تلقى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي سؤالا مفاده: من المعروف لدى المتدينين عامة، بأي دين كان، أن كل دين يطلب من أتباعه الاعتزاز به، والولاء له، والمودة لكل من آمن به، والكفر بكل ما سواه، واعتقاد أنه وحده على الحق، وكل ما سواه هو الباطل، والإسلام أحد هذه الأديان ولا شك.
وربما زاد هذا الأمر حدة عند بعض المتدينين، فانتهت به غيرته على دينه إلى معاداة كل المخالفين له، وإضمار الكراهية لهم، والحقد عليهم، بل قد يتفاقم ذلك إلى حد الاعتقاد باستباحة أموالهم ودمائهم، ولا يرى في ذلك إثمًا ولا حرجًا، بل قد يظن أنه يتقرب بذلك إلى الله تعالى!!
وهذا - ولا ريب - أمر في غاية الخطورة عندما يكون المخالفون أخوة في الوطن وجزءًا من شعب واحد يـضم المسلمين وغير المسلمين، فهنا يـتمزق الصف، وتتفرق الكلمة، ويتعامل الجميع من خلال سوء الظن والخوف، ويزداد الأمر سوءًا وشرًا إذا تنبهت لذلك القوى الأجنبية الماكرة، فزادت من أسباب الفرقة ونفخت في الجمرة حتى توقد وتحرق الجميع وهي تتفرج.
لهذا نرجو من فـضيلتكم إلقاء الـضوء على هذه القـضية، وبيان موقف الإسلام من غير المسلمين وخصوصًا إذا كانوا أقلية في وسط أكثرية مسلمة، وذلك حتى لا يساء فهم الإسلام، أو يظلم بتصرفات بعض أبنائه، الذين لم يحسنوا فقهه ولا العمل به.
نفع الله بكم، وزادكم توفيقًا.
وردا على هذا السؤال، قال فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
بسم الله، والحمـد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد... فهذه القضية - موقف الإسلام من غير المسلمين - من أهم القضايا التي يجب أن توضح فيها الحقائق، وتزال الشبهات، وتصحح الأفهام، من أهل العلم الراسخ، حتى لا ينسب إلى الإسلام ما هو براء منه، وحتى لا يقع بعض أبنائه في أخطاء أو انحرافات يرفضها الإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.وقد كتبت في ذلك كتابًا نشر في عدة أقطار، وطبع عدة مرات، وترجم إلى عدة لغات، وهو: "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي".
حقائق يجب التنبيه عليها: وخلاصة ما يحسن قوله هنا - قبل بيان موقف الإسلام - نركزه في الحقائق التالية:
أولا: لا يجوز أن تحمل تصـرفات بعض المسلمين ـ ممن ضاق أفقهم أو ساءت تربيتهم ـ على الإسلام.
فمن المقطوع به: أن الإسلام حجة على المسلمين. وليس المسلمون حجة على الإسلام.. وكم ابتلي الإسلام بأناس ينسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم يؤذونه بسلوكهم أكثر مما يؤذيه أعداؤه الذين يكيدون له خفية، أو يقاتلونه جهرة، وقديمًا قالوا: عدو عاقل خير من صديق أحمق، وقال الشاعر: لكل داء دواء يستطب به ** إلا الحماقة أعيت من يداويها
ثانيًا: إن هؤلاء الجهال والحمقى ممن يتعصبون ضد مخالفيهم في الدين، ويسيئون التعامل معهم بلا مبرر، وينتهي ببعضهم الغلو إلى استباحة أموالهم أو دمائهم، هؤلاء لم يسلم من أذاهم أيضًا إخوانهم في الدين من المسلمين، بل هم يبدأون بالتطاول عليهم، والاتهام لهم في إيمانهم وتدينهم، إلى حد قد ينتهي بتكفيرهم وإخراجهم من الملة والتقرب إلى الله باستباحة حرماتهم، وهذا ما يفعله الغلو والتنطع بأهله. وهذا ما رأيناه في الخوارج قديمًا، ولمسناه في خلفائهم حديثًا، ومبعث ذلك هو الغرور الخفي، والعجب القاتل، الذي يجعل صاحبه ينظر إلى نفسه أنه مَلَك، وأن الآخرين كلهم شـياطين. والإعجاب بالنفس أحد المهلكات.
ثالثا: إن هذا التعصب الذي نراه ونلمسه عند بعض المتدينين، كثيرًا ما تكون أسبابه غير دينية، وإن لبس لبوس الدين، بل قد تكون أسبابه ـ عند الدراسة والتعمق ـ أسبابًا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ولهذا تراه يظهر في بعض المناطق دون بعض؛ لأن الظروف الاجتماعية بملابساتها وتعقيداتها الموروثة، هي التي بذرت هذه البذرة وساعدت على نموها، فمن الظلم للحقيقة أن يتهم الدين بأنه وراء هذه السلوكيات المتطرفة.
رابعا: إن بعض ما نراه من التعصب لدى بعض المسلمين، قد يكون رد فعل لتعصب آخر من إخوانهم ومواطنيهم من غير المسلمين، وليس من الإنصاف أن نتهم الأكثرية دائمًا بالتعصب ضد الأقلية، فكثيرًا ما تندفع الأقلية أو أفراد منها تحت تأثير مشاعر الخوف ـ وإن لم يكن له أصل - والشائعات والمبالغات إلى تصرفات تتسم - أو تفسر- بالكيد للأغلبية، وفي هذا الجو الذي تتزلزل فيه الثقة بين عناصر الوطن الواحد، تروج الشائعات، وتصبح الحبة قبة، ولا يجرؤ أحد على مواجهة الأمر بصراحة، وعلاجه من جذوره.
موقف الإسلام من غير المسلمين:
في ضوء هذه الحقائق التي لا ينبغي أن تغفل أود أن أبين بإيجاز موقف الإسلام من المخالفين - أو من غير المسلمين من أصحاب الأديان الأخرى: من المعروف: أن أصحاب الأديان المخالفة للإسلام صنفان:
1- صنف هم أصحاب الديانات الوثنية أو الوضعية. مثل: المشركين عباد الأوثان، والمجوس عباد النار، والصابئين عباد الكواكب.
2- وصنف هم أصحاب الديانات السماوية أو الكتابية، وهم الذين لهم دين سماوي في الأصل، ولهم كتاب منزل من عند الله كاليهود والنصـارى، وهم الذين يسميهم القرآن "أهل الكتاب" تلطفًا بهم، وإيناسًا لهم:
وهؤلاء الكتابيون لهم معاملة متميزة في الإسلام. فقد أباح مؤاكلتهم واعتبر طعامهم حلالاً طيبًا، كما أباح مصاهرتهم والتزوج منهم، كما قال تعالى في سورة المائدة : {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ...}. (المائدة: 5).
والمصاهرة أحد الرابطين الأساسـيين اللذين يربطان البشر بعضهم ببعض. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}. (الفرقان: 54).
كما أن الزواج في نظر الإسلام يقوم على السكون والمودة والرحمة، وهي دعائم الحياة الزوجية في القرآن: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}. (الروم: 21).
ومعنى زواج المسلم من كتابية أن يكون أصهاره وأجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم من أهل الكتاب، وهؤلاء لهم حقوق صلة الرحم وذوي القربى التي يفرضها الإسلام.
ولا نجد في السماحة مع المخالف في الدين أرحب ولا أعلى من هذا الأفق الذي وجدناه في شريعة الإسلام.
وهناك تـقسيم آخر للمخالفين في الديـن، من حيـث موقـفهم من دولة الإسلام وأمة الإسلام.. فهم إما محاربون، وإما مسالمون معاهدون.
فالمحاربون هم الذين يعادون المسلمين ويقاتلونهم، وهؤلاء لهم أحكامهم التي تنظم العلاقة بهم، وتفرض أخلاقًا وآدابًا معينة في معاملتهم حتى في حالة الحرب، فلا عدوان، ولا غدر، ولا تمثيل بجثة، ولا قطع لشجر، ولا هدم لبناء، ولا قتل لصبي ولا امرأة ولا شيخ، وإنما يقتل من يـقاتل... إلخ ما هو مقـرر ومتصل في كتب "السير" أو "الجهاد" في الفقه الإسلامي.
والمســالمون أو المعاهدون، يوفى لهم بعهدهم، ويعطون حقهم من البر والقسـط والصـلة.
ومن الخطل والخطر هنا: الخلط بين الصنفين على اعتبار أنهم جميعًا كفار، لا يؤمنون برسالة محمد خاتم رسل الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصدقون بالقرآن آخر كتب الله.
وقد فرق القرآن بين الصنفين تفريقًا واضحًا، في آيتين كريمتين تعتبران دستورًا محكمًا في تحديد العلاقة بغير المسلمين. يقول تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8،9). والبر هو: الخير، والقسط: هو العدل، وقد نزلت هاتان الآيتان في شأن المشركين، كما دلت على ذلك أسباب نزول السورة. فأهل الكتاب أولى بالبر والقسط.
ثم إن المعاهدين صنفان:
أ - من لهم عهد مؤقت، وهؤلاء يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم.
ب- والثاني من لهم عهد دائم ومؤبد وهم الذين يسميهم المسلمون "أهل الذمة" بمعنى أن لهم ذمة الله تعالى، وذمة رسوله ص، وذمة جماعة المسلمين. وهم الذين قال فيهم الفقه الإسلامي: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، أي في الجملة إلا ما اقتضته طبيعة الاختلاف الديني.
وأهل الذمة يحملون "جنسية دار الإسلام" وبتعبير آخر: هم مواطنون في الدولة الإسلامية. فليسـت عبارة "أهل الذمة" عبارة ذم أو تنقيص، بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء، تدينًا وامتثالا لشرع الله. وإذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح، فليغير أو يحذف، فإن الله لم يتعبدنا به، وقد حذف سيدنا عمر رضي الله عنه ما هو أهم منه، وهو لفظ "الجزية"، رغم أنه مذكور في القرآن، وذلك استجابة لعرب بني تغلب من النصارى، الذين أنفوا من هذا الاسم، وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة، وإن كان مضاعفًا.. فوافقهم عمر، ولم ير في ذلك بأسًا، وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبوا الاسم. (انظر: كتابنا "فقه الزكاة" 2/708).
وهذا تنبيه من الفاروق على أصل مهم، وهو النظر إلى المقاصد والمعاني، لا إلى الألفاظ والمباني، والاعتبار بالمسميات لا الأسماء ومن هنا نقول : إنه لا ضرورة للتمسك بلفظ "الجزية" الذي يأنف منه إخواننا النصارى في مصر وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية، والذين امتزجوا بالمسلمين، فأصبحوا يكونون نسيجًا قوميًا واحدًا.. فيكفي أن يدفعوا "ضريبة" أو يشتركوا بأنفسهم في الدفاع عن الأمة والوطن فتسقط عنهم.
وقد بينت في كتابي الآنف الذكر حقوق المواطنين من أهل الذمة من وجوب المحافظة على دمائهم وأعراضهم وأموالهم ومعابدهم، وجميع حرماتهم، واحترام عقائدهم وشعائرهم، والدفاع عنهم تجاه كل عدوان من الخارج وتجنب كل ما يوغر صدورهم، أو يؤذيهم في أنفسهم أو أهليهم وذراريهم.
حتى إن القـرآن ليرتفع بأدب الحوار مع أهـل الكـتاب إلى أفـق رفيـع، حين يقول : {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. (العنكبوت: 46). فإذا كان هناك طريقتان للحوار أو للجدال إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها، فالمطلوب هو الحوار بالتي هي أحسن.
ويركز القرآن هنا على ذكر مواضع الاتفاق بين المسلمين وأهل الكتاب لا على نقاط التمايز والاختـلاف: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46)
وأهل الذمة من أهل الكتاب لهم وضع خاص، والعرب منهم لهم وضع أخص، لاستعرابهم وذوبانهم في أمة العرب، وتكلمهم بلغة القرآن، وتشربهم للثقافة الإسلامية، واشتراكهم في المواريث الثقافية والحضارية للمسلمين بصورة أكبر من غيرهم، فهم مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس، وهذا ما قلته منذ سنوات للدكتور لويس عوض حين زار قطر واشترك في ندوة في "نادي الجسرة" الثقافي، وطلب مني التعقيب عليها.
والحقوق التي قررها الإسلام ليست مجرد حبر على ورق، بل هي حقوق مقدسة قررتها شريعة الله، فلا يملك أحد من الناس أن يبطلها، وهي حقوق تحوطها وتحرسها ضمانات متعددة: ضمانة العقيدة في ضمير كل فرد مسلم، يتعبد بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وضمان الضمير الإسلامي العام، الذي يتمثل في المجتمع كله، وخصوصًا الفقهاء والأصلاء من حراس الشريعة، والقضاة العدول الأقوياء، الذي رأينا منهم من حكم على الأمراء والخلفاء لحساب من ظلم من أهل الذمة.
وقد رأينا الإمام الأوزاعي يقف مع جماعة من أهل الذمة في لبنان ضد الأمير العباسي قريب الخليفة.
وقد رأينا الإمام ابن تيمية يخاطب تيمور لنك في فكاك الأسرى عنده، فيفرض عليه أن يفك أسرى المسلمين وحدهم، فيأبى إلا أن يفرج عن أهل الذمة معهم.
أعلى درجات التسامح عند المسلمين وحدهم. ثم إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب: فالدرجة الدنيا من التسامح: أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك، بحيث إذا أبى حكمت عليه بالموت أو العذاب أو المصادرة أو النفي، أو غير ذلك من ألون العقوبات والاضطهادات. فتدع له حـرية الاعتقاد، ولكن لا تمكنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضها عليه عقيدته، والامتناع مما يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته. فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت، فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه. (في غاية المنتهى وشرحه من كتب الحنابلة: "ويحرم إحضار يهودي في سبته، وتحريمه باق بالنسبة إليه، فيستثنى شرعًا من عمل في إجارة، لحديث النسائي والترمذي وصححه: "وأنتم يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت" 2/604).
وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فلا يجوز أن يمنع ذلك في هذا اليوم والدرجة التي تعلو هذه في التسامح: ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك. وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة. إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح.
فقد التزموا احترام كل ما يعتقد غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك، مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل؛ ذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه. فإذا كان دين المجوسي يبيح له الزواج من أمه أو أخته فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج، وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له. ومثل ذلك الخمر، فإذا كان بعض الكتب المسيحية قد جاء بإباحتها، أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر.
فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير، مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجب مقدس، ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون.
روح التسامح عند المسلمين:
على أن هناك شيئًا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات. ذلك هو "روح السماحة" التي تبـدو في حسن المعاشـرة، ولـطف المعاملة، ورعـاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البـر والرحـمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحيـاة اليوميـة، ولا يغني فيها قانون ولا قضـاء.. وهذه روح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي. تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15).
وفي ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين كما في آية الممتحنة (الممتحنة: 8).
وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين. وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المصرّين : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: 272).
وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدون مذهبه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا ليوزع على فقرائهم (شرح السير الكبير: 1/144)، هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه.
وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، (تعني فترة في صلح الحديبية) فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول اله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها ؟! قال: "نعم، صلي أمك" (تفسير ابن كثير 4/249). وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نـصارى، فقـد كان يزورهم ويكرمهـم، ويحـسن إليهم، ويعــود مرضــاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم.
وذكر ابن إسحاق في السيرة: أن وفد نجران ـ وهم من النصارى ــ لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوهم" فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. وعقب المجتهد ابن القيم على هذه القصة في "الهدي النبوي" فذكر مما فيها من الفقه: "جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.. وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك". (زاد المعاد جـ3، ط مطبعة السنة المحمدية).
وروى أبو عبيد في "الأموال" عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم (الأموال ص 613). وروى البخاري عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد يهوديًا، وعرض عليه الإسلام، فخرج وهو يقول: "الحمد للّه الذي أنقذه بي من النار".
وروى البخاري أيضا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه، وما كانوا ليضنوا عليه بشيء، ولكنه أراد أن يعلم أمته. وقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- الهدايا من غير المسلمين، واستعان في سلمه وحربه بغير المسلمين، حيث ضمن ولاءهم له، ولم يخش منهم شرًا ولا كيدًا. وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الصحابة والتابعين لغير المسلمين.
فعمر يأمر بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين ثم يقول: قال اللّه تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60). وهذا من مساكين أهل الكتاب (الخراج لأبي يوسف/26. انظر كتابنا: فقه الزكاة 2/705، 706).
ويمر في رحلته إلى الشام بقوم مجزومين من النصارى فيأمر بمساعدة اجتماعية لهم من بيت مال المسلمين. وأصيب عمرْو بضربة رجل من أهل الذمة - أبي لؤلؤة المجوسي - فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول: "أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم". (أخرجه البخاري في الصحيح، ويحيى بن آدم في الخراج ص 74، والبيهقي في السنن 9/206 باب الوصاة بأهل الكتاب).
وعبد الله ابن عَمْرو يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية، ويكرر الوصية مرة بعد مرة، حتى دهش الغلام وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي؟ قال ابن عَمْرو: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". (رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي المرفوع عنه).
وماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية، فشيعها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ذكر ذلك ابن حزم في المحلى 5/117)، وكان بعض أجلاء التابعين يعطون نصيبًا من صدقة الفطر لرهبان النصارى ولا يرون في ذلك حرجًا، بل ذهب بعضهم ـ كعكرمة وابن سيرين والزهري ـ إلى جواز إعطائهم من الزكاة نفسها. وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد: "أنه سئل عن الصدفة فيمن توضع؟ فقال: في أهل ملتكم من المسلمين، وأهل ذمتهم...". (انظر: فقه الزكاة الأسبق).
وذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك (قال: حديث الدارقطني أن القاضي إسماعيل بن إسحاق (من أعلام المالكية، وقاضي قضاة بغداد توفي سنة 282هـ. انظر: ترجمة في "ترتيب المدارك 3/166 – 181، ط. دار الحياة، بيروت تحقيق الدكتور أحمد بكير محمود) دخل عليه الوزير عبدون بن صاعد النصراني وزير الخليفة المعتضد بالله العباسي، فقام له القاضي ورحب به. فرأى إنكار الشهود لذلك، فلما خرج لا ينهاكم اللّهLالوزير قال القاضي إسماعيل: قد علمت إنكاركم، وقد قال اللّه تعالى عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم "أن تَبَرُّوهُم وتُقْسِطُوا إليهم") (الممتحنة: 8) وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين وهو سفير بيننا وبين المعتضد… وهذا من البر) (المرجع السابق ص 174).
وتتجلى هذه السماحة بعد ذلك في مواقف كثير من الأئمة والفقهاء، في الدفاع عن أهل الذمة، واعتبار أعراضهم وحرماتهم كحرمات المسلمين، وقد ذكرنا مثلاً لذلك موقف الإمام الأوزاعي، والإمام ابن تيمية.
ونكتفي هنا بكلمات نيرة للفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي شارحًا بها معنى البر الذي أمر اللّه به المسلمين في شأنهم. فذكر من ذلك: "الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم ـ على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة ـ واحتمال أذايتهم في الجوار ـ مع القدرة على إزالته ـ لطفًا منا بهم، لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم، إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم، وإيصالهم إلى جميع حقوقهم ... إلخ" (الفروق: 3/15).
الأساس الفكري لـتسامح المسلمين: أساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم، وأهمها:
1- اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيًا كان دينه أو جنسه أو لونه. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) وهذه الكـرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية.
ومن الأمثلة العملية ما ذكرناه من قبل، وهو ما رواه البخاري عن جابر بن عبد اللّه: أن جنازة مرت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام لها واقفًا، فقيل له: يا رسول اللّه إنها جنازة يهودي! فقال: "أليست نفسا؟!". بلى ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان، فما أروع الموقف، وما أروع التفسير والتعليل!
2- اعتقاد المسلم أن اخـتلاف الناس في الدين واقع بمشيـئة اللّه تـعالى، الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية والاخـتيار فيما يفعل ويدع: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118).
والمسلم يوقن أن مشيئة اللّه لا راد لها ولا معقب، كما أنه لا يشاء ما فيه الخير والحكمة، علم الناس ذلك أو جهلوه، ولهذا لا يفكر المسلم يومًا أن يجبر الناس ليصيروا كلهم مسلمين، كيف وقد قال اللّه تعالى لرسوله الكريم: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99).
3- إن المسلم ليس مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى اللّه في يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين، قال تعالى : {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج: 69،68)، وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى: 15).
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره والإقساط إليه، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد.
4- إيمان المسلم بأن اللّه يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم لكافر. قال تعالى : {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. (المائدة: 8).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرًا ـ ليس دونها حجاب" (رواه أحمد في مسنده).
إن سماحة الإسلام مع غير المسلمين سماحة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، وخصوصًا إذا كانوا أهل كتاب، وبالأخص إذا كانوا مواطنين في دار الإسلام، ولا سيما إذا استعربوا وتكلموا بلغة القرآن.
وصايا نبوية بأقباط مصر خاصة:
أما أقباط مصر فلهم شأن خاص ومنزلة متميزة، فقد أوصى بهم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وصية خاصة، يعيها عقل كل مسلم، ويضعها في السويداء من قلبه. فقد روت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل اللّه". (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/62 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
وفي حديث آخر عن أبي عبد الرحمن الحبلي - عبد الله بن يزيد - وعمرو بن حريث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "... فاستوصوا لهم خيرًا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر. (رواه ابن حبان في صحيحه كما في المورد (2315) وقال الهيثمي 10/64: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح).
وقد صدق الواقع التاريخي ما نبأ به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد رحب الأقباط بالمسلمين الفاتحين، وفتحوا لهم صدورهم، رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم كانوا نصارى مثلهم، ودخل الأقباط في دين اللّه أفواجًا، حتى إن بعض ولاة بني أمية فرض الجزية على من أسلم منهم، لكثرة من اعتنق الإسلام. وغدت مصر بوابة الإسلام إلى إفريقيا كلها، وغدا أهلها عدة وأعوانًا في سبيل الله.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط، (القيراط: جزء من أجزاء الدرهم والدينار وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، بل هم لا يزالون كذلك بالنسبة للمساحة وللصاغة وغيرهما، وكل شيء قابل لأن يقسم إلى 24 قيراطًا)، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا".
وفي رواية: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما" أو قال : "ذمة وصهرا". (الحديث بروايته في صحيح مسلم رقم (2543) باب وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهل مصر، وفي مسند أحمد 5/174).
قال العلـماء: الرحم التي لهم: كون هاجر أم إسـماعيل عليه السلام منـهم، والصهر: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم (ذكر ذلك النووي في رياض الصالحين، حديث (334) ط. المكتب الإسلامي).
ولا غرو أن ذكر الإمام النووي هذا الحديث في كتابه: "رياض الصالحين" في باب "بر الوالدين وصلة الأرحام" إشارة إلى هذه الرحم التي أمر الله ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبين أهل مصر، حتى قبل أن يسلموا.
وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم دمًا ورحما"، وفي رواية: "إن لهم ذمة ورحما" يعني أن أم إسماعيل منهم (أورده الهيثمي 10/62 وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، كما رواه الحاكم بالرواية الثانية وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2/753 وعند الزهري: الرحم بأن أم إسماعيل منهم).
والرسول يجعل للقبط هنا من الحقوق أكثر مما لغيرهم، فلهم الذمة أي عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين، وهو عهد جدير أن يرعى ويصان. ولهم رحم ودم وقرابة ليست لغيرهم، فقد كانت هاجر أم إسماعيل أبي العرب المستعربة منهم، بالإضافة إلى مارية القبطية التي أنجب منها عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم.
والله أعلم