د. يوسف القرضاوي

الصيام المأمور به، والمُرغَّب فيه في القرآن والسنة إنما هو ترك وكف وحرمان، وبعبارة أخرى: إمساك وامتناع عن الاستجابة لما كان مباحًا من شهوة البطن، وشهوة الفرج، بنية التقرب إلى الله تعالى.

فهذا هو الصوم الشرعي: إمساك وامتناع إرادي عن الطعام والشراب، ومباشرة النساء وما في حكمها، خلال يوم كامل: أي من تَبَيُّن الفجر إلى غروب الشمس، بنية الامتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.

والدليل على أن الصيام الشرعي هو الإمساك عن الشهوتين كما ذكرنا، قوله تعالى في بيان أحكام الصيام في سورة البقرة: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة:187)، فقد بينت هذه الآية الكريمة حقيقة الصيام المأمور به في الآيات قبلها، وبينت مدته كذلك..

فقد أباحت الآية المباشرة بين الرجال والنساء، أي الأزواج والزوجات، معللة ذلك بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}، كما أباحت الأكل والشرب كذلك طوال الليل، حتى يتبين الفجر، ثم أمرت بإتمام الصيام من الفجر إلى الليل، ويدخل بغروب الشمس، كما سيأتي.

يؤكد ذلك من الحديث الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع طعامه وشهوته من أجلي" (متفق عليه)، وفي بعض روايات الحديث: "يدع طعامه من أجلي، ويدع شرابه من أجلي، ويدع شهوته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي" (رواه ابن خزيمة في صحيحه).

ويبدو أن هذا المعنى للصوم كان معروفًا لدى العرب قبل الإسلام، فقد صح أنهم كانوا يصومون عاشوراء في الجاهلية؛ تعظيمًا له؛ ولهذا لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء، ثم أمرهم بصيام رمضان كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فهموا المعنى المقصود، وبادروا إلى تنفيذه.

ولما سأل الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر له الصلوات الخمس وصوم رمضان، لم يسأله عن معنى الصوم؛ لأنه كان معلومًا لديه، ولكن سأله: هل عليَّ غيره؟

هذا الصوم الإسلامي هو أفضل أنواع الصيام، التي عرفها البشر، فبعض أصحاب الأديان يصومون عن كل ذي روح فقط، ويأكلون ما لذَّ وطاب من ألوان الطعام والشراب، كما لا يصومون عن شهوة الفرج.

وبعضهم يصوم صيامًا يمتد أيامًا، فيجهد البدن، ويشق على النفس، ولا يقدر عليه إلا الخاصّة، أما الصيام الواجب في الإسلام فهو لكل المسلمين المكلَّفين، خاصتهم وعامتهم.

.....

- المصدر: "فقه الصيام" لفضيلة الشيخ.