من الأحداث التي وقعت في تلك الحقبة، وكان لي بها صلة؛ زيارة الشيخ أبي الحسن الندوي لمصر في يناير سنة 1951م، وذلك حين بدأ الشيخ يتحرك من وطنه بالهند إلى العالم من حوله، وكانت زيارته لمصر الأولى والأخيرة.

كنت وقتها طالبًا في كلية أصول الدين، مشغولًا بدعوة الإخوان المسلمين، مسؤولًا عن طلبة الإخوان في جامعة الأزهر مع أخي أحمد العسال وعدد من الإخوة الكرام، وأخطب الجمعة في مسجد بمدينة المحلة الكبرى -القريبة من قريتي- وكنت قد قرأت كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نشرته "لجنة التأليف والترجمة والنشر" التي يرأسها الأستاذ الكبير أحمد أمين رحمه الله.

وقد أعجبت بالكتاب، ودللت عليه بعض الأصدقاء ليقرؤوه، وإن كنت لا أعرف عن صاحبه شيئًا إلا أنه عالم هندي مسلم، وقد كتب الأستاذ أحمد أمين مقدمة للكتاب، ولكنه لم يوفِّ صاحبه حقه كما ينبغي. ولكن الكتاب نظرة جديدة إلى التاريخ الإسلامي، وإلى التاريخ العالمي من منظور إسلامي، وهو منظور عالم مؤرخ مصلح داعية، يعرف التاريخ جيدًا، ويعرف كيف يستخدمه لهدفه ورسالته.

وقد ساعده على ذلك معرفته باللغة الإنجليزية، كما ساعده الحس النقدي، والحس الحضاري، والحس الدعوي، والحس الإصلاحي -وكلها من مواهبه- على تقديم هذه النظرة الجيدة من خلال كتابه الفريد.

الندوي في مصر ومع المصريين

اتصل بي بعض الإخوة من الطلاب الهنود الذين يدرسون في مصر، وقالوا لي: هل تعرف الأستاذ أبا الحسن الندوي؟ قلت لهم: أليس هو صاحب كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" قالوا: بلى، قلت: وما شأنه؟ قالوا: سيصل إلى القاهرة يوم كذا. قلت: أرجوكم أن توصلوني إليه عند حضوره. وما هي إلا أيام حتى حضر الشيخ، ومعه اثنان من إخوانه ورفقائه الندويين، أحدهما: الشيخ معين الندوي، والثاني نسيت اسمه.

كان الشيخ ومن معه يسكنون في شقة متواضعة في زقاق من أزقة شارع الموسكي بحي الأزهر، فالشيخ لا يقدر على سكنى الفنادق، ولا يحبها إن قدر عليها، وفي اجتماعات مجلس رابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية يَدَع الفنادق التي ينزل فيها الضيوف، وهي من فنادق الدرجة الأولى، وينزل عند بعض إخوانه، كما أنه يرفض النزول ضيفًا على بعض الكبراء من الأغنياء والموسرين؛ لعل ذلك للشبهة في أموالهم، أو لئلا يكون أسيرًا لإحسانهم.

كان الشيخ حين زار مصر في شَرْخ الشباب -أوله ونضارته- لحيته سوداء، ووجهه نضر، وعزمه فتيّ، وروحه وثّابة، وغيرته متوقدة.. كان يحمل حماس الشباب وحكمة الشيوخ، يحمل فكر العالم الموفق، وقلب المؤمن الغيور في آنٍ واحد.

ذهبت لزيارة الشيخ في مسكنه المتواضع أنا وأخي وصديقي محمد الدمرداش مراد رحمه الله، رفيقي في الدراسة، ورفيقي في الدعوة، ورفيقي في المحنة، ورفيقي في السكن، ودعوناه إلى بيتنا في شبرا؛ ليلتقي ببعض إخواننا من شباب الأزهر الملتزمين بالدعوة في صورة ما يسميه الإخوان "كتيبة"، وهو تعبير عن ليلة جماعية تُقضى في العلم والعبادة والرياضة، وقليل من النوم.

وكان الشيخ حريصًا على أن يستمع منا كما نستمع إليه، فكان يسأل عن حسن البنا وكلامه وطريقته، ومواقفه وتصرفاته في الأمور المختلفة، كبيرة كانت أو صغيرة؛ وهو ما كوّن معه فكرة عن الشيخ البنا، وأنه كان "إمامًا ربانيًّا" بحق، ولم يكن مجرد زعيم يطالب بحكم إسلامي، بل كان قبل كل شيء "مربيًا" يريد أن ينشئ للإسلام "جيلًا جديدًا" يُحسن الفهم له، والإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله.

وتكرر لقاؤنا معه، ولقاؤه معنا، نحن شباب الدعوة الإسلامية (أنا، والأخ أحمد العسال، والأخ الدمرداش، والأخ منّاع القطان، والأخ عبد الله العقيل... وآخرون).

كانت أيام الشيخ أبي الحسن في مصر أيامًا خصبة مباركة، لا يكاد يخلو يوم منها عن محاضرة عامة يُدعى إليها، أو درس خاص يُرتَّب له، أو لقاء خاص يُعَد له.

ألقى محاضرة تحت عنوان "المسلمون على مفترق الطرق" في دار الشبان المسلمين -على ما أذكر- وعقّب عليها الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ الغزالي، كما ألقى محاضرة عن محمد إقبال شاعر الإسلام في الهند في كلية دار العلوم، كان لها تأثيرها ودويُّها، والشيخ من المعجبين بشعر إقبال، ويحفظ منه الكثير الكثير، وقد أخرج كتابًا عنه بعنوان "روائع إقبال".

التقى الشيخ في القاهرة بكثير من العلماء والدعاة والمفكرين، وسجل عنهم ملاحظاته الدقيقة في كتابه الذي أصدره بعد رجوعه "مذكرات سائح في الشرق العربي".

التقى بالأديب الكبير الناقد الشهيد سيد قطب، وأُعجب به الشهيد، وكتب مقدمة أخرى لكتابه "ماذا خسر العالم...؟" أنصف فيها الكتاب وصاحبه، وقدّره حق قدره.

والتقى كثيرًا بالشيخ محمد الغزالي، ورافقه في بعض رحلاته الدعوية، وأُعجب كل منهما بصاحبه، وكتب عنه الشيخ في "مذكراته" تلك.

وأذكر أن الشيخ الندوي كان قد اصطحب معه عدة رسائل من أوائل كتاباته الإسلامية الدعوية، وهي جملة رسائل تعبر عن حس رقيق، وفكر عميق، وبيان أنيق، وعن رهافة الحاسة الأدبية، وعمق الحاسة الروحية عند الشيخ.

وأذكر أن الشيخ الغزالي قرأها، ومنها رسالتان، إحداهما: "من العالم إلى جزيرة العرب"، والأخرى: "من جزيرة العرب إلى العالم". وفيهما يستنطق الشيخ ما يريده العالم من الجزيرة من الهدى ودين الحق، وهو ما قدمته الجزيرة قديمًا للعالم، ورد الجزيرة على هذا التساؤل. قال الغزالي معقبًا: هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة مُحلِّقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه!

لقد وجدنا في رسائل الشيخ لغة جديدة، وروحًا جديدة، والتفاتًا إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها. إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه أمام رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: "إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". أبو الحسن الندوي -فيما أعلم- هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.

وقد لقي الشيخ أستاذنا البهي الخولي، وقد أُعجب به الأستاذ البهي غاية الإعجاب، وسجّل ذلك في رسالة سطرها إليه، كما لقي الأستاذ صالح عشماوي وغيره من قادة الإخوان، وجلس إليهم وتحدث معهم حديثًا نشره في رسالة بعد ذلك، عنوانها: "أريد أن أتحدث إلى الإخوان المسلمين".

ولقي كذلك أستاذنا العلامة الدكتور محمد يوسف موسى، وقد كتب له مقدمة لكتابه (ماذا خسر العالم...؟)، كما لقي الأديب الداعية الشيخ أحمد الشرباصي، الذي سجل معه مقابلة عن سيرته نُشرت في مقدمة "ماذا خسر العالم...؟".

ومما ذكره في هذه المقابلة: أنه سُئل عن أغرب ما رآه في مصر؟ فكان جوابه: أني وجدت العلماء حليقي اللحى! ولا ريب أن هذه صدمة شديدة لعالم لم يرَ في حياته في وطنه عالمًا واحدًا حليقًا، وحلق اللحى عندهم من شأن المتفرنجين والبعيدين عن الدين، أما أن يكون هذا هو الطابع العام للعلماء في بلد، فهو الشيء الغريب! ومن العجب أن بعض شيوخ الأزهر المتحمسين لإعادة الأزهر إلى مكانته القديمة يحاولون أن يفرضوا على الطلبة لبس العمامة، وهي مجرد تقليد! ولا يفكرون أن يفرضوا عليهم إطلاق اللحية، وهو سنة إسلامية بلا ريب!

رحلات الندوي في ريف مصر

ولم يكتف شيخنا بالنشاط والحركة في مدينة القاهرة على سعتها، بل امتد إلى مدن أخرى سمعت بالشيخ فدعته إلى زيارتها ولقاء الجمهور المسلم فيها، ومن ذلك: مدينة "المحلة الكبرى" التي كنت أخطب في أحد مساجدها، وقد دعاه إليها الدكتور محمد سعيد رحمه الله رئيس الجمعية الشرعية بمدينة المحلة، وهو طبيب أسنان معروف، نذر حياته لإحياء السنة والدعوة إلى الله على طريقة "إخواننا في الجمعية الشرعية"، وقد عرف الشيخ أن بينه وبين الإخوان شيئًا؛ فهو يأخذ عليهم أنهم لا يلتزمون بالآداب التي يلتزمونها هم من إعفاء اللحية وإحفاء الشارب وإرخاء العذبة (إطالة طرف العمامة) وإطالة الصلاة.

وقال الشيخ للدكتور: "إن دعوة الإخوان دعوة عامة، مهمتها أن تجمع الجماهير على الأصول الكلية للإسلام، ثم تربيهم بالتدريج على الآداب الخاصة، ولا بد أن يكون في الأمة المنهجان: النهج العام للإخوان، والنهج الخاص للجمعية"، واستراح الدكتور سعيد رحمه الله لكلام الشيخ، ودعاني معه على الغداء عنده.

ولكن سرعان ما كاد هذا يذهب هباءً، عندما ذهبنا مع الشيخ إلى بلدة "نبروه" وتكلمت كلمة أغضبت الدكتور سعيد -غفر الله لنا وله- ولا أدري لماذا؟ ولكن الشيخ تدارك الموقف بهدوئه وحكمته، وبات الناس تلك الليلة في المسجد سجدًا وقيامًا؛ بدعوة من الشيخ واستجابة كثيرين من الحضور.

كانت زيارة الشيخ لمصر هي بداية لقائي به ومعرفتي به، ثم زادتها الأيام قوة على قوة (انظر كتابنا: الشيخ أبي الحسن الندوي كما عرفته، ص 16-21 دار القلم).