارك، وقت السحر الذي تنزل فيه الرحمات، عسى أن يكون من المستغفرين بالأسحار.

ومن السنة تأخير السحور، تقليلاً لمدة الجوع والحرمان، قال زيد بن ثابت: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، فسأله أنس: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين آية (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -666). وقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة:187) تفيد جواز الأكل إلى أن يتبين الفجر.

ومن شك هل طلع الفجر أم لا، جاز له أن يأكل ويشرب حتى يستيقن، وهكذا قال حبر الأمة ابن عباس: كل ما شككت حتى تستيقن. ونقله أبو داود عن الإمام أحمد: أنه يأكل حتى يستيقن طلوعه. بل روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن حذيفة قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النهار، إلا أن الشمس لم تطلع (ذكره ابن كثير في تفسيره -222/1).

وحمله النسائي على أن المراد قرب النهار. عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه" (رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي 426/1). وعن عائشة: أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم: فإنه لا يؤذن، حتى يطلع الفجر" (البخاري في الصوم).

قال ابن كثير: "وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف: أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر، روي مثل هذا عن أبي بكر، وعمر، وعلى، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعن طائفة كثيرة من التابعين، منهم محمد بن علي بن الحسين، وأبو مجلز، وإبراهيم النخعي، وأبو الضحى، وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود، وعطاء والحسن، والحكم بن عيينة، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإليه ذهب الأعمش، وجابر بن راشد" (تفسير ابن كثير -222/1 ط. عيسى الحلبي).

ومن هنا نعلم أن الأمر في وقت الفجر، ليس بالدقيقة والثانية، كما عليه الناس اليوم، ففي الأمر سعة ومرونة وسماحة، كما كان عليه الكثير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين. وما تَعَوَّدَه كثير من المسلمين من الإمساك مدة قبل الفجر من قبيل الاحتياط مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكتابة ذلك في الصحف والتقاويم والإمساكيات مما ينبغي أن يُنكر.

قال الحافظ ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام، زعمًا ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس. وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت - زعموا - فأخَّروا الفطور وعجَّلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قل عنهم الخير، وكثر الشر، والله المستعان"! (فتح الباري -102/5 ط. الحلبي).

...............

* من كتاب "فقه الصيام" لفضيلة الشيخ.