بعد أن أُجِّل امتحان طلبة السنة الأولى في الدراسة العليا بالأزهر إلى صيف 1957م، وضاعت عليهم - وعليَّ معهم - سنة كاملة؛ أُجري لهم الامتحان، ونجح من نجح، ورسب من رسب، وأصبح في مقدوري أن أتقدم بطلبي للالتحاق بالشعبة التي أريد. أيّ الشعبتين أختار؟ وقد كان بكلية أصول الدين شعبتان، عليَّ أن أختار إحداهما، لأقدم طلبي إليها: شعبة علوم القرآن والسنة «أو التفسير والحديث»، وشعبة العقيدة والفلسفة.
فمن كانت درجاته أعلى في مواد التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه؛ قدَّم أوراقه إلى هذه الشعبة، ومن كانت درجاته أعلى في التوحيد والفلسفة والمنطق؛ تقدم إلى الشعبة الأخرى. وهناك شرط: ألا تقل درجات الطالب في مواد الشعبة عن حد معين لا أذكره الآن، لعله ثمانون في المائة (80%)، وسبعون في المائة (70%) في التقدير العام. وكانت كل هذه الشروط في كلتا الشعبتين عندي موفورة بأكثر من المطلوب، ولكني توقفت كثيرًا في ترجيح اختيار إحدى الشعبتين.
أأختار شعبة القرآن والسنة؛ لأنها تصلني مباشرة بمصادر الإسلام الأصلية، وتتيح لي فرصة التعمق في دراستهما، وتصحيح ما طرأ على فهمهما من أغلاط، والرد على ما يثار حولهما من شبهات وافتراءات؟ ولا يمكن للعالِم المسلم أن يكون عالِما حقًّا إلا إذا أتقن علوم القرآن والحديث، فهي ضرورة للفقيه، وضرورة للداعية.
أم يا ترى أختار شعبة العقيدة والفلسفة، بما فيها من إغراء بدراسة الفكر الإنساني، وتتبع المذاهب الفكرية، والمدارس الفلسفية، ودراسة أغوارها، والإحاطة بتناقضاتها، وكيف ينقض بعضها بعضًا، وتوظيف هذه المعرفة في خدمة الدعوة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، ومخاطبة الإنسان المعاصر باللغة التي يفهمها؟
الدكتور محمد يوسف موسى يحسم الأمر
كان الاختيار بين الشعبتين صعبًا، وكان الأمر محيرًا لي، ولم يُحسم هذا الأمر عندي إلا باستشارة أهل الذكر والخبرة، كما قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الفرقان:59)، وقال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:14)؛ لهذا توكلت على الله، وعزمت على زيارة أستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى، وكان بيني وبينه مودة، رغم أني لم أدركه في كلية أصول الدين، ولم أسعد بتدريسه لي، وإن كنا سعدنا بتدريس كتبه، درسها لنا غيره، وقد زرته قبل ذلك في منزله بالروضة، ورحب بي مع أنه لم يكن يقبل زيارة من لم يأخذ موعدًا منه.
كان الدكتور موسى راهبًا من رهبان العلم والفكر، لم يتزوج غير العلم والمكتبة، وكان ضليعًا متمكنًا في علوم الفقه والشريعة، وعلوم الفلسفة والعقيدة، وقد حصل على الدكتوراه من فرنسا، ومن ثم كان أهلًا لأن يستشار في قضيتي. ذهبت إليه، وطرقت عليه الباب، ففتح لي، ورحب بي. قلت له: سامحني أن جئتك بغير موعد سابق.
قال: ومتى جئت بموعد يا قرضاوي؟ بيتي بالنسبة لك مفتوح دائمًا.
قلت: جئت أستشيرك في قضية في غاية الأهمية بالنسبة لمستقبلي، ولم أجد غيرك يفتيني فيها!
قال: خير. ما هي؟
قلت: أمامي اختياران في الدراسة العليا بكلية أصول الدين: علوم القرآن والسنة، أو علوم العقيدة والفلسفة. وأنا مستوف الشروط للدراسة في كلتا الشعبتين، وربما كانت درجاتي أعلى في شعبة الفلسفة، وقد احترت بينهما حيرة شديدة، فأيهما تختار لي يا أستاذ؟
فقال: اسمع يا يوسف، لقد عرفت أني عشت أكثر عمري في كلية أصول الدين أدرس الفلسفة ونظريات الأخلاق، وتاريخ الفلسفات، وما إلى ذلك، وألفت في ذلك ما ألفت من كتب، لعلك درست بعضها في الكلية.
قلت: نعم، درسنا أكثر من كتاب منها حول فلسفة الأخلاق، وتاريخها.
قال: ثم انتهى بي المطاف الآن إلى تدريس الشريعة الإسلامية في كليات الحقوق، وأحمد الله قد ألفت فيها عددًا من الكتب تلقاها أهل العلم والاختصاص بالقبول.
قلت: نعم، وقرأنا الكثير منها، وانتفعنا به.
قال: والآن أجد أن ما درسته من قبل في الفلسفة ومذاهبها ومدارسها الفكرية، كأنما كان تمهيدًا أو مقدمة لدراسة الشريعة، فالشريعة هي الغاية، وهي اللب والجوهر، وكل ما عداها يجب أن يكون وسائل إليها. وأعتقد أنك قد درست في كلية أصول الدين من مذاهب واتجاهات الفلسفة الشرقية واليونانية والإسلامية والحديثة ما أطلعك على أصول الفكر الإنساني والمذاهب الفلسفية الكبرى، والنظريات الأخلاقية المختلفة، وأن لديك الآن من الإمكانات المعرفية ما تستطيع أن تتابع به حركة الفكر الإنساني في تطورها.
وإنما الذي يحتاج إلى خدمة حقًّا هو: الشريعة وفقهها وأصولها، ومصدر الشريعة: القرآن والسنة، إذا تضلعت في علوم القرآن والسنة أمكنك أن تخدم رسالة الإسلام حقًّا، وأحسب أن لك دورًا - إن شاء الله - في الاجتهاد والتجديد لهذا الدين، أرجو ألا يخيب ظني فيه ... إلى آخر ما قال رحمه الله رحمة واسعة.
وكانت كلمات الدكتور موسى أشعة من نور أزالت غياهب الشك والتردد والحيرة من ذهني ونفسي تمامًا، وأقنعتني أن لا أبتغي بالقرآن والسنة بدلًا، ولا أبغي عنهما حولًا. وودعت الأستاذ الكبير وشكرت له، ودعوت له من كل قلبي، وخرجت من عنده منشرح الصدر، مطمئن الضمير، مسدد الوجهة، مستبين الغاية والطريق.
التقديم لشعبة القرآن والسنة
وقدمت إلى كلية أصول الدين في شعبة التفسير والحديث وعلومه. وكان الذي يدرس لنا التفسير: هو أستاذنا الشيخ أحمد علي أستاذنا في الكلية من قبل، والذي يدرسنا علوم القرآن: هو أستاذنا الدكتور أبو شهبة، والذي يدرسنا الحديث: هو شيخنا محمد عليّ أحمدين، أستاذي في الكلية، والذي جرى بيني وبينه ما جرى في السنة الرابعة، ثم صالحني بعد امتحان التعيين في الشهادة العالمية، كما ذكرت ذلك من قبل، وكان الذي يدرسنا مصطلح الحديث: هو أستاذنا الشيخ السماحي، وكان الكتاب المقرر: هو «تدريب الراوي على تقريب النواوي» للحافظ السيوطي، وهو من خيرة الكتب في بابه.
وكنا نحو ثلاثين طالبًا مسجلين في هذه الشعبة بعضنا من خريجي أصول الدين، وبعضنا من خريجي الشريعة. وكانت شروط الدراسة والامتحان صعبة ومعقدة، فمن رسب في الامتحان التحريري أو الامتحان الشفهي، أو امتحان التعيين، فقد سقط في امتحان السنة كلها، وليس له فرصة أخرى، وسقط حقه في الدراسات العليا في هذه الشعبة. وفي هذا من التشديد والتعسير ما فيه.
وهذا ما دفع أكثر طلاب الشعبة - أكثر من عشرين منهم - أن يقدموا قبل الامتحان إجازات مرضية، لإعفائهم من دخول الامتحان، ولكن فضيلة الشيخ الأكبر عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر، قال: ليس معقولًا أن يمرض هؤلاء جميعًا في وقت واحد، واعتبر هذه الإجازات مفتعلة أو مزورة، ورفضها جميعًا. والذي دفعهم إلى ذلك هو خوفهم من النتيجة، فإن من لم ينجح ضاعت عليه السنة، بل ضاع حقه نهائيًّا في الدراسة العليا في الشعبة.
وبقي ستة طلاب فيما أذكر دخلوا الامتحانات التحريرية، والشفهية والتعيين، وكان الامتحان الشفهي في حفظ القرآن، وفي الحديث وعلومه، وكان التعيين في التفسير، وأذكر أن تعيين السنة الأولى كان في تفسير «آية الكرسي» سيدة آي القرآن. ولا زلت أذكر الأسئلة التي حاصرتني حول مسألة التفاضل بين آي القرآن، وهل في القرآن فاضل ومفضول؟ وما معنى أن هذه الآية أو هذه السورة أفضل عن غيرها؟ وهل الفضل راجع إلى موضوع الآية أو السورة أو إلى أمر آخر؟
وكان التعيين - كالعادة - امتحانًا لمدى معرفة الطالب بالعلوم الشرعية والعربية، فهو امتحان في اللغة والنحو والصرف والبلاغة والفقه والحديث والمنطق والتوحيد. إلى جانب التفسير، ويجب أن يكون الطالب مستعدًا لأي سؤال يوجه إليه، مما يتصل بهذه العلوم كلها.
والحمد لله، فقد وفقت في إجاباتي في امتحان التعيين، والامتحان الشفهي، وكذلك في الامتحان التحريري، وظهرت النتيجة بنجاحي وحدي في الشعبة، وكل زملائي للأسف أخفقوا. إما في الامتحان التحريري، وإما في الامتحان الشفهي أو التعيين. ومعنى رسوبهم: أنهم «شُطبوا» من هذه الشعبة إلى الأبد، ولم يعد لهم أي حق في استئناف الدراسة. وهذا تشديد وتعقيد لا ضرورة له فيما أرى، ولا أرى أي جامعة تعامل طلابها بمثل هذه القسوة، والحمد لله الذي نجاني بفضله من هذا البلاء، وهداني بنوره في هذه الظلماء، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
في السنة الثانية وحدي
وفي السنة الثانية، كنت وحدي في الشعبة، فإذا حضرت وُجِدت الشعبة وإذا غبت فُقدت؛ ولذا كان شيوخي يقولون لي: مر علينا ولو في كل أسبوع مرة «تحلة القسم» حتى نقول: حضرنا ودرسنا. وكنت أفعل ذلك كلما استطعت.
وفي هذه السنة مر علينا - وأنا أدرس الحديث عند الشيخ أحمدين - فضيلة شيخنا الشيخ صالح شرف، السكرتير العام للمعاهد الدينية، وهو الرجل الثالث في الأزهر بعد شيخ الأزهر ووكيل الأزهر، وقال له الشيخ أحمدين: هذا الشيخ يوسف القرضاوي الذي صفته كذا وكذا. ولو كان الأمر بيدي لأعطيته الأستاذية من اليوم. قال ذلك الشيخ أحمدين بحسن نية، وهو لا يعرف الأزمة التي حدثت لي معه أيام امتحان الشهادة العالمية. ولكن الشيخ صالح شرف، كان عالِمًا فاضلًا، لم يعتبر في هذا الكلام أي تحدٍّ له.
وكنت قد نقلت من وزارة الأوقاف إلى الأزهر بعد مجيء الشيخ شلتوت شيخًا للأزهر، محاولًا أن أجمع بقدر الإمكان بين ما يطلبه مني الأزهر من أعباء كلفنا بها الدكتور محمد البهي الذي كنا نعمل معه في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، وبين الحضور الممكن في شعبة القرآن والحديث في كلية أصول الدين. وجاءت الامتحانات، وانتهت بسلام، وانتقلت إلى السنة الثالثة والأخيرة في الدراسات المنهجية المطلوبة للحصول على درجة الأستاذية أو «الدكتوراه».
السنة الأخيرة وبحث الشفاعة
وفي السنة الأخيرة، كان عليّ - مع الامتحان التحريري والشفهي والتعيين - امتحان آخر، هو تحضير موضوع يحدد للطالب، يعدّ مادته في ظرف أسبوع أو عشرة أيام على ما أذكر، ويلقيه في صورة محاضرة عامة أمام لجنة من كبار الشيوخ، تسأله في الموضوع، بعد إلقائه، ويُدعى جمهور من الطلاب والدارسين لشهود المحاضرة، وهي عادة تكون في قاعة الشيخ محمد عبده. وعندما جاء الموعد حُدد لي موضوع في الحديث، هو «أحاديث الشفاعة في صحيح البخاري»، وما قيل حولها من كلام بين أهل السنة والمعتزلة.
وقد قرأت الموضوع في شروح البخاري ومسلم، وفي كتب التفسير، وفي كتب علم الكلام، ولا سيما الموسعة منها، مثل: «شرح المقاصد» للسعد التفتازاني، و«شرح المواقف» للشريف الجرجاني. وكتبت فيها كراسة كاملة. وألقيتها محاضرة مرتجلة أمام لجنة من أربعة من كبار شيوخ الأزهر على رأسهم فضيلة الشيخ محمد نور الحسن، وكيل الأزهر، ومن أعضائها: الشيخ أحمد عليّ أستاذ التفسير بالكلية، والشيخ السنوسي أستاذ علم التوحيد بالكلية، ونسيت الرابع.
وبعد أن انتهيت من إلقاء المحاضرة في قاعة الشيخ محمد عبده الشهيرة، وحضور جم غفير من الطلاب وغيرهم؛ صفق الحاضرون طويلًا؛ دلالةً على إعجابهم بما أُلقي ... وبدأ أعضاء لجنة الامتحان يناقشونني، يسألونني وأجيبهم، وكان توفيق الله حليفي، ولله الفضل والمنة .
وكان بعض أساتذة جامعة القاهرة حاضرًا، فقال: إن هذا البحث وحده يكفي الطالب للحصول على الماجستير. وانتهت هذه السنة الأخيرة بالنجاح والتوفيق، ومع هذا العناء كله في السنوات الثلاث؛ لا تنتهي هذه المرحلة بشهادة «ماجستير» أو ما يعادلها، بل تسمى: «تمهيدي دراسات عليا»!
تسجيل رسالتي عن الزكاة
وكان عليَّ بعدها أن أبدأ باختيار موضوع أسجله لرسالة الأستاذية أو «الدكتوراه». وكنت في أول الأمر متجهًا إلى أن أكتب في موضوع يتصل بالعقيدة، وهو: «براهين القرآن على نبوة محمد»، وأعددت فيه مسوّدات لها قيمتها، لا تزال عندي حتى اليوم.
ثم تغير اتجاهي إلى موضوع آخر يتصل بالشريعة وفقهها، وهو موضوع حول الزكاة، الركن الثالث في الإسلام، وهو ما ترجّح لي اختياره وتقديمه إلى الكلية بعنوان: «الزكاة في الإسلام، وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية».
وقد تقدمت بموضوعي إلى إدارة الكلية مشفوعًا بخطة البحث، وعينت لي الكلية مشرفًا هو شيخنا الشيخ أحمد عليّ، أستاذ التفسير وعلوم القرآن. ولهذا الحديث بقية ستأتي في موضعها.