السؤال: قرأت في بعض الكتب حديثًا منسوبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه" فأنكرت ذلك؛ لأن القاعدة التي قررها القرآن أن الإنسان لا يسأل عن ذنب غيره {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فكيف يتفق هذا مع تعذيب الميت بذنب الحي وبكائه عليه؟! فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ وإذا كان صحيحًا فما معناه؟ وكيف نوفِّق بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم؟
جواب سماحة الشيخ:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
أما الحديث فهو صحيح متفق على صحته بلا ريب، أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر بلفظ: أن حفصة بكت على عمر (أي حين طُعن) فقال: مهلًا يا ابنتي! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
وفي رواية: لما طُعن عمر أغمى عليه، فصيح عليه، فلما أفاق: قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي" ورواه الشيخان أيضا من حديث أنس. ولهما عن عمر: "الميت يعذب في قبره ما نيح عليه". ورواه الشيخان وأحمد والترمذي عن المغيرة بلفظ: "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه".
والمهم أن الحديث ثابت عن أكثر من صحابي بأسانيد صحيحه، ومن وجوه عديدة، حتى قال السيوطي: متواتر. فلا مجال للطعن في صحته، ولم يبق إلا البحث في معناه، والتوفيق بينه وبين الآية الكريمة. وهذا ما حاوله العلماء من قديم، وذكروا فيه عدة تأويلات، نقلها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
وأكتفي هنا بذكر أهمها وأرجحها، غير متقيد بترتيب الحافظ.
الأول: أن المراد بالعذاب هو العذاب بمعناه اللغوي وهو: مطلق الألم، لا العذاب الأخروي، فالميت يتألم بما يرى من جزع أهله، وما يسمع من بكائهم عليه، فمن المعلوم أن الميت يتألم في قبره غير معزول عن أهله وقرابته وأحوالهم. وقد روى الطبري بإسناد صحيح عن أبي هريرة: "أعمال العباد تُعرَض على أقربائهم من موتاهم" وهو موقوف في حكم المرفوع، إذ لا مجال للرأي فيه. وله شاهد من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا. أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم.
قال الحافظ: وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة: "قلت: يا رسول الله، قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة، ثم أصابته الحمى فمات، ونزل علي البكاء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفًا، وإذا مات استرجع؟! فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا موتاكم!".
وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه بن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم، وأخرج أبو داود والترمذي طرفًا منه. قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة، فلا يعدل عنه.
الثاني: أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يعذبه أهله، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعًا: "الميت يعذب ببكاء الحي: إذا قالت النائحة: وا عضداه! وا ناصراه! وا كاسياه! جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟".
ورواه ابن ماجه بلفظ: "يتصنع به، ويقال: أنت كذلك؟". ورواه الترمذي بلفظ: "ما من ميت يموت، فتقوم نادبته فتقول، وا جبلاه! وا سنداه أو شبه ذلك من القول؛ إلا وكِّل به ملكان يلهذانه: أهكذا أنت؟". وشاهده ما روى البخاري في "المغازي" من حديث النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي وتقول: وا جبلاه! وا كذا، وا كذا! فقال حين أفاق: "ما قلت شيئًا إلا ما قيل لي: أنت كذلك؟".
الثالث: ما اختاره الإمام البخاري، وجزم به: أن المراد بالبكاء في الحديث بعضه، وهو النوح، والمراد بالميت بعض الموتى أيضًا، وهو من كان النوح من سنته وطريقته، فكان أسوة سيئة لأهله، أو عُرف أن لهم عادة بفعل ذلك، فأهمل نهيهم عنه.
واستدل البخاري لذلك بأدلة ذكرها في ترجمة الباب، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، وحديث: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته"، وحديث: "لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها؛ وذلك لأنه أول من سَنَّ القتل".
ومقتضى هذا أن الميت إنما يعذب لتقصيره في تربية أهله، وإهماله في تأديبهم وتعليمهم، وضعف رعايته لما حمله الله من مسئولية عنهم، وهو المأمور أن يقيهم النار كما يقي نفسه. فالحقيقة أنه يُعاقب بتفريطه وذنبه هو لا بذنب أهله، أي أنه لم يزر وزر غيره.
ومما يؤيد هذا التأويل أن مِن العرب في الجاهلية مَن كان يوصي أهله أن يندبوه، وينوحوا عليه بعد موته، كما قال طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ** وشقي على الجيب يا ابنة معبد
أما البكاء من غير نوح فلا عقاب عليه، وقد جاء عن أبي مسعود الأنصاري، وقرظة بن كعب قالا: "رُخِّص لنا في البكاء عند المصيبة في غير نوح". أخرجه ابن شيبة، والطبراني، وصححه الحاكم.
قال الحافظ بعد نقل هذه الوجوه التي ذكرناها وغيرها: "ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلًا: مَن كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك، عُذِّب بصنعه. ومَن كان يُعرف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها؛ فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راضٍ عُذِّب بالتوبيخ: كيف أهمل النهي؟ ومَن سلم من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه، وفعلوا ذلك؛ كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب".
وهناك وجه ذكره العلامة المناوي في "الفيض"، وهو: أن المراد بالميت في الحديث المشرف على الموت، والتعذب: أنه إذا احتضر، والناس حوله يصرخون ويتضجرون يزيد كربه، وتشتد عليه سكرات الموت، فيصير معذبًا به.
قال العراقي: والأولى أن يقال: سماع صوت البكاء هو نفس العذاب، كما أننا نعذب ببكاء الأطفال. فالحديث على ظاهره بغير تخصيص، وصوَّبه الكراماني اهـ. فالعذاب هنا بمعناه اللغوي كما في الوجه الأول، ولكن هنا فسّر الميت بالمحتضر.
وبهذا يتضح لنا، أن الحديث لا يعارض القرآن في تقرير مبدأ المسئولية الفردية وأن لا مغمز في ثبوته وصحته، مادام له أكثر من وجه صحيح لتأويله.
قال العلامة المناوي: قال بعض الأعاظم: وبما نقرر عُرِف خطأ من جمد عندما سمع {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أو غلط رواة هذا الخبر، وما هو على نحوه من صحاح الأخبار التي رواها الأعلام عن الأعلام إلى الفاروق وابنه وغيرهما.
ومما لا بد من ذكره في هذا المقام: أن السيدة عائشة رضي الله عنها ظنت ما ظنه الأخ السائل حين سمعت هذا الحديث، فأنكرت على من رواه، متوهمة أنه يعارض الآية الكريمة، واتهمت من رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما بالخطأ أو النسيان، وأنه لم يسمع الحديث على وجهه، ففي رواية عند مسلم قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه". وفي رواية لها: "إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها" رواه البخاري.
وفي رواية أخرى قالت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا، ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيها إشعار بأنها لم ترُدّ الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرت من معارضة القرآن.
على أن الرواية الأخيرة لعائشة أثبتت فيها أن الميت يزداد عذابًا ببكاء أهله، وأي فرق بين أن يزداد عذابًا بفعل غيره، وأن يعذب ابتداءً به؟! فلو أُخذ على ظاهره أيضًا لعارض القرآن؛ ولهذا لم يرتض العلماء موقف عائشة -ولا عصمة لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة والنسيان، أو على أنه سمع بعضًا، ولم يسمع بعضًا - بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعائشة أم المؤمنين لها مثل هذا نظائر، ترُدّ الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد، واعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك. اهـ.