د. يوسف القرضاوي
السؤال هنا أثاره جماعة ممن عرفوا الكثير عن ثقافة الغرب، وسمعوا القليل المشوه عن تعاليم الإسلام..
قالوا: أمن العدل أن يوضع في يد الرجل سيف الطلاق يسلطه على عنق المرأة متى شاء وكيف شاء، دون جزاء لمتحيف أو عقوبة لجائر، على حين أن المرأة لا تملك الطلاق، بل لا يجوز لها أن تطلبه، لأن طلب الطلاق عليها حرام، فإذا كرهت الزوج وأكل قلبها البغض له، والنفور منه، فرض عليها أن تعاشره كرهاً، وتنقاد له قسراً، فإن أبت دعيت إلى بيت الطاعة دعّاً، كأنها متهم يقاد إلى قفص، أو مجرم يساق إلى سجن، فأين العدالة في هذا التشريع؟ وأين التوازن بين الحقوق والواجبات لكل من الجنسين؟
هكذا وضع هؤلاء الإسلام في قفص الاتهام، وحكموا عليه، دون أن يسألوه رأيه، أو يحاولوا معرفة حكمه من مصادره اليقينية: القرآن والسنة الصحيحة.
إن الزواج في شريعة الإسلام عهد متين، وميثاق غليظ ربط الله به بين رجل وامرأة، أصبح كلاهما يسمى به "زوجاً" بعد أن كان "فرداً".
رباط أقامه الله على ركائز من السكن والمودة والرحمة، وجعله آية من آياته في كونه كخلق الإنسان من تراب، وخلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم:21)، وقد صور القرآن مدى هذا الرباط بين الزوجين فقال {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (البقرة:187)
هذا الرباط الوثيق الذي نسجت خيوطه بعد بحث وتعب، وتعرف وخطبة، ومهر وزفاف وإعلان، ليس من اليسير على شريعة حكيمة أن تتهاون في نقضه وحل عقدته، وفصم عراه، لأدنى مناسبة، وأوهى سبب، يدعيه الرجل أو تزعمه المرأة.
نعم، أباح الإسلام للرجل الطلاق علاجاً لا مفر منه، حيث يضيق الخناق، وتستحكم حلقات الأزمة بين الزوجين، وآخر العلاج الكيّ كما قيل.غير أنه لم يبح له هذا إلا بعد أن يجرب وسائل العلاج الأخرى، من وعظ، وهجر وتأديب وتحكيم، وبعد أن يستنفذ طاقته النفسية في احتمال ما يكره، والصبر على ما لا يحب.
لم تجعل الشريعة الطلاق حقاً للرجل مطلقاً من كل قيد، بل قيدته في الوقت بأن يكون يف طهر لم يمسس زوجته فيه، فلا يكون الطلاق مشروعاً حسب السنة في وقت حيضة الزوجة، أو في الطهر الذي اتصل بها فيه الاتصال الخاص.
وقيدته بتوافر النية والعزم كما قال ابن عباس "إنما الطلاق عن وطر" وكما قال تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} (البقرة:227)، فلا طلاق في إغلاق (غضب شديد أو إكراه)، ولا طلاق لقاصد الحلف بالطلاق؛ لأن الحلق بغير الله مردود على صاحبه.
وقيدته بوجود الحاجة الشديدة إليه، وكان من التوجيهات النبوية "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود. وجعلت الطلاق من غير ريبة ولا حاجة داعية مكروهاً أو محرماً، لأنه ضرر بنفسه وزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة بينهما من غير حاجة إليه.
ولم تترك الشريعة الرجل بعد الطلاق دون غرم يؤوده ويثقل كاهله، ويخوفه عاقبة عمله، فهناك دفع الصداق المتأخر، والنفقة الواجبة في العدة، وأجرة رضاع الأولاد، ونفقتهم حتى يكبروا، وهناك متعة الطلاق المندوبة عند الأكثرين، والواجبة عند بعض الأئمة من الصحابة والتابعين.
ولم يحدد القرآن هذه المتعة، بل جعلها متاعاً "بالمعروف"، والمعروف هنا ما تعرفه الفطرة السليمة، ويقره العرف الناضج، يرضاه أهل العلم والدين، وهو يختلف باختلاف الزمن والبيئة، وحال الزوج.
وإذا كانت شريعة الإسلام قد جعلت للرجل حق إنهاء الحياة الزوجية المنكودة بالطلاق، مع القيود التي ذكرناها، فهل فرضت على المرأة أن ترضى بوضعها في بيت زوجها أبد الدهر، مهما يكن قاسياً غشوماً ظلوماً، ومهما انطوى قلبها على الكره له والضيق به، والسخط عليه؟
أظن أن شريعة جعلت للمرأة حقاً ثابتاً في تزويج نفسها، وقال قرآنها في شأن النساء {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:234)، ولم تحل لأب أو جد، مهما حصف رأيه وحنا قلبه أن يخط لابنته مصيرها بغير اختيارها وإبداء رأيها، حتى البكر العذراء الحيية لابد أن تستأذن، وأن تعبر عن إذنها ولو بالصمت، أظن أن شريعة هذا سبيلها في بدء الحياة الزوجية، كيف يتصور أن تفرض بقاء امرأة مع رجل لا تحبه، بل لا تطيقه بغضاً؟
كلا، لقد جعلت الشريعة الإسلامية للزوجة الكارهة مخرجاً من الحياة مع زوج تنفر منه، وتنأى بجانبها عنه، فإذا كانت الكراهية من قبلها، وكانت هي الراغبة وحدها في الفراق، وزوجها محب لها، حريص عليها، غير راغب في فراقها، كان مخرجها ما عرف في لسان الفقهاء باسم "الخلع".
غير أن الشريعة، كما أمرت الرجل أن يصبر ويحتمل ويضغط على عاطفته، ولا يلجأ إلى أبغض الحلال إلا عند إلحاح الحاجة، حذرت المرأة هي الأخرى من التسرع في طلب الطلاق أو الخلع.
وفي الحديث " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" رواه أبو داود "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" رواه أحمد. والحديث يعني طالبات الخلع من غير ما بأس كما في الحديث السابق، أما الكارهات النافرات اللاتي يخفن أن تدفعهن الكراهية إلى إهمال حدود الله في الحياة الزوجية، فلهن أن يشترين حريتهن برد ما بذل الرجال لهن من مهر أو هدية.
قال الإمام ابن قدامه في "المغني": "إن المرأة إذا كرهت زوجها لخٌلٌقه أو خَلقه أو دينه أو كِبره، أو ضعفه، أو نحو ذلك، وخشيت ألا تؤدي حق الله في طاعته، جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه، لقول الله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229).
وفي حديث رواه البخاري قال "جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ما أنقم عليه في خلق ولا دين، إلا أني أكره الكفر في الإسلام - تقصد كفر العشير - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ فقالت نعم، فردتها عليه، وأمره ففارقها. وفي رواية، فقال له: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة". إذا ثبت هذا، فإن هذا يسمى خلعاً لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها. ويسمى "افتداء"؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله. قال تعالى {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} "المغني 7/51 و 52".
ومن عجب أن الإسلام ضيّق على الرجال في إيقاع الطلاق، وحدده بجملة حدود وربطه بمجموعة من القيود في وقته وكيفيته وعدده، تضييقاً لدائرته، ولكنه أوسع للمرأة في الخلع، فالطلاق أثناء الحيض والطهر الذي مسها في بدعة أو باطل، ولكن الخلع في هذه الحالة كما قال ابن قدامة لا بأس به في الحيض والطهر الذي أصابها فيه، لأن المنع من الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة، والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما.
وعلى هذا فإذا ساءت العشرة بين الزوجين وكانت المرأة هي النافرة الكارهة، وأبى زوجها أن يطلقها، فلها أن تعرض عليه الخلع، وترد عليه ما أخذته منه، ولا ينبغي أن يزداد، فإن قبل فقد حلت العقدة ويغني الله كلاّ من سعته.
وبعض الفقهاء يشترطون رفع ذلك إلى الحاكم، وبعضهم لا يشترطون، أما إذا رفض الزوج، وأصر على مضايقتها وإكراهها على الحياة في كنفه، فللقاضي المسلم أن ينظر في الأمر، ويستوثق من حقيقة عاطفتها، وصدق كراهيتها، ثم يجبر الزوج على قبول العوض، ويحكم بينهما (سواء اعتبر هذا التفريق فسخاً أم طلاقاً بائناً على اختلاف المذاهب).
هذا هو رأي عدد من فقهاء السلف، وإن لم تأخذ به المذاهب الأربعة.
ويؤيد هذا المذهب ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في قضية امرأة ثابت بن قيس بن شماس، وهو من خيار الصحابة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقبل منها الحديقة ويفارقها.
غير أنه لا يحل للرجل أن يضار المرأة ويضيق عليها لتفتدي نفسها منه، ما دام هو الذي يكرهها، ويريد استبدال غيرها بها فهذا حرام قطعاً، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء:20).
إذا رفضت المرأة أن تفدي نفسها من الزوج الذي لا تطيقه بغضاً، وأصرت على أن يفارقها دون تضحية منها؛ فهل يلام الرجل إذا دعاها باسم القانون وسلطان الشرع إلى بيت الزوجية أو بيت الطاعة؟
إن كل حق يقابله واجب، وكل واجب يقابله حق، وقد أعطى الإسلام الرجل حق الطلاق بإزاء ما كلفه من واجبات المهر والنفقة قبل الطلاق، وتبعات بالنفقة والمتعة بعد الطلاق فضلاً عن الأسباب الفطرية التي تجعل الرجل أبصر بالعواقب وأكثر حكمة وأناة.
وليس من العدالة أن تعطى المرأة حق التخلي عن الزوج وهدم الحياة الزوجية والإتيان على بيتها من القواعد، دون أن تتكلف شيئاً يهون على الرجل خطبه في فراقها، ويسهل عليه مهمة البحث عن غيرها، وهي في الواقع لا تتكلف شيئاً غير ما بذله الرجل من قبل مهراً قل أو كثر وهدايا ثمينة أو رخيصة. هذا إذا هبت ريح البغض من قبل المرأة.
أما إذا كان الشقاق من الطرفين، وكانت الكراهية متبادلة بينهما، ولم يطلق الرجل فهناك مخلص آخر للمرأة عن طريق الحكمين، أو المجلس العائلي الذي قال الله في شأنه {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (النساء:35)، وهذا بناء على أنهما حاكمان يملكان التفريق والتجميع، كما هو قول أهل المدينة ومالك وأحمد في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه.
كلمة أخيرة نقولها لهؤلاء المتاجرين والمتاجرات بقضايا المرأة:
إن الشريعة لا تحابي رجلاً على امرأة ولا امرأة على رجل، إن الشريعة لم تضعها لجنة من الرجال حتى تتحيز ضد النساء، ولكن وضعها الذي {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ} (النجم:45)، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة:220)، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14)