1ـ من الواضح الجلي، ومن المؤكد المستيقن: أن قيادة الإخوان لا تتحمل وزر هذا الحادث، عند كل دارس أو مراقب عنده ذرة من عقل أو إنصاف. فقد أكدت كل المصادر: أن المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي كان ضد فكرة الاغتيالات بكل قوة ووضوح، وأعلن هذا بصريح العبارة لرئيس الجهاز السري: إنه برئ من دم أي شخص كان، وهذا ما شهد به الخاص والعام، وأن النظام الخاص أو الجهاز السري للجماعة، لم يكن هو المدبّر لها ولا المسؤول عنها. إنها في رقبة هنداوي دوير رحمه الله، الذي أراد أن يقوم عن الجماعة بتنفيذ ما فرَّطت فيه في نظره! ومن يدري ربما لو نجحت خطته لأصبح من الأبطال، وعدّ منقذًا للدعوة.
وبقدر اندفاعه في التدبير والتنفيذ؛ كان اندفاعه وانهياره السريع عند فشل الخطة، ويظهر أنه أيقن أن كل شيء قد ضاع، ولم يبق إلا أن يقر ويعترف بكل شيء، فسارع إلى تسليم نفسه طوعًا واختيارًا، كما يبدو أنه ساومهم أو ساوموه على أن يكون "شاهد ملك" كما يقولون، وفي مقابل اعترافه يعفى من العقوبة أو تكون مع إيقاف التنفيذ أو نحو ذلك، ولكنهم لم يفوا له بما وعدوه، وربما كان هذا هو السبب في صياحه ساعة ساقوه إلى حبل المشنقة: ضحكوا عليَّ .. خدعوني.. ضحكوا عليّ، مش دا اتفاقنا...إلخ.
وبعض الإخوان اتهموا هنداوي ـ أو كادوا ـ بأنه كان عميلًا للثورة في ذلك الحادث، وأنا أستبعد هذا كل الاستبعاد على الرجل، وإن كان هناك علامات استفهام في القضية لم نجد لها حتى الآن جوابًا مقنعًا. ولكن يبدو أن هنداوي ـ رحمه الله ـ كان ثرثارًا، ولم يكن كتومًا كما ينبغي، حتى ذكر الأستاذ فريد عبد الخالق: أنه قال في المركز العام أمام عدد من الناس: لازم نقتل جمال، وأن محمد الجزار، رجل البوليس السياسي في عهد الملكية سمعه، وربما أبلغ ذلك إلى الجهات المسؤولة.
كما أن هنداوي طلب من محمود الحواتكي رئيس الجهاز السري في محافظة الجيزة مسدسًا لمحمود عبد اللطيف لينفذ به مهمة الاغتيال، فرفض إعطاءه، قائلًا: إن المرشد يرفض فكرة الاغتيال مطلقا. وربما كان هذا أو غيره سبب تسرب الخبر، لا يستطيع أحد الجزم.
2ـ وهكذا يبدو من سير الحوادث: أن سر هذه المؤامرة لاغتيال عبد الناصر قد انكشف قبل أن تقع الواقعة، وأن عبد الناصر علم بها، وعلم من المكلف باغتياله، ولكنه لم يقبض على الشخص، ويودعه السجن، كما يتوقع في مثل هذه الحالات؛ بل أراد أن يستفيد من الحادثة بعد أن انكشف قناعها.
أما كيف انكشفت فعلم ذلك عند الله تعالى. ولكن سمعت من بعض الإخوان: أن أحد رجال الأمن ـ نسي اسمه ـ قال في مقابلة تليفزيونية في القاهرة: إن الأستاذ عبد العزيز كامل ـ وكان يسكن في إمبابة مع هنداوي دوير في بناية واحدة ـ علم بتدبيره عملية اغتيال عبد الناصر، فأفهمه خطورة هذا العمل، وسوء أثره على الجماعة، وحاول أن يثنيه عن عزمه، فلم ينثن، فلما رأى تصميمه على التنفيذ، أراد أن يبلغ قيادة الجماعة، لتمنع هنداوي من تصرفه المنفرد، ولما لم يستطع الوصول إلى قيادة الجماعة لاختفاء المرشد: اتصل بمن يعرف من رجال الأمن، وأبلغهم بنية هنداوي، ليبرئ ذمة الجماعة، وكان غرضه أن يقبضوا عليه وعلى محمود عبد اللطيف، قبل أن يحدث أي شيء.(1)
وأبلغ مسؤول الأمن عبد الناصر، ولكنه لم يقبض على المدبِّر، ولا على المكلف بالاغتيال؛ لأمر أراده، كما تدل على ذلك الشواهد التي نأخذها من تعليقات الأستاذ صالح أبو رقيِّق أكثر من اهتم بهذه القضية والتعليق عليها. من ذلك:
1ـ استبعاد أن يخفق مثل محمود عبد اللطيف في إصابة هدفه، وهو أمهر رام عرفه إخوانه في حرب فلسطين. والمسافة قريبة، وقد أطلق ـ كما قالوا ـ ثماني رصاصات. ولم تصب عبد الناصر ولا أحدًا ممن كان في المنصة.
2ـ وقع الحادث في مساء 26 أكتوبر، وظهرت صحف الصباح ـ صباح 27 أكتوبر 1954 تحمل في صدر صفحاتها الأولى نبأ القبض على الجاني الأثيم بدون نشر صورته.. قالت جريدة الأهرام: "لم يكد الجاني الأثيم يطلق رصاصاته الغادرة؛ حتى كان الجمهور قد هجم عليه، وعلى ثلاثة أشخاص يقفون على مقربة منه، ودخان الرصاص يتصاعد من حولهم، وكاد يفتك بهم؛ لولا أن بادر رجال البوليس والمخابرات بالقبض عليهم، وضبط السلاح في يد الجاني. (هكذا نشرت جميع الصحف، كما أنه لم يُنشر شيء بعد ذلك عن الثلاثة الآخرين الذين قيل أنهم ضُبطوا مع الجاني) وقد اقتيد الأربعة إلى نقطة بوليس شريف.. ويدعى الجاني محمود عبد اللطيف، ويعمل سباكًا في شارع السلام بإمبابة". (وهنا سؤال: لماذا لم تُنشر صورة الجاني في الحال؟)
3ـ وقد عُثر في المكان الذي كان يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 36 ملليمتر، وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي ضُبط مع المتهم، إذ إن المسدس الذي عُثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة"!!
وكان هذا ما نشرته جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم 27 أكتوبر 1954. وأثار ذلك التساؤل عن سر اختلاف الأظرف الفارغة عن طلقات المسدس المضبوط في يد الجاني.. وبدأت همسات: هل هناك شخص آخر؟!
وفي نفس العدد نشرت الصحف أن الجاني ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين..
وتوالى في الأيام التالية نشر اعترافات محمود عبد اللطيف، وأنه من الجهاز السري للإخوان المسلمين.. وكان مكلفًا باغتيال عبد الناصر؛ لتبدأ حركة اغتيالات لبقية أعضاء مجلس الثورة و160 ضابطًا من الضباط الأحرار، والقيام بثورة، وأن الجهاز السري كان سيقف أمام أي تحركات مضادة.
ومع الاعترافات بدأ نشر أنباء اكتشاف مخازن أسلحة للجهاز السري، والقبض على أفراده، ومخازن في جميع محافظات الجمهورية.. ومتهمين من مختلف الفئات والمهن.. طلاب بالجامعات ومحامين ومدرسين وعمال وفلاحين وضباط بالجيش وضباط بوليس وتجار..أي من فئات الشعب جميعها: العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية.
4ـ وكان الناس في لهفة شديدة لمعرفة شكل الجاني الأثيم.. ومضت خمسة أيام كاملة دون أن تُنشر له صورة واحدة.. وأخيرًا نُشرت صورته، وآثار التعذيب واضحة تمامًا على وجهه.. ونُشر تحتها أنها صورة للجاني، ويبدو فيها آثار اعتداء المواطنين عليه وقت القبض عليه!!
ظلت أحاديث الناس تتناول في كل المجالات ما كان يعتزمه الإخوان المسلمون من خراب للبلاد.. كان الناس تستقي معلوماتها مما تنشره الصحف.. وكان بعض المفكرين يراودهم الشك في حقيقة الحادث من ضبط الجاني والمسدس في يده، والعثور على طلقات رصاص من عيار لا يطابق رصاص المسدس ولا يريدون أن يصدقوا أن الحادث من تدبير الإخوان.
5ـ وفجأة وبلا أي مقدمات ـ يوم 2 نوفمبر 1954 أي بعد الحادث بستة أيام؛ نشرت جميع الصحف الصباحية صورة الرئيس السابق جمال عبد الناصر وأمامه عامل بناء ممسكًا بمسدس. ومع الصورة حكاية مثيرة.. تقول الحكاية إن عامل البناء خديوي آدم.. وهذا اسمه.. كان يستقل الترام يوم الحادث عائدًا إلى منزله.. عند ميدان المنشية شاهد جماهير من الناس مجتمعة وسأل عن سر تجمعهم، ولما علم أن عبد الناصر سيلقي خطابًا نزل من الترام واندس وسط الجماهير.
وعندما دوى صوت طلقات الرصاص وساد الهرج الآلاف المجتمعة سقط فوق الأرض، وشعر بشيء يلسعه في ساقه.. وتحسسه فوجده مسدسًا وكانت ماسورة المسدس لا تزال ساخنة.. وأيقن في الحال أنه المسدس الذي استخدمه الجاني في إطلاق الرصاص على زعيم البلاد!! ووضع المسدس في جيبه واعتزم بينه وبين نفسه ألا يسلم المسدس إلا لعبد الناصر شخصيًا.
وتستطرد القصة في استكمال حبكة خيوطها، وحتى لا يتساءل القارئ عن السر في عدم تسليمه المسدس في نفس الليلة وانتظاره خمسة أيام.. فتقول القصة: إن العامل خديوي آدم رجل فقير جدًا يوميته 25 قرشًا.. ولم يكن يملك ثمن تذكرة قطار أو أوتوبيس يحمله إلى القاهرة.. فسار على قدميه المسافة من الإسكندرية إلى القاهرة.. فوصلها يوم أول نوفمبر، وتوجه في الحال إلى مجلس قيادة الثورة، وطلب مقابلة جمال عبد الناصر.. وأعطاه المسدس فكافأه عبد الناصر بمائة جنيه!!
وهكذا ظهر سلاح جديد في الجريمة طلقاته من عيار 36 ملليمتر لتكون من نفس أظرف الطلقات التي عثر عليها.. واختفت تمامًا سيرة المسدس الذي ضُبط في يد الجاني لحظة القبض عليه.. هكذا أراد الحاكم ورجال التحقيق... وفي اليوم الثاني مباشرة نشرت الصحف أن الجاني تعرف على المسدس الذي عثر عليه خديوي آدم، وقرر أنه نفس المسدس الذي استخدمه لاغتيال عبد الناصر، وأنه تسلمه من رئيسه في الجهاز السري المحامي هنداوي دوير. وتعرف هنداوي هو الآخر على المسدس وقرر أنه نفس المسدس الذي أعطاه للجاني، وكان رئيسه في الجهاز السري المحامي إبراهيم الطيب أعطاه له ليسلمه للجاني!
هكذا تعرف الاثنان على سلاح الجريمة.. وهكذا اختفت تمامًا سيرة المسدس الأول الذي ضُبط مع الجاني لحظة القبض عليه.. واحد فقط أنكر أن المسدس الذي عُثر عليه خديوي آدم يتعلق بالجهاز السري.. هذا الشخص هو إبراهيم الطيب نفسه.. وجاء إنكاره أمام محكمة الشعب عندما عرض عليه رئيسها جمال سالم المسدس فقرر أنه ليس نفس المسدس الذي أعطاه لهنداوي.. إنما هو مسدس آخر.
6ـ ولم يحقق جمال سالم هذه النقطة الهامة.. أغفلها تمامًا.. كما أغفل أثناء المحاكمة تكليف الادعاء بتقديم شهود الإثبات الذين ضبطوا الجاني لحظة ارتكاب الجريمة.. وكانوا.. وبالمصادفة: من العاملين بمديرية التحرير التي أنشأها مجدي حسنين أقرب الضباط الأحرار إلى قلب جمال عبد الناصر، وهؤلاء الشهود معروفون بأسمائهم ووظائفهم.
ولعل الادعاء خشي أن يقدمهم، ويقدم خديوي آدم العامل الذي عثر على المسدس؛ حتى لا تتخبط أقوالهم، ويظهر شيء محظور كانوا يسعون لإخفائه.. إن أي طالب بالسنة الأولى حقوق يعلم أن أول شهود يستمع إليهم هم شهود الإثبات الذين لهم صلة بضبط الجاني أو مشاهدة الجريمة أو اكتشاف سلاح الجريمة.. ولكن هؤلاء الأربعة لم يدلوا بشهادتهم عند محاكمة الجاني(2).
7ـ وذكر صالح أبو رقيق بعد ذلك ما حدث في أثناء المحاكمة برئاسة جمال سالم من مهازل ومآس، انتهت بصراخ هنداوي دوير: ضحكوا علينا.. خدعونا..
8ـ ثم ما ذكره حسن التهامي من قصة "القميص الواقي من الرصاص" الذي كان يعد لعبد الناصر تلك الليلة، وما حوله من وقائع وتفاصيل لا أذكرها الآن، ولكنها تزيد الأمر غموضًا، وإن شئت قلت: تزيده وضوحًا: أن تدبير دوير ومن معه قد كُشف، وأن عبد اللطيف لم يطلق الرصاصات الثماني، وإنما أطلقها غيره.
وقال أبو رقيق: إن الشخص الذي كان بجوار محمود عبد اللطيف، والذي أطلق الرصاصات في الهواء، وترك دون أن يمسك به أحد، موجود على قيد الحياة، وكل مظاهره تدل على أنه تاب وأناب. وكان أبو رقيق يرجو أن يكمل توبته بإظهار الحقيقة التي ظُلم بسببها أناس كثيرون، بل جماعة بأسرها. (3)
وذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه فوجئ بالحادث، وفوجئ بإسناده إلى الإخوان، وقد سأل في ذلك يوسف طلعت رئيس الجهاز السري، فأكد: أنه لا يعرف شيئًا عن ذلك، والمفروض أنه المسؤول عن الحركات السرية. ووضح يوسف طلعت: أن الخطة الموضوعة كانت تقتضي أن تجتمع الهيئة التأسيسية بعد غد، وأنه ستعقبها مظاهرة لإعلان قراراتها، كما أكد يوسف طلعت: أنه أيقن أن الأستاذ إبراهيم الطيب المسؤول عن الجهاز السري في القاهرة لم يكلف الأستاذ هنداوي دوير بأن يعمل لاغتيال جمال عبد الناصر، ويستنتج الأستاذ حسن عشماوي من ذلك كله: أن الحادث على هذا النحو فردي يحاسب عليه فاعله.
ثم يعود ليذكر: أنه يؤيد اتجاه الأستاذ يوسف طلعت، الذي كان إيمانه يصل إلى أن الحادث ملفق.. لأن المسافة بين مُطْلِق النار وموقف عبد الناصر 300 متر، وللميل الشديد في الاتجاه، إذ كان عبد الناصر يقف على منصة عالية، ثم لوقوف عبد الناصر وراء حاجز من البشر، وذهاب المتهم وحده دون شريك يسنده، واستعمال مسدس، وهو أداة ضعيفة في مثل هذه الحال، وعدم إصابة الهدف من شخص معروف جيدًا بالمهارة الفائقة، ومعروف كذلك بأنه لا يطلق النار بغير تأكد من الإصابة… كل ذلك يوحي أن الحادث غير معقول.
ويوسف طلعت كان دائما يتساءل: أمن الممكن أن يرسل هنداوي دوير شخصًا واحدًا لهذا الحادث، مع أنه يستطيع أن يرسل عدة أشخاص؟ وهل يمكن أن يرسل مسدسًا واحدًا بدلًا من عدة مسدسات وعدة قنابل؟ ويذكر الأستاذ حسن العشماوي أنه سمع من موظف عاين مكان الحادث رسميًا أن الحائط المواجه لإطلاق النار ليس به أي أثر للرصاص، وأنه يعتقد أن المسدس الذي سُمعت طلقاته كان محشوًا بالبارود فقط دون رصاص، وأن عبد الناصر كان يعلم سلفًا لحظة الإطلاق. (4)
رأي الدكتور أحمد شلبي :
وأود أن أسجل هنا رأي أستاذ جامعي مؤرخ متابع لأحداث العصر، وليس من الإخوان وهو المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية "دار العلوم"، يقول في الجزء التاسع من "موسوعة التاريخ الإسلامي":
" رأيي الذي أدين به والذي كونته من دراسات وتفكير خلال ربع قرن منذ وقع الحادث حتى كتابة هذه السطور، هذا الرأي يتخذ دعامته من الأحداث والأقوال التالية:
أولًا: الدقة الشاملة في إعداد السرادق وتنظيم الذين يحتلون مقاعده، وقد سبق أن اقتبسنا كلمات إبراهيم الطحاوي الذي يقرر أن هيئاتٍ ثلاثًا كانت مكلفة باحتلال مقاعد السرادق؛ هي هيئة التحرير، وعمال مديرية التحرير، والحرس الوطني. وهذا يوضح أنه لم يكن هناك مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليعتدي على جمال عبد الناصر؛ فما كان الوصول إلى المقاعد أمرًا ميسورًا، ولم يترك للجماهير إلا المقاعد الخلفية النائية.
ثانيًا: قضية الجنيهين اللذين تحدثت عنهما الصحف المصرية، وقالت: إنهما أُعطيا لمحمود عبد اللطيف لينفق منهما على أولاده وأسرته هي في تقديري أسطورة لم يُجَدْ حبكها؛ فالمبلغ الذي يقدم لمن هو فقير ويطلب منه أن يقدم على هذه المغامرة لا بد أن يكون مبلغًا ضخمًا، يغري بالإقدام على هذا الجرم.
ثالثًا: ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بجمال عبد الناصر، أو إصابة أي إنسان على الإطلاق.. هذا في تقديري مستحيل!!
ثم إن المشرفين على السرادق سرعان ما طمأنوا الناس ودفعوهم للهدوء، ولو كانت هناك مؤامرة فعلا لانفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص. ومما يتصل بالإصابات نذكر أن الإصابات القليلة التي حدثت كانت من زجاج انكسر، ربما من الزحام والجموع التي تحركت عقب الحادث، ولم تكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق.
رابعًا: كانت المسافة بين المكان الذي قيل: إن محمود عبد اللطيف أطلق منه النار وبين جمال عبد الناصر 300 متر، وكان عبد الناصر على منصة عالية، وهذه المسافة وارتفاع الهدف يجعلان من المستحيل نجاح الخطة وإصابة الهدف؛ وبالتالي لا يُقدم على هذا العمل جماعة لهم خبرات بالتخطيط والأمور العسكرية.
خامسًا: من المعروف أن الإخوان المسلمين كانت عندهم ذخائر ومدمرات هائلة، ولو اتجهوا للاغتيال لكان هناك وسائل أخرى لتحقيق هدفهم، ومن المستحيل أن يقدموا على هذا العمل بمسدس لا يستعمل عادة إلا عند المسافات التي لا تتجاوز أصابع اليدين من الأمتار، وقد تحدثت الصحف آنذاك عن أسلحة ومفرقعات ضبطت لدى بعض الإخوان بالإسكندرية كانت تكفي لنسف المدينة كلها. (5)
سادسًا: حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرًا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية:
1ـ كيف اتُّهم محمود عبد اللطيف قبل العثور على المسدس؟ مع ملاحظة أن المسدس الذي قيل: إنه وجد معه لم يُستعمل ذاك المساء.
2ـ كيف أفلت المسدس المستعمل من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف؟
3ـ لماذا لم يُسلِّم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية؟
4ـ لماذا جاء هذا الرجل سيرًا على الأقدام طيلة هذا المسافة التي لا تقطع عادة سيرًا على الأقدام؟
سابعًا: يروي صلاح الشاهد(6) أنه كان يقود سيارته مساء يوم 16 وسمع جزءا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات؛ فأسرع نحو بيت الرئيس ليكون مع أولاده في هذه الأزمة، ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابًا أو ذعرًا وأخذ يداعب أولاد الرئيس الذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي بأن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفًا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من الإسكندرية.(7)" انتهى
كل هذا يؤكد ما قلته، وأنا مطمئن تمام الاطمئنان: أن قيادة الإخوان -العلنية والسرية- ليس لها أدنى علاقة بهذا الحادث، وأن الذي فكر فيه ودبر خطته أولًا هو هنداوي دوير، وأن خطته كشفت لعبد الناصر يقينًا، وإن كنا لا نعلم كيف تم ذلك على وجه القطع، وأن عبد الناصر استغل هذا الأمر، وأخرجه -مع رجاله- على الطريقة التي تم بها، والتي تدل كل خطواتها ووقائعها على أن محمود عبد اللطيف ليس هو الذي أطلق الرصاص، وليس مسدسه الذي انطلق منه الرصاص.
لقد أطلت الوقوف عند "حادث المنشية" وحق لي أن أفعل؛ فإن هذا الحادث كان هو السبب الظاهر فيما حلّ بي وبإخواني من تنكيل وتعذيب وتشريد، استمر عدة سنوات، حتى قضى بعضهم عشرين عامًا في الأشغال الشاقة، ولا تزال له آثاره في سير الجماعة حتى اليوم. فليس كثيرًا أن نُطيل عنده الوقوف والتأمل والمقارنة والتحليل.
.....
(1) في النفس شيء من هذه الرواية، فلا أعرف أن الدكتور عبد العزيز كامل أفضى بها إلى من حوله، وقد رأيت شيئا من مذكراته، فوجدته يثير تساؤلات حول الحادث، لا تصدق هذه الرواية.
(2) انظر ما قاله صالح أبو رقيق في كتاب "الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ" ج3 ص36 وما بعدها.
(3) انظر: الإخوان المسلمون - ريتشارد ميتشل ص280، 281.
(4) الإخوان والثورة ص 74-76 باختصار. نقلًا عن كتاب د. أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي (9/424،425) .
(5) الأهرام في 8 نوفمبر سنة 1954م.
(6) ذكرياتي في عهدين ص 283.
(7) انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي جـ 9: ثورة يوليو من يوم إلى يوم: 425-427.