بعد حصولي على الشهادة الثانوية وتفوقي فيها، اقترح بعض الأصدقاء عليَّ أن أقدم إلى كلية "دار العلوم"، وقد أصبحت إحدى كليات جامعة فؤاد الأول، وهي تأخذ عادة المتفوقين من أبناء الأزهر، وقالوا لي: ستبرز فيها في مجالي تخصصها: مجال الدراسات اللغوية والأدبية، ومجال الدراسات الشرعية، ثم إنها تعين المتفوقين معيدين فيها، والأزهر حتى الآن ليس فيه نظام المعيدين، إلى آخر هذه الإغراءات التي ظل بعض الزملاء يزوقوها في عيني.

ولكني في قرارة نفسي كنت مصممًا على ألا أتخلى عن الأزهر، وأن من حقه علينا أن نبقى فيه وأن نعمل على إصلاحه وتجديده؛ ولهذا لم أقبل التوجه إلى "دار العلوم"، واقترح أصدقاء آخرون أن أقدم إلى "كلية اللغة العربية" بالأزهر، فأنا معروف بتفوقي في علوم العربية نحوها وصرفها وبلاغتها، كما عُرفت بأني أديب وشاعر، وهذا كله يتلاءم مع كلية اللغة العربية، ويتيح لي فرصة للإبداع والبروز فيها..

ولكني كنت أحس من نفسي أني نهلت من علوم العربية وآدابها، ما يروي ظمئي، وعندي منها ما يمنحني الأهلية للتوسع والمزيد إن أردت، وقد سمّى سلفنا العلوم العربية "العلوم الآلية" يعنون أنها آلة ووسيلة لفهم مصادر الإسلام من القرآن والسنة، وليست مقصودة لذاتها، فكيف أقف عند الوسيلة وأدع المقصود؟! لهذا كانت نيتي متجهة إلى التقديم لكلية أصول الدين، وهو اتجاه قديم عندي، حتى إني كتبت على أحد كتبي وأنا في السنة الثانية الابتدائية -وهو كتاب القدوري في الفقه الحنفي- يوسف القرضاوي الطالب بالسنة النهائية بكلية أصول الدين؛ تفاؤلًا بالمستقبل.

لقد كان يعجبني في كلية أصول الدين أنها كلية الثقافة الإسلامية الواسعة والمتنوعة، تُدرِّس العلوم العقلية والنقلية، تُدرِّس التفسير والحديث في كل سنواتها، وتُدرس العقائد والتوحيد في كل سنواتها، وتُدرس الفلسفة في كل سنواتها، وتُدرس التاريخ الإسلامي في كل سنواتها، وتُدرس المنطق وأصول الفقه وعلم النفس، ونظريات الأخلاق وغيره، فأنا لا أعدل بها بديلًا.

وكان الأزهر في هذه السنة قد أنشأ ما يشبه مكتب التنسيق لتوجيه الطلبة إلى كليتي أصول الدين والشريعة خاصة، فمن كانت درجاته في الفقه أعلى أُلحق بكلية الشريعة، ومن كانت درجاته في التوحيد والمنطق والتفسير والحديث أعلى ألحق بكلية أصول الدين.

وكان المعتاد أن تكون درجاتي في الفقه أعلى، ولكن الظروف التي حدثت في امتحان الفقه، نقصت درجاتي في الفقه كثيرًا، وجعلت درجاتي في العلوم الأخرى أعلى كثيرًا جدًا، فحُوِّل اسمي إلى "كلية أصول الدين" بغير معاناة ولا طلب ولا وساطة، على حين التحق أخي أحمد العسَّال بكلية الشريعة.

البحث عن سكن

كانت هذه أول مرة آتي فيها إلى القاهرة مقيمًا، وكان أول ما يشغلني هو البحث عن سكن، وكنا نسكن عادة مجموعة من الزملاء، وكانت كلية أصول الدين بجوار جامع الخازندار بشبرا، فلا بد أن يكون سكننا بشبرا، قريبًا من الكلية، حتى نصل إليها بسهولة وعلى أقدامنا، بدون أن نتعنى ركوب المواصلات، بما فيها من تكاليف وضياع وقت.

وكان التطور الجديد في قضية السكن: أنه يكون في "شقة" لا في حجرة، كما كنا في طنطا، وكل حجرة يكون فيها عادة اثنان، والشقة عادة من ثلاث حجرات، فلا بد من ستة يسكنون، ووجود ستة متفاهمين متجانسين قد لا يتيسر دائمًا.

كما أن من التطور أن يكون لكل طالب سريره الخاص، فلم تَعُد تكفي "الفرشة أو المرتبة" على الأرض، ولا الكنبة التي كانت في طنطا، فلا بد إذن من شراء "سرير" لكنه سرير متواضع جدًا، مصنوع من الحديد يسمونه "سرير سفري" أي يصلح للسفر؛ لأنه يُطوى ويُطبق، فيصبح قطعة واحدة يمكن نقلها من مكان إلى آخر بسهولة. 

وكانت المساكن في ذلك الوقت موفورة ميسورة، ولافتة "شقة للإيجار" تجدها في كل مكان، ولكن المهم أن نجد الأنسب والأرخص؛ نظرًا لقلة دخلنا نحن الطلاب، وقد وجدنا شقة معقولة بشارع الترعة البولاقية، وسكنت فيها مع عدد من الزملاء، ولكن كان عيبها أنها تطل على موقف للأوتوبيس، فهي كثيرة الإزعاج؛ ولذا بقينا فيها سنة دراسية واحدة.

وفي السنة التالية غيرت السكن، وغيرت الرفقاء، ما عدا الأخ الدمرداش رفيقي الدائم، فسكنت مع الأخ الشيخ منَّاع القطان، وهو يسبقني بسنتين في كلية أصول الدين، ومع عدد من القريبين منه، وكان سكننا في شارع راتب باشا، في شقة استمرت سكنانا بها لعدة سنوات، حتى اعتقلنا فيها سنة 1954م.

وقد تغيَّر رفقاء السكن بها، ولا سيما بعد تخرج الشيخ مناع، فكان يسكنها معي: الحسيني أبو فرحة، وفهمي شاهين، ومحمد بسيوني قنديل، وكلهم من الغربية، وإبراهيم إبراهيم بهنساوي سعيد من البحيرة، وزميلنا في معهد طنطا، ومحمود نعمان الأنصاري من أسيوط، وكانت أجرة السكن توزع علينا بالتساوي.

وكان كل واحد يدبِّر طعامه لنفسه، وأحيانًا نشترك في أكلات جماعية، وخصوصًا في الغداء، وكثيرًا ما كنا نأكل في مطعم الكلية وجبة الغداء، نظير اشتراك زهيد يدفعه الطلاب، وكنا نقتّر على أنفسنا ولا نتوسع في النفقات ما استطعنا؛ لضيق ذات يدنا، وقلة مواردنا، لولا أن الله وسَّع عليَّ بعد عدة أشهر من السنة الدراسية، وذلك حين صرفوا لي مكافأة الأولية في الشهادة الثانوية، وكانت فيما أذكر 16.5 ستة عشر جنيهًا ونصف الجنيه.

وفي سائر السنوات لم يكن يصرف للمتفوقين شيء، كما يحدث الآن لطلبة الجامعات، وكما كان يصرف لنا مكافأة مقطوعة ونحن طلاب في المرحلتين الابتدائية والثانوية.

بداية الدراسة بالكلية

كانت كلية أصول الدين كما ذكرت في شبرا في مبان ملحقة بجامع الخازندارة الكبير والشهير، فكنا نصلي الفرائض بالمسجد، ولا سيما في صلاة الظهر، ونتلقى الدروس في مبنى الكلية المجاور. كما كنا نحرص على صلاة الجمعة في الجامع لنستمتع بتلاوة القارئ المجيد المتفرد بطريقته المؤثرة، الذي إذا تلا أنصتت الآذان وخشعت القلوب وبكت الأعين وحلقت الأرواح، إنه الشيخ سعيد محمد نور الذي لم يعرف الكثيرون قيمته إلا بعد وفاته، وباتوا يبحثون عن تسجيلات له هنا وهناك، فلم يظفروا إلا ببضعة أشرطة سُجَّلت له قليلًا من السور وبعض أرباع القرآن الكريم.

كانت الخازندارة هذه امرأة ثرية صالحة جعلت همها في إسداء الخير للناس فأنفقت من مال الله على عباد الله فأنشأت المسجد الجامع للعبادة والمباني الدراسية من حوله لنشر العلم، كما أسست مستشفى خيريًا بجوار المسجد لعلاج الفقراء، وعلمتُ أيضا أنها بنت ملجأ لإيواء اليتامى.

وتلك كانت عادة كثير من أهل الخير من الرجال والنساء في المجتمعات الإسلامية يتقربون إلى الله تعالى بهذه الصدقات الجارية التى تضيف إليهم أعمارًا بعد أعمارهم، فهم أموات في قبورهم وآثارهم حية تنطق بفضلهم وتنطق ألسنة الناس بالثناء عليهم والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والرضوان من الله. وفي صحيح مسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد: 18).

بدأت الدراسة بالكلية مع بداية العام الدراسي، وانتظمت صفوف الدراسة من أول يوم، وأقبلت على الدراسة بشغف وحرص وعزم، بعد أن سلمونا عددًا من الكتب، واشترينا عددًا منها، وكانت سُنَّة حميدة من الكلية أن تسلم الطلاب معظم الكتب المقررة، وكتبًا أخرى للمطالعة والاستزادة.

وكان من هذه الكتب الإضافية كتاب "زاد المعاد" للإمام ابن القيم (طبعة صبيح) وهي طبعة غير محققة، ولكنها أفادتني كثيرًا، وكان هذا من التطور الذي حدث في عهد الإمام المراغي: أن تُقبل كتب ابن تيمية وابن القيم وتوزع على طلاب الأزهر، فقد كان الأزهر قبل ذلك يقاوم فكر هؤلاء، ويحشرهم في زمرة "المجسِّمين"، وكان يدرسنا عدد من الأساتذة بعضهم من خريجي "تخصص المادة" أو حملة "العالِمية من درجة أستاذ" وأكثرهم مشايخ الأزهر القدماء.

وكان من الأولين الأستاذ الشيخ محمد بيصار، (الذي عُيِّن شيخًا للأزهر فيما بعد) الذي كان يدرسنا علم التوحيد في كتاب "العقائد النسفية"، وهو كتاب قديم مصوغ صياغة مركَّزة على مذهب الأشاعرة، وقد شرحه علامة عصره سعد الدين التفتازاني، ثم وضعت عليه حاشيتان: حاشية للخيالي، وحاشية أخرى للعصام الإسفراييني، ووضعت على حاشية الخيالي حاشية أيضًا لعبد الحكيم السيالكوتي، فكانت هذه الكتب الخمسة: المتن، والشرح، والحواشي الثلاثة كلها في صفحة واحدة، بعضها في الصلب، وبعضها في الحاشية، وبعضها في الهامش، ويفصل بينها بخطوط حاجزة.

ظل الشيخ بيصار عدة أسابيع يشرح لنا الجملة الأولى من العقائد النسفية، وهي: قال أهل الحق: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق، خلافًا للسوفسطائية، ثم سافر الشيخ بيصار -قبل أن نكمل شرح الجملة!- في بعثته إلى إنجلترا؛ ليلحق بزميله العلامة الدكتور حمودة غرابة، الذي بعث من قبل.

صِدَام مع أستاذ التفسير

ومما وقع لي في السنة الأولى: أني اصطدمت بأستاذي في التفسير، وهو الشيخ محمد مختار بدير، وكان الشيخ بدير رجلًا قارئًا مطلعًا أديبًا شاعرًا، ولكنه ضاق صدره بنقاشي في قضية علمية عرض لها، خالفته فيها وهي: هل كانت دعوة نوح عليه السلام عالمية أم لا؟ وقد رجَّح الشيخ أنها عالمية، بدليل أن الطوفان عم العالم؛ فلو لم تكن عالمية ما عوقب العالم كله بالطوفان.. وكنت في مناقشتي معتمدًا على النصوص المسلَّمة، فالقرآن يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه} (نوح:1) والحديث المتفق عليه عن جابر في الخصائص المحمدية: "وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس كافة".

ولكن في اليوم التالي لقيني الشيخ بدير هاشًّا باشًّا، وقال: لقد ظلمتك يا قرضاوي، وراجعت المسألة، فوجدت الحق معك، وقد سألت عنك، فعرفت أنك من أهل العلم، كما علمت أنك شاعر مثلي. وانعقدت بيني وبين الشيخ بدير مودة عميقة، استمرت حتى تخرجت، وكان كثيرًا ما يشيد بي ويثني عليّ عند زملائه من علماء الكلية.