أحببت الأزهر منذ صباي المبكر، وشغفت به، وتمنيت أن أكون واحدًا من علمائه. فقد كان الأزهر في نظري معقل الدين والعلم، ومعهد الثقافة والأدب، ومركز الدعوة والتوجيه. وعلى أيدي علمائه في قريتنا يتعلم الجاهلون، ويهتدي الحائرون، ويتوب العاصون.
ولما حفظت القرآن الكريم بعد التاسعة بقليل ظللت أترقب اليوم الذي أدخل فيه معاهد الأزهر؛ لأتعلم فيه الدين واللغة والأدب، وأقدر على الخطابة والتدريس والوعظ، مثل مشايخ قريتي الذين سمعتهم في صغري، وتأثرت بهم: الشيخ أحمد محمد صقر، والشيخ أحمد عبد الله، والشيخ أحمد البتة، والشيخ عبد المطلب البتة رحمهم الله جميعًا.
ولقد حفظت فيما بعد رائعة شوقي الرائية عن "الأزهر"، وكنا نحن الأزهريين نعتز بها ونفخر، وفيها يقول:
قم في فم الدنيا، وحيّ الأزهرا ** وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واخشع مليًّا، واقض حق أئمة ** طـلعوا به زُهرا، وماجوا أبحرا
كانوا أجـل من الملوك جلالة ** وأعـز سـلطانًا، وأفخم مظهرا
وفيها يقول: والله ما تدري لعل كفيفهم ** يومًا يكون أبا العلاء المبصرا
وفيها يخاطب أبناء الأزهر:
هزوا القرى من كهفها ورقيمها ** أنتم -لعمر الله- أعصاب القرى
الغـافـل الأمي ينطق عنكم ** كـالببّغـاء مـرددًا ومكـررا
لو قلتم: اختر للنيابة جاهـلًا ** أو للخطـابة باقـلًا لتخـيرا
كان الأزهر هو "المنجم" الفذ الذي تُستخرج منه كنوز العلم، ويتخرج فيه العلماء على مستوى العالم الإسلامي كله، ففي رحابه الفسيح يلتقي طلبة العالم من المشرق والمغرب، أو قل: تلتقي الأمة الإسلامية كلها: عربها وعجمها؛ ولذا قلّما تجد بلدًا إلا وللأزهر فيها وجود بسبب خريجيه المنتشرين في الأرض انتشار الشرايين في الجسم، ولقد حفظنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: أن العلماء ورثة الأنبياء، وإذا كانت النبوة هي أعلى الرتب، فوراثتها تليها في الفضل.
كما حفظنا من المأثور: صنفان من الأمة إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء. ونسبه بعضهم حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح سندًا، وإن كان معناه صحيحًا في الجملة، فالأمراء لهم القيادة السياسية والتنفيذية، والعلماء لهم القيادة الفكرية والروحية، وبصلاح القيادتين يصلح المجتمع، وتصلح حياة الناس، ولكن الخطر: أن تفسد القيادتان أو تفسد إحداهما، ولا سيما قيادة أهل العلم، فهم الأمل في الخلاص، إذا فسد الساسة والمتسلطون من أهل الإمارة والسلطان..
والإمام الغزالي يرى أن فساد المجتمعات بسبب فساد الملوك والحكام، وإنما يفسد الملوك بفساد العلماء، وإنما فساد العلماء بفساد قلوبهم، وفساد قلوبهم إنما هو بسبب حب الدنيا ونسيان الآخرة؛ ولهذا يبدأ الإصلاح الحق بإصلاح العلماء، وإصلاح العلماء في نظرنا يدور على أمرين: إصلاح العقول والأفكار، وإصلاح القلوب والضمائر.
وإصلاح العقول ينبغي أن يبدأ من المحضن، من المعهد الذي يصنع عقل طالب الأزهر، بحيث يتعلم فيه ثقافة إسلامية خصبة وإيجابية، تعتمد على لباب العلم لا على قشوره، وعلى الجوهر لا على الشكل، وعلى المعنى لا اللفظ، وتهدف إلى إيقاظ الروح والقلب، إلى جوار إضاءة العقل والفكر، وأن تجمع إلى هذه الثقافة الإسلامية: ثقافة عصرية مناسبة، تصل الطالب بزمانه وبيئته؛ وهذا ما شغلنا ونحن طلاب منذ عهد مبكر.
وحين قدّر الله لي دخول الأزهر، مبتدئًا بمعهد طنطا الابتدائي، ومثنيًا بمعهدها الثانوي، ومثلثًا بكلية أصول الدين، ثم بإجازة التدريس.. كنت مهتمًّا بكل ما يصلح الأزهر ويرفع شأن أبنائه، وينهض بهم في أداء رسالتهم التي هي رسالة الإسلام، ويزيل المعوقات من طريقهم، حتى يقوموا بمهمتهم خير قيام، فكنت أحضر وأنا طالب في القسم الابتدائي -المعادل للإعدادي الآن- مع طلاب القسم الثانوي ممثلًا لزملائي في المناداة بمطالب الأزهريين، ومساواتهم بغيرهم من خريجي الجامعات المصرية.
وفي المرحلة الثانوية شاركت في عدة مؤتمرات عقدناها في طنطا وفي غيرها من عواصم المديريات (المحافظات)، حضرها ممثلون عن المعاهد الدينية في أنحاء المملكة المصرية (لم تكن الجمهورية قد نشأت بعد) حددنا فيها مجموعة من المطالب، ونقلناها إلى المسئولين بالأزهر وبالحكومة. أذكر منها:
1 - إدخال اللغة الإنجليزية إلى معاهد الأزهر.
2 - فتح باب الكليات العسكرية والمدنية أمام حملة الثانوية الأزهرية.
3 - فتح معاهد دينية للبنات فهن نصف المجتمع، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
4 - إتاحة الفرصة للمتفوقين بإعادة فتح باب الدراسات العليا، وتعيين معيدين بكليات الأزهر.
5 - إعادة النظر في المناهج والكتب الدراسية.
6 - الاهتمام بالجانب التربوي والسلوكي لطلاب الأزهر.
ولم نكن نكتفي بعقد المؤتمرات، ورفع المطالب والتوصيات، بل كنا أحيانًا نقيم المظاهرات، أو ندعو إلى الإضراب. وكثيرًا ما جعلنا هذا نصطدم بالشرطة، ونُجرّ إلى "الأقسام"، ونتعرض للإيذاء من أجل الأزهر. وفي المرحلة الجامعية تبلورت المطالب وتحددت أكثر من قبل. وقد التقينا مع عدد من المسئولين في الأزهر للحوار حول هذه القضايا: فكان منهم المتجاوب إلى أقصى حد، كالمغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، ومنهم من لم يُعِر هذه التطلعات بالًا، واعتبرها أماني بعيدة المنال.
وما زلت أذكر آخر مؤتمر عقدناه -وأنا طالب في تخصص التدريس أواخر سنة 1953م- في ساحة كلية الشريعة بالدرّاسة، حضره أبناء الكليات الثلاث، ومعهد القاهرة، ومعهد البعوث، وتحدثت فيه طويلًا -باسم إخواني ونائبًا عنهم- عن مطالبنا وتطلعاتنا الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية.
وفي هذه الفترة التي بدأت بعد أن أُوقفت معارك القناة، التي شارك فيها الأزهر بكتيبته التي ذهبت إلى الشرقية، واحتفل بها في قاعة الشيخ محمد عبده بالدَّراسة في يوم من أيام الأزهر الخالدة.. عدنا إلى القاهرة لنوجّه عناية أكبر إلى إصلاح الأزهر من داخله، وبعث الحيوية في كلياته ومعاهده؛ ليتبوأ مكانه في قيادة الأمة تحت لواء الإسلام كما كان من قبل.
وبعد تفكير وبحث وحوار بين مجموعة من الأزهريين الواعين والمخلصين لقضية الأزهر، وقضية الإسلام، منهم: أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد المطراوي، ومحمد الراوي، وصلاح أبو إسماعيل، ومحمد عبد العزيز خالد، ومحمد الدمرداش مراد، ومحمد الصفطاوي، وغيرهم ممن قضى نحبه وممن ينتظر؛ قررنا أن ننشئ لجنة سميناها "لجنة البعث الأزهري". وليسمح لي القارئ أن أنقل له هنا أهداف هذه اللجنة ووسائلها كما وجدتها في أوراقي القديمة.
لجنة البعث الأزهري
مجموعة من شباب الأزهر آمنوا بربهم ورسالتهم، وآلوا على أنفسهم أن يرفعوا صرح الأزهر عاليًا أو يموتوا تحت أنقاضه.
أهدافها:
1 - المساهمة في إيقاظ الوعي الإسلامي وتكوين جيل جديد يفقه الإسلام ويعمل به ويجاهد في سبيله.
2 - جمع أبناء الأزهر من خريجيه وطلابه حول هذا الهدف الرفيع.
3 - إصلاح أوضاع الأزهر ومناهجه إصلاحًا شاملًا يُمكِّنه من حمل رسالة القرآن إلى العالم الإسلامي والعالم الإنساني.
4 - تأمين مستقبل الثقافة الإسلامية المهدَّدة، وإيجاد الينابيع الدائمة التي تصب في الأزهر، وذلك بتقرير حفظ أجزاء من القرآن في مدارس الدولة، وتكثير جمعيات التحفيظ وضمها إلى الأزهر.
وسائلها:
1 - تنبيه الرأي العام في داخل الأزهر؛ وذلك عن طريق إلقاء المحاضرات وتنظيم الندوات، وطبع الرسائل والنشرات.
2 - إعداد المراجع والتشجيع على البحث للنابهين من شباب الأزهر؛ ليتخصصوا في شعب الثقافة الإسلامية المختلفة.
3 - العمل على إصدار مجلة دورية تنطق باسم شباب الأزهر.
4 - العمل على أن يكون قادة الأزهر وموجِّهوه من الذين يُبلِّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله.
وقد كلفني الإخوة الزملاء مؤسسو اللجنة أن أبدأ بكتابة الرسالة الأولى من رسائلها المعرِّفة بها والمعبرة عن مهمتها؛ ولم تكن أمامي إلا الاستجابة لهذه الرغبة وكتبت رسالة بعنوان "رسالتكم يا أبناء الأزهر"، وما زلت أذكر أني عرضتها على الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي ليقرأها ويبدي ملاحظاته عليها؛ فأجاب ذلك مشكورًا، وقرأها، وقال عنها: إنها من أمتع ما قرأت، فكرة وعاطفة وأسلوبًا. وعرضتها كذلك على الداعية والمربي الجليل الأستاذ عبد العزيز كامل؛ فسُرّ بها كثيرًا، ولكنه نصحني بأن أُخرّج أحاديثها؛ حتى تأخذ الصبغة العلمية.
وتمت الرسالة وذهبت بها إلى المطبعة (دار الكتاب العربي)، وذلك في أواخر سنة 1953، ولكن أحداثًا قاهرة حدثت في أوائل سنة 1954، انتهت بنا إلى معتقل العامرية، ثم إلى السجن الحربي؛ فتوقف عمل اللجنة، كما توقف طبع الرسالة، واسترددتها بعد ذلك من المطبعة. وظلّت مطمورة ضمن أوراقي التي سلمت من الضياع في المحن المتتابعة التي لحقت بدعاة الإسلام في مصر.
وحين بعث إليّ بعد ذلك بأكثر من عشرين سنة الأخ الأستاذ الدكتور الحسيني أبو هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية والأخ الدكتور عبد الودود شلبي المشرف على العدد التذكاري لمجلة الأزهر بمناسبة عيده الألفي سنة 1997م بطلب كتابة مقالة عن الأزهر في هذا العدد؛ رجعت إلى أضابيري (الأضبارة -بالفتح والكسر- هي الحزمة من الصحف)؛ لأجد الرسالة القديمة مكتوبة بخط الأخ الحبيب الشاعر الأديب محمد حوطر، الذي طالما سجّل بقلمه أحاديثي وخطبي بمدينة المحلة الكبرى.
ولقد وجدت أن في الرسالة أفكارًا ومعانيَ يجب أن تُنشر من جديد، وإن كانت تحمل حرارة الشباب وحماسه المتوقد. كما رأيت أن أُعمل فيها يد التهذيب والإضافة والحذف والتعديل، وإن بقيت في جوهرها كما كانت قديمًا، ومما حذفت منها مقدمتها؛ لأن شدتها لم تَعُد مناسبة للأوضاع، كما حذفت بعض المباحث لعدم ملاءمتها لما جدّ من أحوال؛ ولأن بعض ما نادت به قد تحقق فيما بعد.
وقد أعجبني فيما قرأته منها الإهداء في الصفحة الأولى، وكانت صيغته هكذا:
"إلى كل مسلم يعنيه مستقبل الأزهر
وإلى كل أزهري يعنيه مستقبل الإسلام
وإلى كل عاقل يعنيه مستقبل الإنسانية
أهدي هذه الرسالة..
عسى أن يتحرك المسلمون لتجديد رسالة الأزهر.
وعسى أن يتحرك الأزهريون لتجديد رسالة الإسلام.
وعسى أن يتحرك العقلاء لإنقاذ سفينة الإنسانية".
القضية الكبرى
كما أعجبني من تلك الرسالة خاتمتها المتوثبة توثب الشباب في كاتبها وفيمن وجهت إليه، ولا بأس أن أسجلها هنا كما وجدتها للتاريخ:
"حذار يا شباب الأزهر أن تشغلنا قضيتنا الصغرى (قضية الأزهر) عن قضيتنا الكبرى (قضية الإسلام)، الذي تألب المتألبون عليه، وافترق خصومه على أمور شتى، ولكنهم اجتمعوا على محاربته والكيد له، والتربص بأهله، والتعدي على حرماته، وبات يعاني الآلام، ويشكو الجراح من اليهودية العالمية، والشيوعية الدولية، والصليبية الغربية، والنزعات القومية، والشهوات الحزبية، والموجات الإلحادية والإباحية.
وأصبحت بلاد الإسلام نهبًا مقسمًا في أيدي أعدائه، يستنزفون خيراتها ويمتصون دماءها، ويوجهونها وجهتهم التي يريدون.
كم صرفتنا يد كنا نُصـرِّفها ** وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ** تجده كالطير مقصوصًا جناحاه
واجبنا مضاعف
يا ابن الأزهر، إذا كان بعض الناس يشعر بواجبه مرة واحدة في هذه المرحلة الدقيقة الحاسمة من تاريخنا؛ فعليك أن تشعر بواجبك أربع مرات:
فأنت يا أخي مسلم: والمسلم يعيش في هذه الحياة لهدف أسمى، ورسالة عظمى، لخّصها الله تبارك وتعالى في كتابه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} (الحج: 77،78).
فالمسلم في المحراب عابد خاشع، راكع ساجد.
وهو في المجتمع بار خير، منتج نافع.
كما هو في ميادين الكفاح بطل مجاهد، وجندي مناضل.
فإياك أن تظن نفسك كمًّا مهملًا، وسطرًا مطموسًا، فإنما أنت مُنَفِّذ أحكام الله في الأرض، ووارث رسالات النبيين، وحامل هداية الله إلى العالمين. اختصك الله بأعظم كتاب أُنزل، وأفضل نبي أُرسل، وأكمل دين شُرع، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3).
وأنت أخي شاب، والشباب حيوية هائلة، وطاقة جبارة، فإن الذي خلق الشمس وأودعها الضياء، وخلق النار وأودعها الحرارة، وخلق الحديد وأودعه الصلابة؛ خلق الشباب وأودعه الحيوية والعزيمة. ولو نظرت إلى التاريخ لرأيت الكثير من أعلام الهدى، وأنصار الحق كانوا شبابًا: كان أتباع موسى شبابًا: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِه} (يونس: 83)، وكان أهل الكهف شبابًا: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: 13).
وكان أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم شبابًا، تقدموا الصفوف، وهل فينا من يجهل مثل علي، والزبير، وأسامة، ومعاذ رضي الله عنهم جميعًا؟ ومن الشباب في الصدر الأول من كان يحمل راية العلم في السلم وراية الجهاد في الحرب. حفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة، وصحّح عليه الأصمعي أشعار البدويين وهو شاب.
ومما يفخر به تاريخ الشباب أن قائد الكتائب الإسلامية لفتح الهند التي تحوي الآن أكبر دولة إسلامية "باكستان" لم يكن إلا شابًا في السابعة عشرة، ألا وهو "محمد بن القاسم" الثقفي، الذي قال عنه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى ** لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حِجة ** يا قرب ذلك سؤددًا من مولد
فإذا اعتذر الشيوخ لضعف القوة، وغلبة اليأس، وابيضاض الرأس، وإدبار الحياة؛ فما لك من عذر.
وأنت يا أخي مثقف، قد رشفت من رحيق الثقافة، واستنار عقلك بنور العلم، وللثقافة ضريبة لا بد أن تُدفع، وللعلم زكاة لا مفر من أن تُؤدى، فعليك أن تُعلِّم الجاهل، وتُنبِّه الغافل، وتنشر الوعي، وتأخذ بيد الحائر.
واعلم أنك إذا قصّرت فلن تجد من يعذرك، والجاهل قد يُعذَر إذا قصَّر، فأُفقه ضيق، ونظره قريب، وعلمه محدود. وقد قال شوقي: "الجاهل غريب في وطنه، مقبور في بدنه، رافل في كفنه"، أما الذي نوّر الله بصيرته بالعلم، فمسئوليته أكبر، وعذره أقل.
العلم فضيلة توجب لصاحبها رفعة في الدنيا والآخرة، وهو كذلك تبعة توجب عليه مسئولية أمام الله والناس، وفي الحديث "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".
وأنت يا أخي أزهري:
منَّ الله عليك فحفظت كتابه الكريم، وهداك إلى معهد تدرس فيه لغة القرآن وأصول الإسلام، وعلوم الشريعة، فأنت -لو علمت- وارث الأنبياء، وهمزة الوصل بين الأرض والسماء، تؤدي أمانة العلم، وتبلغ رسالة الله - رسالة محمد صلى الله عليه وسلم - رسالة الإسلام؛ فعليك ما على أصحاب الأمانات الكبرى من أعباء ثقيلة، وواجبات جمَّة، فالهدف بعيد، والسفر طويل، والحمل ثقيل، وقُطّاع الطريق كثير، والسبيل محفوفة بالأشواك، مملوءة بالعقبات.
وعليك أن تزيل الغشاوات عن العيون لترى، والسداد عن الآذان لتسمع، والأكنّة عن القلوب لتفقه، مستعينًا بالله متوكلًا عليه، معلنًا في الناس: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِين} (الذاريات:50)، ومعك الضياء الذي لا يخبو، والدليل الذي لا ينحرف. كتاب الله: "مَن علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
يا أبناء الأزهر: أنتم مسلمون، فعليكم واجب عظيم بقدر هدى العقيدة التي تميزكم عن الضالين.
وأنتم شباب؛ فعليكم واجب ثانٍ بقدر الحيوية والحرارة التي تميزكم عن الشيوخ المحطمين.
وأنتم طلاب علم؛ فعليكم واجب ثالث بقدر الثقافة التي تميزكم عن الجاهلين.
وأنتم حملة رسالة الإسلام؛ فعليكم واجب رابع بقدر الدراسات الإسلامية التي تميزكم عن المدنيين.
والآن يا أخي الأزهري:
إن مجدنا في الأولى والآخرة مرتبط بالعمل للإسلام، "ونحن إن لم نكن به لم نكن أبدًا بغيره"، وهو إن لم يكن بنا كان بغيرنا، وقد نِمنا زمنًا طويلاً فقيّض الله للدين أفرادًا وجماعات نفضت عنه غباره، وذادت عن حياضه، ونشرت تعاليمه، وأحيت في النفوس الأمل في سيادته.
ولولا نهوض هؤلاء في غفلة الأزهر؛ لكانت العاقبة تسوء المؤمنين وتسر الكافرين، ولكن دين الله أعز عنده من أن يتخلى عنه ويتركه بلا دعاة وجنود.
فالبدار البدار يا إخوة.
والعمل العمل للإسلام.
فإن العالم الإسلامي الآن يجتاز مرحلة دقيقة من حياته، وشبابه المؤمن في كل قطر يعمل جاهدًا من أجل دينه.
وعلينا أن نقوم بواجبنا الكامل في هذا الجهاد، وأن نشعل مصابيح الهدى في ليل الشك الذي أطبق على المسلمين ظلامه.
لا ننتظر جزاء إلا من الله الذي لا تضيع عنده الودائع، رابطين حاضرًا متحفزًا بماضٍ مجيد، متطلعين إلى غدٍ مزهر ومستقبلٍ منير.
يا شباب الأزهر:
تستطيعون أن تكونوا قوة دافعة لهذا الركب المؤمن، وصوتًا عاليًا يجمع هذه القلوب على كلمة سواء، وأدلاء أمناء لهذه القوافل التي يحدوها الإيمان إلى ربها. ففي رحاب الأزهر صورة مصغرة للجامعة الإسلامية، وميدان يجب أن تصنع فيه النماذج الإسلامية الكريمة. فإذا انتشرت في قراها وأقطارها كانت خير عنوان للإسلام، واستطاعت بعزم وعلم وعمل أن تحول الآمال إلى حقائق، والفُرقة إلى وحدة، والتخلف إلى سبق بعيد.
هذه مهمتنا التي ندبنا أنفسنا لها، وينتظرها منا مجتمعنا، ويحاسبنا عليها ربنا.
فاعملوا.. فسيرى الله عملكم ورسوله المؤمنون. وإن تتولّوْا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". أ.هـ
كان هذا ما كتبته سنة 1953 عن الأزهر ورسالة أبنائه، وكان الذي هيأت له نفسي: أن حياتي العملية بعد تخرجي ستكون كلها في رحاب الأزهر، فمن حقي -باعتبار تفوقي- أن أُعيَّن مدرسًا في معاهد الأزهر، ومن واجبي: أن أظل حاملًا راية الإصلاح للأزهر، التي حملتها وأنا طالب، وأن أتعاون في ذلك مع إخواني العاملين فيه من أبناء الأزهر المهمومين بقضيته وقضية الإسلام معه بل قبله.
ولكن الأقدار لم تسعدني بتحقيق ما أردت وما أعددت له عدتي؛ فمُنعت من التعيين في الأزهر، وإن عدت إليه فترة قليلة من الزمن (نحو ثلاث سنوات) لا في التدريس ولا في الوعظ، ولكن في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، مع الأستاذ الكبير الدكتور محمد البهي رحمه الله، في المكتب الفني لإدارة الدعوة والإرشاد مع مدير الوعظ في ذلك الوقت العالم الجليل الشيخ عبد الله المشد رحمه الله. وذلك في عهد شيخنا الأكبر الفقيه العلامة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله.
ومن الأزهر أُعرت إلى حكومة قطر للعمل في وزارة المعارف، وإدارة معهدها الديني الثانوي، وسأعود إلى الحديث عن هذه الحقبة في قطر، عندما يأتي أوانها في هذا الجزء إن شاء الله.
عملية الزائدة الدودية
في هذه الفترة -فترة بقائي بمدينة المحلة الكبرى- وفي إحدى الليالي من شهر نوفمبر 1953م؛ شعرت بمغصٍ شديد جعلني أتلوى من الألم، وقد عرف الإخوة ما ألمَّ بي فأحاطوا بي، وأعطوني بعض المُسَكِّنات التي لم تُغنِ شيئًا في دفع الألم الذي طفق تزداد حدته.
وفي الصباح ذهبوا بي إلى الدكتور زهير، وكان من أطباء الإخوان، فقال لي: إن الزائدة عندك ملتهبة التهابًا شديدًا، وكان يخشى أن تنفجر، ويجب أن يدخل الشيخ المستشفى فورًا، ودخلت مستشفى مَبَرَّة المحلة، وكان مستشفى جيدًا مجهزًا، وتولى د. زهير إجراء العملية لي، وتمت بحمد الله، وخرجت من المستشفى بسلام والحمد لله أولًا وآخرًا.