مما فاتني ذكره أيضًا في سياق ذكرياتي في الجزء الثالث؛ صدور كتابي «غير المسلمين في المجتمع الإسلامي» سنة 1397هـ - الموافق 1977م، وهو كتاب صغير الحجم، ولكنه في نظري له أهمية خاصة؛ لخطورة الموضوع الذي يعالجه، وهو ما يعرف باسم «الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية». وهم الذين أطلق عليهم فقهاؤهنا مصطلح «أهل الذمة».
والذمة معناها: العهد، ومقتضى هذه الكلمة «الذمة» أن لهم ذمَة الله ورسوله وذمة جماعة المسلمين، أي: عهدهم وضمانهم. وهذه الكلمة - أعني الذمة أو العهد - لها مدلولها الذي لا يجوز أن يُستخف به، كما يفعل أولئك الذين ذمَهم الله بقوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} (التوبة: 10).
ولقد أكّدت نصوص القرآن والسنة ضرورة احترام العهود والمواثيق، واعتبرت ذلك من خصال المؤمنين: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد: 20)، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (المؤمنون: 8)... كما اعتبرت النصوص القرآنية والنبوية الغدر ونكث العهد من خصال الكفار والمنافقين: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} (الرعد: 25)، ومن خصال المنافق الأساسية: انه «إذا عاهد غدر»(1). وفقهاء المسلمين مجمعون على أن «عقد الذمة» عقد لازم دائم مؤبّد، لا يحلّ للمسلمين أن ينقضوه بحال، ما لم ينقضه الطرف الآخر.
تغيير عنوان «أهل الذمة»
ولكني لم أختر لكتابي عنوان «أهل الذمة» كما فعل الإمام أبو الأعلى المودودي رحمه الله؛ لما أصبحت كلمة «أهل الذمَة» غير مقبولة عند إخواننا من مواطنينا من أهل الكتاب الذين يعيشون بين ظهرانينا، وهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويشعرون بأن هذه الكلمة توحي بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية؛ ولهذا لم أر بأسًا من حذف هذا العنوان الذي ينفر منه الأقباط في مصر والسودان، والمسيحيون في بلاد الشام وغيرها.
أجل، لم أر حرجًا في حذف هذا العنوان، الذي يستنكف منه مواطنونا من غير المسلمين. فقد رأينا سيدنا عمر حذف ما هو أهم منه، وهو كلمة «جزية» حين طلب منه نصارى بني تغلب، وهم من قبائل العرب المعروفة: أن يأخذ ما يأخذه منهم باسم الصدقة والزكاة، وليس باسم الجزية؛ لأنهم قوم عرب، يأنفون من هذه الكلمة، وقد استجاب لهم سيدنا عمر ولبى طلبهم(2)؛ ماداموا يدفعون ما يدل على إذعانهم لسلطان الدولة. فالمدار على المسميات والمضامين، وليس على الأسماء والعناوين.
عبارة «الكفار» ومدلولاتها
كما لم أستخدم تعبيرًا آخر يستخدمه - للأسف - كثير من الدعاة، وهو تعبير «الكفار»؛ فهذا التعبير يصدم مشاعر كثيرين، حين تجابههم بوصف الكفر؛ ولاسيما أن للكفر معاني عدة منها: الإلحاد والجحود بالله تعالى، ومنها: إنكار النبوة والوحي، ومنها: التكذيب بالآخرة والجزاء والجنة والنار، ومنها: الإيمان بدين لا عبادة فيه ولا تكليف ولا قيم ولا أخلاق، ومنها: عدم الإيمان برسالة نبيّ معين، مثل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به، كما هو شأن اليهود والنصارى.
وهذا هو المقصود بكفر اليهود والنصارى عند المسلمين: أنهم يكفرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكذّبون أنه رسول من عند الله، ويزعمون أن القرآن ليس وحيًا مُنزلًا عليه، وإنما هو من صنعه واختلاقه، ويؤمنون ببعض العقائد التي ينكرها المسلمون بشدة، مثل التشبيه عند اليهود، والتثليث عند النصارى.
استخدام عبارة «غير المسلمين»
لهذا آثرت أن أستخدم هذا التعبير «غير المسلمين» وهو تعبير لا يغضب أحدًا، ولا يؤذي مشاعر أحد. وقد استحسنه كثيرون بعد ذلك، واستعملوه، وهو يدخل فيما أمر الله به تعالى في قوله: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} (الإسراء: 53)، وقوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125).
أهمية موضوع الأقليات الدينية
وموضوع الأقليات الدينية موضوع مهم، ويفتقر إلى كثير من التجلية والتأصيل؛ لما شابه في تراثنا من أحكام وقتية، ربما كانت قرارات إدارية أو سياسية مناسبة لزمانها ولبيئتها، فظنها بعض الناس أحكامًا شرعية، يجب تعميمها على كل الناس، ودوامها في كل الأزمان. وهذا ما يشتبه على كثيرين، ولا يميّز بين بعضه وبعض إلا الراسخون.
محاضرتي في جامعة الخرطوم عن حقوق الأقليات
وأذكر أني كنت ألقيت في أواسط السبعينيات من القرن العشرين محاضرة في جامعة الخرطوم، عن «حقوق الأقليات الدينية في المجتمع الإسلامي» وبيّنت هذه الحقوق، استنباطًا من نصوص القرآن وصحيح السنة، وهدي الخلفاء الراشدين، وأقوال الأئمة المحققين، وتوجُّهات المصلحين المجددين.
اعتراض أحد الحاضرين
فقام أحد الحاضرين من المسيحيين، معترضًا، وقال: إن ما قلته مخالف لما هو منصوص في كتب الفقه الإسلامي من معاملة أهل الذمة، وبدأ يقرأ نصوصًا من بعض كتب المتأخرين من أهل المذاهب، وفيها: وجوب تمييز الذمي عن المسلمين في ملبسه، وإهانته عند دفع الجزية، وذكر حديث: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطروهم إلى أضيقه»(3) ، وقال المعترض: يعني لو كنت مسيحيًّا أسير على حرف النيل، فأنت كمسلم مطلوب منك أن تُضيِّق عليّ الطريق، حتى تضْطرني إلى أن أسقط في النيل! إلى آخر ما قال ونقل من بعض الكتب والحواشي.
جوابي على المعترض
وكان جوابي على هذا كله واضحًا وحاسمًا. لقد قلت: إن ما ذكرته في محاضرتي من أحكام، وما قررته من مبادئ، وما سردته من وقائع، لم أخترعه من عندي. بل كل ما قلته مأخوذ من مصادره الموثقة: إما من كتاب ناطق، أو سنة نبوية هادية، أو سيرة صحابية راشدة، أو أقوال فقهية مدلِّلة، أو وقائع تاريخية ثابتة. وهو ما يقوله ويردده كل دعاة الإصلاح والتجديد منذ عهد محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا ومن بعدهم إلى اليوم. وهو الذي ندعو الناس إليه، لا ندعوهم إلى شيء غيره. وما عدا ذلك فهي آراء لا تلزمنا، ولا تلزم إلا أصحابها، وهي تعبِّر عن زمنها، وعن فكر يمثل فترة الانحطاط والتراجع في التاريخ الإسلامي.
والحديث المذكور «لا تبدءوا ... »، محمول على اليهود والنصارى الذين يعادون المسلمين ويؤذونهم، لا في أهل الذمة منهم، وإلا كان معارضًا للقرآن الذي يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8). كما يعارض أحاديث أخرى، ومواقف عملية للصحابة رضي الله عنهم. وقد صحّ عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يسلّمون على كل من لقيهم، مسلمًا أو غير مسلم، عملًا بحديث رسول الله: «افشوا السلام»(4).
وظل هذا الأمر يجول في نفسي، وأرى لزوم الكتابة فيه، لتمييز الصواب من الخطأ، والثابت من المتغير، حتى وفقني الله تعالى لكتابة هذا الكتاب: «غير المسلمين في المجتمع الإسلامي». وأذكر أن أحد الدعاة الهنود لقيني بعد صدور هذا الكتاب، وقال لي: كتابك مهم جدًّا، ولكننا في حاجة إلى كتاب يكمله، قلت: وما هو؟ قال: «المسلمون في غير المجتمع الإسلامي»! وهو ما وفَّقني الله إليه بعد ذلك، من الكتابة في فقه الأقليات المسلمة، التي تعيش في وسط المجتمعات غير الإسلامية.
.....
(1) متفق عليه: رواه البخاري (34)، ومسلم (58) كلاهما في الإيمان عن ابن عمر.
(2) رواه البيهقي (9/216).
(3) رواه مسلم في السلام (2167) عن أبي هريرة.
(4) رواه مسلم في الإيمان (54) عن أبي هريرة.