لم تطل فترة الصلح بين الإخوان والثورة، فسرعان ما تحول الصفاء إلى كدر، والصحو إلى غيم، وكان لذلك أسباب شتى؛ بعضها نفسي يتعلق بموقف عبد الناصر من الهضيبي، وعدم استراحته له، ونفس الشيء عند الهضيبي، وكما قيل: "من القلب إلى القلب رسول".
وبعض الأسباب موضوعي، وهو أن عبد الناصر يريد أن يحكم البلد وحده، لا يشاركه أحد في حكمها، ولا ينتقده في رأي، وقد قال ذلك للأستاذ فريد عبد الخالق في إحدى جلسات الحوار معه: أنا أريد أن أضغط على زر فتتحرك البلد من الإسكندرية إلى أسوان، وأضغط على زر آخر فتتوقف البلد، والإخوان يصرون على عودة الحكم النيابي البرلماني للبلاد، وعودة الحريات العامة، ومنها حرية الصحافة، وقد وعد رجال الثورة بذلك، وجعلوه من مبادئهم الستة التي أعلنوها من أول الأمر.
وكان عبد الناصر يقول للإخوان: تريدون أن يعود حكم الباشوات، وحكم النحاس باشا وزينب الوكيل من جديد؟ وكان الأستاذ الهضيبي لا يكل ولا يمل من المطالبة بعودة الحياة الديمقراطية والنيابية للبلاد، ويرى أنه لا خلاص لمصر إلا بها، كما كان ينادي باستمرار بتحكيم الشريعة الإسلامية، واتخاذها مصدرًا للتقنين.
كما وُجد عنصر جديد زاد العلاقة توترًا، والنار اشتعالًا، وهو الاتفاقية الجديدة التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم في الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع.
ولم يكن الإخوان وحدهم هم الذين نقدوا الاتفاقية، فقد نقدها كذلك الرئيس محمد نجيب، وكان لا يزال رئيسًا للجمهورية، وأوعز عبد الناصر ببدء حملة صحفية إعلامية على الإخوان، وعلى الأستاذ وأعوانه خاصة؛ سعيًا لإيجاد معارضة للمرشد داخل الجماعة، مؤيدة منه، ومسنودة من قبله، وهو ما حدث بالفعل.
وزاد الطين بلة: أن الصحف القومية التي كانت تتبع الحكومة -وكل الصحف كانت كذلك- بعد إلغاء جريدة "المصري" التي كانت لسان حزب الوفد.. هذه الصحف لم تكن تنشر ما يذيعه الإخوان من بيانات وردود على دعاوى الثورة عليهم واتهاماتها لهم، فلجأ الإخوان إلى إصدار نشرات سرية تشن حملات نارية على الثورة وزعيمها ورجالها.
وفي هذا الوقت قُبض على بعض الإخوان للتحقيق معهم، وتعرضوا لتعذيب بشع داخل السجن، أذكر منهم الأستاذ محمد المهدي عاكف، ولا أذكر من كان معه، وازداد الجو سخونة حين اختفى المرشد من القاهرة، ولجأ إلى مخبأ لا يعرفه أحد إلا عدد محدود جدًا من المقربين منه، وقيل: إن سبب اختفائه أنه كان مهددًا بالاغتيال، ولا أحسب أن هذا هو السبب الحقيقي؛ فقد كان الهضيبي من الرجال الشجعان المتوكلين على الله، الذين لا يخشون شيئًا ولا أحدًا إلا الله.
وهنا أدع للدكتور ريتشارد. ت. ميتشل -مؤلف كتاب "الإخوان المسلمون" الذي ترجمه د.محمود أبو السعود، وعلق عليه عضو مكتب الإرشاد، والقريب من الأستاذ الهضيبي وصُنع القرار في الجماعة الأستاذ صالح أبو رقيّق- يسرد هذه الحوادث، نقلًا عن مراجعه؛ ليعيش القارئ معنا هذه الأجواء المكفهرة، يقول ميتشل (261-268):
(أعلنت الحكومتان البريطانية والمصرية في 27 يوليو موافقتهما المشتركة على "موضوعات الاتفاقية" كأساس لمعاهدة جديدة تسوي النزاع المصري البريطاني التاريخي، وفي 31 يوليو نشرت صحيفة لبنانية في صدر عددها رأي رئيس الإخوان المسلمين في الاتفاقية، وكانت النقاط التي أثارها الهضيبي هي:
1- كانت معاهدة 1936 ستنتهي بعد فترة تقل عن السنتين؛ مما يحتم الجلاء عن القواعد دون أي ارتباط قانوني يسمح لهذه القوات بالعودة إليها، بينما تعطي المعاهدة الجديدة لبريطانيا هذا الحق؛ إذ تنص على حالة الرجوع إلى القاعدة حالة الهجوم على الدول العربية أو تركيا.
2- إن النص الخاص بالعودة حالة الهجوم على تركيا يربط مصر والدول العربية بهذه الدولة، وبالتالي بالمعسكر الغربي.
3- النص الذي يسمح لبريطانيا أن تحتفظ بقواعد جوية تهديد لمصر، كما أنه وسيلة لاستمرار السيطرة عليها في عصر الطيران الراهن.
4- إن "المدنيين" الذين ينتظر أن يساعدوا في تشغيل المنشآت بالقواعد هم بطبيعة الحال عسكريون في ثياب مدنية.
5- مدّ هذا الاتفاق معاهدة 1936 خمس سنوات أخرى، وسمح "بالتشاور" في إعادة النظر فيه عند انتهاء مدته، وهو نفس النص الذي جعل من معاهدة 1936 معاهدة دائمة في واقع الأمر.
وبناء على هذه الأسباب جميعا؛ فقد "رفض" الهضيبي الاتفاق، وأصر على وجوب عرض أي اتفاق بين مصر وأي حكومة أجنبية على "برلمان منتخب انتخابًا حرًا.. يمثل إرادة الشعب"، وعلى صحافة لا تخضع للرقابة، وتتمتع بحرية المناقشة.
كان أثر نقد الهضيبي الجريء الصريح لموضوعات الاتفاق مزعجًا ومقلقًا، وساءت الأمور إثر بيان طويل مفصل يحتوي على نقد الاتفاق أُرفق بخطاب بعث به حميدة نائب المرشد باسم مكتب الإرشاد في 2 أغسطس إلى عبد الناصر. وقد نُشر كذلك عن طريق جهاز النشرات السرية؛ فكان ذلك توثيقًا لحق الإخوان في إعلان رأيهم في الاتفاق، علاوة على كونه نقدًا له.
وقد زاد من تعكير الجو إصدار نشرتين أخريين: إحداهما نقد للاتفاق، أمضاها محمد نجيب، ذكر فيها عدم صلته بالاتفاق، والثانية بإمضاء وزير سابق عُرف فيما بعد أنه "سليمان حافظ" الذي كان وزيرًا للداخلية في وزارة نجيب الأولى. وقد انتقد فيها الحكومة بوجه عام. وكانت النشرتان صادرتين بأحرف مشابهة للمنشورات الأخرى ومطبوعتين على نفس الشاكلة وعلى ورق مشابه؛ مما يدل على أن مصدر النشر واحد، وهو مطابع الإخوان المسلمين، وقد سلمت النشرتان إلى عبد القادر عودة لنشرهما.
ظل التوتر الناشئ عن نقد مشروع الاتفاق مكتوما أثناء غياب الهضيبي الذي كان ما زال في سوريا وأثناء غياب عبد الناصر الذي كان بالسعودية من 7 -15 أغسطس لأداء فريضة الحج، ولحضور المؤتمر الذي اقتُرح عقده مؤخرًا ليضم زعماء المسلمين في مكة. وعاد الهضيبي في 22 أغسطس، وفي نفس اليوم نظمت حملة صحفية تهاجم فيه موقفه من الاتفاق، واعتمدت في ذلك أساسًا على التشهير بالهضيبي، مفصلة موقفه في "الاتفاق السري" الذي زعم أنه تفاوض فيه مع الإنجليز في فصل الربيع، والذي ادّعت الصحف أنه أعطى الإنجليز امتيازات أكثر مما أعطتهم الحكومة.
قوبل الهضيبي بترحاب حار في المركز العام مساء ذلك اليوم، وكتب رده الأول والأخير على تهمة المفاوضات السرية، وأرسل به في خطاب إلى عبد الناصر، كما تضمن هذا الخطاب رجاء بالسماح للإخوان المسلمين أن يعبروا عن آرائهم حتى "يستطيع الناس أن يحكموا علينا بأفعالنا وليس بأقوالك"، ومرة أخرى وزِّع هذا الخطاب في صورة منشور.
وفي اليوم التالي كان اجتماع الثلاثاء الأسبوعي، وكان آخر اجتماع من نوعه، وقد ساده التوتر. وقف الهضيبي أمام جمع غفير، فأعاد ما سبق ذكره يوم الأحد الماضي؛ ليعلم من لم يسمعه ذلك اليوم، مبديًا تفاصيل رحلته وتفسيره للمحادثات مع تريفور إيفانز التابع للسفارة البريطانية (وهذا تم بعلم عبد الناصر وتشجيعه).
ثم تناول موضوع توقف الصحيفة الأسبوعية التي كفت عن الصدور بعد عددها الثاني عشر، وأرجع ذلك إلى أن الرقابة جعلت صدور الصحيفة أمرًا غير عملي، وأخذ شعور الإخوان يزداد التهابًا كلما امتد الاجتماع، وبذل الهضيبي قصارى جهده ليحتفظ بالنظام، وتعمد التقليل من خطورة الموقف، مصدرًا أمره في غضب؛ ليسكت الأعضاء الذين كانوا يقفون هاتفين بهتافات عدائية للحكومة، وعلا صوته فجاوز نبراته المعتادة حين توجه باللوم إلى شاب صاح بهتاف "الموت للخائنين"، ثم أنهى كلمته بعبارات هادئة كان لها أثر كبير على المجتمعين، مقررًا أنه "مستعد لكل ما قد يحدث"، معلنًا تمسكه بمبدأ أساسي للجمعية، وهو أن "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
كانت تلك آخر مرة رأى فيها الكثير من الإخوان مرشدهم، حتى اعتقل وقُدِّم إلى المحاكمة بعد عدة أشهر، إذ حدث اصطدام مسلح بين المجموعتين خلال الأسبوع التالي سنتعرض له فيما يلي. واختفى الهضيبي واثنان من أقرب مستشاريه: حسن العشماوي، وصلاح شادي، إذ إنهما نصحاه بأن يجنب نفسه احتمال الاغتيال أو الاعتقال، وأيدهما آخرون في ذلك، وقد وجد في نفسه استعدادًا للبعد عن مسرح الحوادث، إذ كان ما زال موقنًا تمامًا أن في ذهابه خدمة للقضية وإنقاذًا للموقف، وأقر مكتب الإرشاد غياب المرشد بإعلان أن المرشد في "إجازة".
وبينما استغلت الحكومة اختفاء الهضيبي لتشتد في الحملة عليه شخصيًا، لاقت مشقة في تأكيد عدم رغبتها في القبض عليه؛ وذلك حتى تُبدِّد هالة أحاطت بشخصه وهو أنه ضحية لكيدها.
بدأت الحكومة منذ ذلك الحين في تطبيق سياسة هجومية ذات شعبتين: الأولى: إطلاق حملة صحفية ضخمة مستمرة ضد الهضيبي "وعصابته" وسياستهم. والثانية: تشديد الأمن وفرض رقابة شديدة تصل أحيانًا إلى حد الاستفزاز على النشاط القليل الذي ظل الإخوان يمارسونه.
كان للحملة الصحفية مظهران:
1- أخذت افتتاحيات الصحف الحكومية تجيب على النشرات السرية التي ملأت الشوارع أو تنفي ما تذكره، ولو أنها لم تكن تذكر كل ما يُنشر كاملًا أو على صحته.
2- كانت الصحف تنشر كل يوم تقريبًا أعمدة تشتمل على خطابات تزعم أن الحكومة تلقتها من الإخوان يستنكرون فيها موقف الهضيبي خاصة أو الجمعية عمومًا بعدائهم لمجلس قيادة الثورة، وهي طريقة تقليدية تتبع في مصر لزعزعة الثقة في الخصم السياسي، أو لإقامة مهرجان يدعو لشيء أو ضد شيء.
كان بث هذه الأخبار في الصحف والمجلات مبررًا لتشديد الأمن حتى إذا جاء يوم 28 أغسطس نشرت الصحف بالخط العريض تقارير من وزارة الداخلية عن هجوم قام به الإخوان المسلمون على "البوليس والشعب" عقب صلاة الجمعة في مسجد الروضة، وجاء في التقرير: أنه عقب إلقاء خطبة قُصِدَ بها إثارة العنف خرج الإخوان من المسجد وهاجموا البوليس والجمهور..
على أن الذي حدث فعلًا يختلف في جوهره عن ذلك بعض الشيء، إذ كانت الخطبة التي ألقاها أحد زعماء الطلبة، وكان صديقًا لعبد الناصر (وهو حسن دوح زعيم طلبة الجامعة)، عبارة عن نداء يدعو إلى الهدوء وإطلاق الحريات، تخللته استشهادات من القرآن والحديث، ثم انتهت التلاوة وأخذ فريق من المصلين يتفرقون قبل محاولة استفزازية قام بها البوليس الذي ترأسه ضابط من الجيش (وكان البوليس قد وصل أثناء الصلاة وأحاط بالمسجد) إذ أراد القبض على الخطيب فأثار الناس؛ مما "برر" استعمال القوة بما في ذلك إطلاق نار البنادق لتهدئة الموقف.
وفي 10 سبتمبر ذكرت الصحف حادثًا مشابهًا وقع في مسجد الإخوان في طنطا فقالت عنه: اعتداء الإخوان المسلمين على الجمهور، "وأن معركة قامت بالمسجد" حيث استعمل فيها الخطيب سكينًا ضد معارضيه! وفي اليوم نفسه نفت الحكومة في الصحف خبرًا لم يسبق نشره، ولكنه قد عُرف في القاهرة بعد ساعات من وقوع الحادث، وهو اشتراك الحرس الوطني الذي تشرف عليه الحكومة بالاشتباك؛ مما أوحى إلى كثير من المراقبين أن الحادث كان مدبرًا لإثارة الإخوان. وقد فرضت الحكومة بعد هذا الحادث الأخير الوسائل الكفيلة بجعل الخطابة في المساجد تحت رقابة شديدة عن طريق وزارة الأوقاف.
وفي أواخر سبتمبر وصلت الأزمة إلى ذروة مرحلة خطرة؛ إذ صدر قرار في 23 من الشهر من مجلس قيادة الثورة بنزع الجنسية عن ستة من المصريين بزعم أنهم أساءوا إلى سمعة بلادهم في الخارج، وأضروا بعلاقاتها مع جيرانها العرب، وكانت تهمتهم "خيانة الأمة"! وكان الستة جميعًا في الخارج في ذلك الوقت وهم: سعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وسعد الدين الوليلي، ومحمد نجيب جويفل، وكامل إسماعيل الشريف (وهؤلاء جميعًا من الإخوان المسلمين)، ثم محمود أبو الفتح وهو وفدي بارز وأحد أفراد الأسرة التي تملك الصحيفة الوفدية "المصري"، وقد اعتُبر حليفًا للإخوان، بجانب أمور أخرى اتُّهم بها.
أما الإخوان (الخمسة) فكانوا جميعًا في سوريا في ذلك الوقت يحضرون مؤتمرًا منعقدًا في دمشق، واعتبروا مسؤولين عن ظهور منشورات صدرت عن المؤتمر تحت أسماء الجمعيات في العراق والأردن والسودان تدافع عن الإخوان ضد حكومة مصر، كما اعتُبروا مسؤولين عن الحملة الصحفية العنيفة في سوريا ضد مجلس قيادة الثورة، وعن سيل الأخبار المستمر المتتابع من راديو إسرائيل حول النزاع في مصر، وتوترت العلاقات بين مصر وسوريا لسبب موضوع استمرار نشاط الإخوان في سوريا، ومستقبل من سُلبت جنسيته منهم، حتى أدى الأمر إلى حملة مرّة على سوريا ظهرت في الصحافة المصرية؛ مما جعل رئيس وزراء سوريا ورئيس أركان حرب جيشها يسارعان بالقيام بزيارة شخصية لمصر.
وحوالي منتصف سبتمبر توقف عبد الناصر عن الظهور أمام الجمهور لفترة معينة؛ إذ كان مهددًا في حياته؛ فلما أن بلغ ذلك الهضيبي كتب خطابًا آخر موجها إلى رئيس الوزراء (يعني: عبد الناصر) ما لبث أن وُزِّع أيضًا في منشورات عامة، وقد طلب فيه إنهاء التوتر السائد عن طريق السماح بمناقشة كريمة للقضايا القائمة وفي جو من الحرية. كما طلب "بإيقاف الاستثارة" التي يتولاها بعض الناس والسلطات القائمة على تنفيذ القانون ضد الإخوان، وخاطبه بقوله: "إن من واجبك أن تحمي الناس، سواء أكانوا مصيبين أم مخطئين"، أما فيما يتعلق بالتهديدات العنيفة، فقد أكد الهضيبي لرئيس الحكومة أنه يستطيع أن يتجول بحرية ليلًا أو نهارًا وحده حيثما أراد، دون أن يخشى من "الإخوان المسلمين". ويبدو أن عبد الناصر وافق على ذلك، إذ إنه بدأ في أواخر الشهر يظهر في المناسبات العامة) (انظر: الإخوان المسلمون لريتشارد ميتشل ص 261 – 268).