في مساء اليوم التالي (ليوم القاء محاضرة بدار الإخوان ببنها) ذهبت أنا والأخ أحمد العسال ـ وكنا زميلين في الدراسة ـ إلى كلية اللغة العربية في الدرَّاسة، لنحضر كعادتنا المحاضرات المقررة علينا في تخصص التدريس، ما كدنا ننزل من الحافلة (الأوتوبيس) ونصل إلى الباب؛ حتى وجدنا من يترقبنا، من رجال المباحث، ويأخذ بأيدينا في يسر، ويقول: تفضلوا معنا، ولم يكن لنا بد من أن نتفضل معهم. كل ما طلبناه منهم أن نذهب إلى البيت، لنضع كتبنا الدراسية هناك، ونأتي ببعض الملابس، ولم يمانعوا في ذلك، وأُخذنا إلى السجن الحربي، لمجرد أن نبيت فيه ليلة أو ليلتين، ثم أخذونا بعد ذلك إلى معتقل "العامرية" بالقرب من الإسكندرية.
معتقل العامرية
وهناك عملنا على تحويل المعتقل إلى جامع وجامعة وجمعية: جامع للعبادة، وجامعة للتثقيف، وجمعية للتعاون على الخير. يبدأ يومنا من قبل الفجر في التهجد وتلاوة القرآن، وذكر الله، والتضرع إليه بالدعاء والاستغفار، ثم صلاة الفجر في جماعة، ثم قراءة الأذكار والأدعية المأثورات، ثم درس علمي روحي، ألقيه أنا أو الأخ العسال، أو الأخ عز الدين إبراهيم، أو الأستاذ عطية الشيخ، أو غيرهم من دعاة الإخوان.
ثم طابور الرياضة، فالإفطار، ففترة حرة للقراءة والمناقشة والتزاور، ثم صلاة الظهر في جماعة، وبعدها الغداء والقيلولة. ثم تأتي فترة العصر للمحاضرات والندوات والأنشطة الثقافية المختلفة حتى صلاة المغرب، وبعد صلاة المغرب وقراءة المأثورات، يكون العَشَاء ثم العِشَاء، ثم قد يكون هناك درس علمي مركز. ثم نخلد إلى النوم .لقد استفاد الإخوان من معتقل الطور، وأرادوا أن ينقلوا التجربة إلى معتقل العامرية، فكانت صورة أخرى منه.
وما هي إلا أيام قليلة ونحن في معمعة هذا النشاط؛ حتى نودي على ستة من المعتقلين دون غيرهم، ليُنقَلوا إلى القاهرة، كنت واحدًا منهم. وهم: محمود عبده، وعز الدين إبراهيم، ومحمود حطيبة، ومحمود نفيس حمدي، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوي. في أول الأمر ظن الإخوان أن هذا أول كشف من كشوف الإفراج! ولكن بالنظر في الأسماء التي نودي عليها؛ يستحيل أن يُفرج عنها قبل غيرها، وهم من قادة العمل الطلابي والشبابي والدعوي.
وذهبت ظنون الإخوان وتفسيراتهم مذاهب شتى، لماذا هؤلاء دون غيرهم؟ وهل هم مفرج عنهم؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهم من أنشط الإخوان؟ حتى قال بعضهم: إنهم أخذوهم ليحرموا الإخوان في المعتقل من نشاطهم ومحاضراتهم، ولكن قد ينطبق هذا على عز الدين والعسال والفقير إليه تعالى، وقال بعض الإخوان: لعلهم يريدون أن يتفاوضوا مع شباب الإخوان خاصة، وكله ظن وتخمين، والظن لا يغني من الحق شيئًا.
إلى السجن الحربي
على كل حال أُخذنا نحن الستة في سيارة كبيرة، ووصلتنا إلى مكان في ضواحي القاهرة، أُدخلنا إليه؛ فإذا هو السجن الحربي الذي بتنا فيه ليلة اعتقالنا، وقد وضعنا في سجن رقم (4) في زنازين انفرادية، وكان هذا هو السجن الذي ضم بعد ذلك الأستاذ الهضيبي المرشد العام وعددًا من قادة الإخوان.
ورغم أن كلًا منا في زنزانة انفرادية؛ فقد سمحوا بفتح الزنازين معظم النهار، وكنا نتزاور، ونصلي في جماعة، وقد أمرني الأستاذ المرشد أن أكون إمامًا لهم، فكنت أصلي بهم، وأطيل في الصلاة الجهرية، بحيث أقرأ ربعًا أو أكثر أحيانًا في الركعة؛ فنصحني الأستاذ أن أخفف، وكان هذا من فقهه رحمه الله، رعاية للكبير والضعيف وذي الحاجة، وهذا ما جعل بعض الإخوان بعد ذلك إذا التقينا في مناسبة ما؛ يقدمونني للصلاة بهم، ويقولون: أنت الإمام بأمر المرشد.
وكان من الإخوان البارزين الذين شرّفوا معنا في السجن الحربي الأستاذ الداعية المعروف سعيد رمضان زوج ابنة الإمام البنا، الذي ساعدته الأقدار؛ فلم يشارك معنا في معتقل الطور، كما ساعدته مرة أخرى؛ فلم يدرك الاعتقال الثاني في عهد الثورة، حيث كان في الخارج، وأسقطت عنه الجنسية مع أربعة آخرين من الإخوان.
وكان منهم الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان، وزوج شقيقة الأستاذ البنا، الشاعر الرقيق المطبوع، وكانت للأستاذ عابدين في الأسحار دعوات واستغاثات يناجي بها ربه، بطرف دامع، وقلب خاشع، يسمعها من حوله في زنازينهم. وقد رآني الأستاذ عابدين يومًا أنتفض من البرد، ولم يكن عليَّ من الألبسة الصوفية ما يتدثر به الموسرون عادة؛ فأهداني من عنده ما يسمونه "بلوفر" رصاصي اللون، لأتدفأ به في برد الشتاء، وهذه أول مرة ألبس فيها هذا النوع من الثياب، وقد بقي معي ودخلت به السجن الحربي في الاعتقال القادم، الذي قضيت فيه شتاءين، فأفادني كثيرًا، جزى الله الأستاذ عابدين خيرًا عن أخيه الفقير، ولكن هذه الحال لم تدم كثيرًا، فنقل المرشد ومعه مجموعة من القياديين إلى عنبر الإدارة، وبقينا نحن في عنبر (4).
وكانت المعاملة بصفة عامة حسنة، يمر علينا في صباح كل يوم مدير السجون الحربية، وكان اسمه اللواء نظيم، كما يمر بنا طبيب السجن، وأحيانًا تحدث غضبة مفاجئة لأي سبب، فيغلقون علينا الزنازين، وهنا ننتهزها فرصة للقراءة فيما حملنا من كتب قليلة، أذكر من الكتب التي كانت معي كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم طبعة صبيح، وهي ليست طبعة أنيقة ولا محققة، ولكنها كانت تؤدي الغرض. وكانت إدارة كلية أصول الدين تعطينا بعض الكتب هدية منها، للاطلاع وتنمية الثقافة، وكان منها "زاد المعاد" وهي سنة حسنة، انقطعت بعد ذلك، ربما لضيق الميزانيات.
وأحسب أنه كان معنا بعض كتب التربية المقررة لنا نراجعها مع الأخ محمد مرسي عبد الله، وكان من خريجي معهد التربية العالي، وأراد الأخ عز الدين إبراهيم أن يصدر مجلة باسم المعتقل، وطلب إلي أن أشارك فيها بقصيدة، فأنشأت قصيدة "زنزانتي" المنشورة بديواني "المسلمون قادمون"، ومن قارن وصف الزنزانة في هذه القصيدة ووصفها في قصيدتي "النونية" الشهيرة؛ يعرف الفرق بين الاعتقال الأول في يناير 1954م والاعتقال الآخر في أكتوبر 1954 وما بعده.
وفي هذه القصيدة قلت:
دارٌ حَلَلْتُ بها أُزار وأُخدم ** ونزلتها ضيفا أُعَزُّ وأُكْرَم
يسعى إلي بها المدير وجنده ** ويزورني فيها الطبيب يسلّم
دار السلام، فليس فيها آلة ** تدمي، وأنى؟ والمقص محرم!
هي لي، ولي وحدي، فليس ** منازعي فيها لئيم أو أخ لي مسلم
مَلِك بها أنا، لا يرد رغائبي ** ومنايَ، إلا هاشم أو مكرم
حجبت عن الدنيا فلا خبر ولا ** أثر، وحتى لست ممن يحلم!!
أنا في حماها راهب في خلوة ** مع من يرى ما في الضمير ويعلم
منها أصعّد للسماء ضوارعًا ** حرّى تهز العرش وهو الأعظم
هي علمتني الزهد في مُتع الورى ** والمرء حتى موته يتعلم
إن قيل: موحشةٌ، فأُنْسي مصحف ** أتلوه، يهدي للتي هي أقوم
أو قيل: معتمةٌ، فليس بمعتم ** عندي سوى قلب يعيثُ ويجرم
أو قيل: مغلقةٌ، فذا كيلا أرى ** وجهًا عبوسًا أو لسانًا يشتم
أو قل: ضيقةٌ فكلّ حوائجي ** في الرّكن، والباقي فضاءٌ يعظم!
هي حجرتي فيها نهاريَ مجلسي ** هي غرفتي للنوم حين نُنَوّم
هي مكتب حينًا، وحينًا مطعم ** إن جاء ميعاد الطعام فأطعموا
هي ساحة لرياضتي أعدو بها ** في موضعي، إن الضرورة تحكم
هي "دورتي" في الليل إنْ طال المدى ** أو في النهار إذا أبوا وتحكموا
هذا وليس عليَّ أوّل شهرها ** أجرٌ لسكناها به أتقدّم!
حييت يا زنزانتي، فلأنت لي ** قفصٌ، وإني في حديدِك ضيغمُ!
وفي قصيدتي "النونية" قلت فيها :
أعرفتَ ما قاسيتُ في زنزانة ** كانت هي القبر الذي يؤويني؟ !
لا بل ظلمتُ القبر، فهو لذي التُّقى ** روضٌ، وتلك جحيمُ أهل الدِّين !
هي في الشتاء وبرده "ثلاجةٌ" ** هي في هجير الصيف مثلُ أتون
نُلقى ثمانيةً بها أو سبعةً ** متداخلين كعُلْبةِ "السردين"
هي منتدانا وهي غرفةُ نومنا ** وهي "البوفيه" وحجرة "الصالون"
هي مسجد لصلاتنا ودعائنا ** هي ساحةٌ للَّعْبِ والتمرين
وهي "الكنيف" وللضرورة حكمها ** ما الذنبُ إلا ذنبُ من سجنوني
الأرض كلُّ الأرض عندي: أرضها ** أما السماء فسقفها يعلوني
هي كل ما لي في الحياة فلم يعد ** في الكون ما أرجوه أو يرجون
فيها انقطَعْتُ عن الوجود فلم أعد ** أعنيه في شيء ولا يعنيني
ومما عرفناه ونحن في السجن الحربي: أن الأستاذ الهضيبي بعث برسالة إلى الرئيس محمد نجيب، تتضمن بعض النصائح، ويطالبه فيها بإعادة الحريات والحياة النيابية إلى الشعب، ومما أذكره مما جاء في هذه الرسالة قوله: إنكم عبتم على الأحزاب والزعماء قبل الثورة: أنهم لم يقولوا للملك وبطانته: لا، حيث يجب أن تقال. وأنتم بموقفكم من الإخوان تمنعونهم أن يقولوا لكم: لا، حيث يجب أن تقال.
أحداث فبراير 1954
ثم وقعت أحداث فبراير عام 1954 التي بدأت داخل الجيش وسلاح الفرسان بقيادة خالد محيي الدين، بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب.. خرجت المظاهرات تطالب نجيبًا بالبقاء، وكان من المعروف أنها من تدبير الإخوان المسلمين.. وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات، واضطر عبد الناصر إلى إعادة نجيب.
وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات من جامعة القاهرة والأزهر، ومن أبناء الشعب؛ فأصيب عدد من المواطنين، منهم الطالب ثروت يونس العطافي الطالب بكلية الهندسة، واستشهد أحد طلاب الإخوان، وهو الطالب توفيق عجينة، وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلى قصر عابدين.. وخرج إليهم محمد نجيب محاولًا دفعهم للانصراف.. ولكنهم لم يتحركوا.. ولمح بينهم الأستاذ عبد القادر عودة، فدعاه إلى الشرفة لإلقاء خطاب لفض المتظاهرين - وصعد بالفعل، ووقف بجوار محمد نجيب الذي أعلن أنه سينشئ الجمعية التأسيسية وسيعيد الحياة النيابية.. وانصرفت المظاهرات.
وجاء في خطاب نجيب ما يلي: "إننا قررنا أن تكون الجمهورية جمهورية برلمانية على أساس، هو أن نبدأ فورًا بتأليف جمعية تأسيسية تمثل كافة هيئات الشعب المختلفة، لتؤدي وظيفة البرلمان مؤقتًا، وتراجع نصوص الدستور بعد أن يتم وضعها. وبعد ذلك تعود الحياة النيابية إلى البلاد في مدة أقصاها نهاية فترة الانتقال. وهذا أمر متفق عليه.. ونحن عند وعدنا الذي قطعناه على أنفسنا من أننا لم نقم إلا لإعادة الدستور على أساس سليم في نهاية فترة الانتقال".
واختتم نجيب كلمته قائلًا: "نحمد الله سبحانه تعالى مرة أخرى على أننا اجتزنا هذا الامتحان القاسي بنجاح.. وأؤكد لكم مرة أخرى أني لا أطمع في حكم أو سلطة أو جاه، وإنما أطمع فقط في أن أؤدي واجبي، وأن تزهق روحي في سبيل بلادي وتحريرها، وفي سبيل اتحاد أبنائها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وكانت تلك الكلمة سببًا في انصراف المتظاهرين.. وفي نفس الوقت ثارت ثائرة عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين.. فقد همس معاونوه أن الذي أوحى لنجيب بهذا الكلام هو عبد القادر عودة أحد أقطاب الإخوان، الذي كان يقف إلى جوار نجيب في شرفة قصر عابدين.
ومرت ثلاثة أيام.. وفي يوم 2 مارس قامت سلطات البوليس الحربي باعتقال 118 شخصًا بينهم 45 من الإخوان، و20 من الاشتراكيين، و5 من الوفديين، و4 شيوعيين، بادعاء أنهم كانوا يدبرون لإحداث فتنة في البلاد، مستغلين فرحة الشعب بعودة نجيب.. وكان في مقدمة المقبوض عليهم: حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وصالح أبو رقيق وأحمد حسين زعيم الاشتراكيين.
وتعرَّض بعض رجال الإخوان المسلمين لعمليات التعذيب داخل السجن الحربي. وفي 8 مارس 1954 بعث عمر عمر نقيب المحامين برسالة إلى نجيب -وكانت قد عادت له كل السلطات- يطلب فيها التحقيق في وقائع التعذيب التي حاقت بالمحامين المعتقلين، وهم: أحمد حسين، وعبد القادر عودة، وعمر التلمساني.
وأمر نجيب بالتحقيق فورًا. ومع هذا لم يبدأ التحقيق إلا بعد مرور عشرة أيام بسؤال الثلاثة. وأكدوا جميعًا أن الضابط محمد عبد الرحمن نصير كان يشرف على أعمال التعذيب، وكان يشترك في ضربهم بنفسه.. واستطاع المرشد أن يُهرِّب رسالة من سجنه إلى محمد نجيب نشرت بجريدة المصري..
وكان فيها: أما بعد، فإن مجلس قيادة الثورة قد أصدر قرارًا في 12 يناير 1954 بأنه يجري على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية. ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه، فقد صدر بيان نسبت إلينا فيه أفحش الوقائع، وأكثرها اجتراء على الحق، واعتقلنا ولم نُخبَر بأمر الاعتقال ولا بأسبابه. وقيل يومئذ: إن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنًا، فاستبشرنا بهذا القول؛ لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه؛ لنبين أن ما اشتمل عليه وعلى الصورة التي جاءت به لا حقيقة له؛ فيعرف كل إنسان قدره، ويقف عند حده. ولكن ذلك لم يحصل.
وإلى أن تتاح لنا الفرصة، فإننا ندعوكم وندعو كل من اتهمنا وندعو أنفسنا: إلى ما أمر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام حين قال: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران:61).
وقد استمرت حركة الاعتقالات طوال شهرين كاملين حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها بلغوا عدة آلاف، لكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس. أما كيفية الاعتقالات ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا.
وقد بدت في مصر بوادر حركة -إن صحت- فقد تغير من شؤونها وأنظمتها. وإن قرار حل الإخوان وإنزال اللافتات عن دورهم لم يغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم؛ لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الاعتصام بحبل الله المتين، وهي أقوى من كل قوة. وما زالت هذه الرابطة قائمة، ولن تزال كذلك بإذن الله. ومصر ليست ملكًا لفئة معينة ولا يحق لأحد أن يفرض وصايته عليها أو يتصرف في شؤونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها.. لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يُبَت في شؤون البلاد في غيبتهم. وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشيء.
وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال، فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة.
نسأل الله تعالى أن يقي البلاد كل سوء، وأن يسلك بنا سبيل الصدق في القول والعمل، وأن يهدينا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإفراج عن المعتقلين إلا واحدًا هو أنا
في يوم 25 مارس، أي بعد حوالي شهرين ونصف من بدء الاعتقال؛ صدرت الأوامر من قيادة الثورة بالإفراج عن الإخوان في كل المعتقلات، سواء من كانوا في السجن الحربي أم في العامرية أم في غيرهما.
ونودي على جميع الإخوان الذين كانوا في السجن الحربي، فأُفرج عنهم إلا واحدًا، لم يُناد عليه، وهو أنا. وأُسقط في يد المسؤول عن السجن، حين لم يجد اسمي في كشف المفرج عنهم. فقد كان يظن أن الكشف يستوعب جميع المعتقلين. وأبدى تأسفه لي، وقال: لا بد أن اسمك سقط سهوًا.. ولا بد أن تبقى ضيفًا علينا الليلة حتى نتصل بالمسؤولين في الصباح لتدارك الأمر.
وعرف عدد من الإخوان ما حصل؛ فصبّروني على البقاء هذه الليلة، وأكثرهم لم يعلم بذلك. وبقيت وحدي هذه الليلة في سجن الإدارة، وكانت ليلة طويلة طول ليالي المعتقل الماضية كلها؛ لأني بقيت فيها وحدي شاعرًا بالوحشة، فاقدًا الأنس بإخواني، حتى لو كان كل منا في زنزانة انفرادية، وقديمًا قال العرب: البلايا إذا عمَّت طابت. وعبرت عن ذلك الخنساء قديما في رثائها لأخيها صخر بقولها:
يُذكِّرني طلوع الشمس صخرًا ** وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حـولي ** عـلى إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي، ولكن ** أعـزي النفس عنه بالتأسّي
وقد فاتني ببقائي بالمعتقل في هذه الليلة: الاشتراك في المؤتمر الكبير الذي عقده الإخوان في المركز العام ليلة خروجهم من قفص الاعتقال، وقد بلغني عنه بعد ذلك: أنه كان مؤتمرًا حاشدًا، تحدث فيه عدد من دعاة الإخوان، منهم الأستاذ سيد قطب، الذي قال: لن نعتقل بعد اليوم. لن نُمسّك كالفراخ (الدجاج) ونوضع في المعتقلات.
وأوصى الأستاذ الهضيبي المرشد العام الإخوان: ألا يُكثروا الحديث عما أصابهم من المحن في سبيل الله، فإنهم لا يدرون ما ينتظرهم مما يخبئه الغد. وكأنما كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق! وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح الغد جاءني الضابط المسؤول، وقال لي: لقد صُحِّح الخطأ، وجاءت الأوامر بالإفراج عنك، ونأسف لما حدث، وسنأمر بسيارة توصلك إلى منزلك، تكفيرًا عن غلطة الأمس.