وكان مما كتبته في هذه الفترة في هايكستب مشروع مسرحية عن الإمام سعيد بن جبير ومواجهته للحجاج؛ وكان هذا من ثمرة قراءتي للعقد الفريد، وقد كتبتها في مسودة في كراسة، وقد صحبتها معي إلى الطور بعد عودتنا إليه مرة أخرى، وحين أُفرج عني تركتها مع بعض الإخوة.

وقد علمت أنهم مثلوها في المعتقل عقب الإفراج عني وتحسن الأحوال كثيرا، وذلك بعد أن أضافوا إليها بعض اللمسات؛ وهو ما دفعني أن أعود إلى الفكرة بعد ذلك، وأعيد كتابة الموضوع تحت عنوان "عالم وطاغية"، وهي مسرحية مثلت في أكثر من بلد ولقيت قبولا عاما.

العودة إلى الطور

وكما فوجئنا بالنداء علينا لنرحَّل من الطور إلى هايكستب، فوجئنا في أحد الأيام بالنداء علينا لنرحّل من هايكستب إلى الطور ونعود إلى قواعدنا سالمين، وكنا فرحين بهذه العودة، لنأخذ مكاننا في القافلة الإخوانية الكبرى، ونستقبل رمضان فيها في رحاب الطور، ونسعد بالحياة الإسلامية التي عشناها من قبل.

نقلتنا السيارات إلى الطور، ومما أذكره في هذه الرحلة: أننا مررنا بمنطقة تسمى "أبو زنيمة" بها مصانع للمنجنير، وبها عدد من العمال يشتغلون بها، وقد توقفنا عندها قليلا للاستراحة، ولنشم نفسنا..

وكان مما لفت نظري: أن وجدت قسيسًا قبطيا بعثت به الكنيسة إلى عمالها هناك، فقلت في نفسي: تذكرت الكنيسة القبطية أن لها أبناء في هذه المنطقة البعيدة، فأرسلت إليهم قسيسا يعظهم، ويصلهم بكنيستهم ورجالها؛ فهل تذكر الأزهر أو تذكرت وزارة الأوقاف أن هنا عمالا مسلمين يحتاجون إلى من يرشدهم ويعلمهم ويفقههم في دينهم؟

هل تذكرهم الأزهر وأرسل إليهم واعظا؟ وهل تذكرتهم وزارة الأوقاف لترسل إليهم إماما وخطيبا؟ هل فكرت أصلا في بناء مسجد لهم من أوقاف المسلمين وهي كثيرة بحمد لله؟

كلا، لم نجد أثرا لا للأزهر ولا للأوقاف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته" (متفق عليه عن ابن عمر).

وعدنا إلى الطور لنستقبل فيه شهر رمضان المبارك، ومن حسن حظنا أن وضعنا في حذاء رقم (2) الذي يؤمه الشيخ الغزالي، واستمتعت بصلاة التراويح خلفه، ثماني ركعات يتلو فيها جزءا من القرآن؛ بحيث يختم القرآن في آخر ليلة، كما استمتعنا بخطبه للجمعة، ومواعظه القصيرة في الترويحة كل ليلة.

وكان إمام حذاء رقم (1) هو الشيخ عبد المعز عبد الستار، وإمام حذاء رقم (3) هو الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي الداعية الكفيف، وكان من أحلى الشهور الرمضانية التي قضيناها في حياتنا صياما وقياما وتلاوة وذكرا ونشاطا.

درس لي في معتقل الطور

وفي بعض الأيام طلب مني الشيخ الغزالي أن ألقي درسا بالنيابة عنه، فألقيت درسا ما أزال أذكر عنوانه "لا ندم على الماضي، ولا جزع من الحاضر، ولا يأس من المستقبل".

واستدللت بالقرآن والحديث والحكم والشعر على ما أوردت من مفاهيم، ومما أذكره ما قلته في الندم على الماضي: التذكير بالحديث الصحيح "استعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان". (رواه مسلم)

وقد نهانا القرآن أن نتشبه بالكفار في استعمالهم "لو" المتحسرة، التي لا ترد ما فات، ولا تحيي ما مات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 156).

وقال الشاعر:

سبقت مقادير الإله وحكمه  **  فأرح فؤادك من "لعل" ومن "لو"

ويقول الآخر:

وليس براجع ما فات مني  **  بـ "لهف" ولا بـ"ليت" ولا "لو" اني

ويقول الآخر:

"ليت" شعري وأين منّيَ "ليتٌ"  **  إن "ليتًا" وإن "لوًا" عناء

وقد استقبل الإخوان هذا الدرس بقبول حسن، وأكثروا من الثناء عليه، وكان هو أول درس عام ألقيه في الطور.

الاحتفال بليلة القدر

دخلنا في العشر الأواخر من رمضان، وهي أفضل لياليه، وهي ختام الشهر، والأعمال بالخواتيم، وفيها تُلتمس ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، وهي أفضل ليالي العام بإطلاق، وفيها أُنزل القرآن.

وكان الرسول الكريم إذا دخل العشر، شد المئزر، وأحيا ليله (أي كله)، وأيقظ أهله.

لهذا توفّرت الهمم للتفرغ للعبادة والطاعة وذكر الله في هذه الليالي المباركة، وكثر فيها دعاؤنا وتضرعنا إلى الله تعالى، ولا سيما في ساعات الأسحار والثلث الأخير من الليل، إلى جانب الدعاء عند الإفطار، وللصائم عند فطره دعوة لا تُرد..

وقد روى الترمذي حديثا وحسنه: "ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حين يفطر (أو حتى يفطر)، والإمام العادل، ودعوة المظلوم؛ يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: لأنصرنك ولو بعد حين".

ونحن صائمون ومظلومون، فأخلِقْ أن يُستجاب لنا، وفينا رجال صالحون -إن شاء الله- يُستنزل بهم الغيث!. ولقد اتجه تفكير الإخوان ونيتهم إلى أن يحتفلوا بـ "ليلة القدر" على عادة أكثر المسلمين في ليلة السابع والعشرين من رمضان، وأبلغوني قبلها بيومين أن أُعدَّ قصيدة لهذه المناسبة، وقد كان.

قصيدة ليلة القدر

وفي ليلة 27 تحدث الشيخ الغزالي، وتحدث بعض الإخوة، ثم قدمت لألقي قصيدتي، وكانت قصيدة نونية من بحر "البسيط"، الذي يحلو لي كثيرا هو وبحر "الكامل"، مطلعها:

عشقتُها فاسترَقَتْ قلبي العاني  **  فقمت أعزف فيها عذب ألحاني

سموه شعرا، وإني لا أراه سوى  **  آهات قلبي وإحساسات وجداني

ومنها:

تنزيله في دجاها نور قرآن  **   يبقى وإن زال هذا العالم الفاني

إن الرجولة من نور ونيران  **   وصار سلمان شيئا غير سلمان

منهم ترى مَلكا في زي إنسان  **   ومن يداني عليا وابن عفان؟

يا ليــلة زانها ربي وشرّفهـا  **  تنـزيله في دجــاهـــا نـور قـرآن

دسـتـور حق وتشريـع وتـربيـة  **  يبقـى وإن زال هذا الـعالم الفـاني

ربي رجـالا مغـاوير اهتدوا وغـزوا  **  إن الرجـولـة من نـور ونيـران

أمـسى بـلال به من ذلـة ملكـا  **  وصـار سلمـان شيئاً غير سلمـان

لله فتيـان حق لو رأيـت فتــى  **  منهـم ترى ملكـا في زي إنسـان

فمن يداني أبـا حفص وصاحـبـه  **  ومن يداني عليـا وابـن عفــان

هذا الكتاب غدا في الشرق واأسفـا  **  شمسـاً تضـيء ولكن بين عميـان

يحاط بالطفـل حـرزاً من أذىً وردًى  **  وفيـه حرز الورى من كل خسران

يتـلى على ميت في جوف مقـبرة  **  وليـس يحكـم في حـي بديـوان

فكيف نرقى ومعـراج الرقي لنـا  **  أمسى يجـر عليـه ذيـل نسيـان

ومنها:

قالوا اسجنوا واغمروا الأقسام واعتقلوا  **  فجمـعـونـا علـى حـب وإيـمان

وصادروا مالـنـا من جهلهم ونسـوا  **  أن يحجـروا رزق رزاق ورحمــان

وأسرفوا وعلوا في الأرض واضطهدوا  **  وعكـر النيـل من هامـانـه الثـاني

وعذبـوا كي يذلوا أنفسـاً طمحـت  **  وعزت الـنفس أن تعنـو لسـلطـان

والليث لن تحني الأقفـاص هامتــه  **  وإن تحكـم فيـه ألـف سـجــان

قالوا اقتلوا المرشد البناء وانتظروا  **  فبعده يتهاوى كل بنيان

كذبتموا سيظل الصرح مرتفعا  **  فكلنا حسن من بعده بان

وفي ختام القصيدة كانت مناجاة وتضرع إلى الله:

يا رب إن الـطغـاة استكـبروا وبغـوا  **  بغـي الـذئـاب على قطعـان حملان

يا رب كـم يوسـف فيـنـا نقـي يـد  **  دانـوه بالسجن والقـاضي هو الجانـي

يا رب كم من صبي صفـدوا فمـضى  **  يبكـي كضفـدعة فـي نـاب ثعبـان

يا رب كـم أسـرة باتـت مشــردة  **  تشـكـو تجبـر فرعـون وهـامـان

يا رب كم يوسف فينا نقي يد  **  دانوه بالسجن والقاضي هو الجاني

يا رب رحماك أنجز ما وعدت به  **  وانصر فنصرك من أهل الهدى دان

وكان للقصيدة قبول حسن من الإخوة الذين سمعوها في حذاء (2)، وطلبها الإخوة في الحذاءات الأخرى، وظل عدد من الإخوان يحيون تلك الليلة بالذكر والدعاء، والاستغفار والتلاوة حتى مطلع الفجر.

سقوط وزارة عبد الهادي

وقبل ليلة العيد، أذيع النبأ السعيد: "سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي، هدية من الملك إلى الشعب بمناسبة عيد الفطر"، وذهبت الوزارة التي اقترفت ما اقترفت من المظالم، مشيعة بلعنات الناس من كل الفئات والطبقات، وقال القائل:

تولت دولة الزرقا * ألا سحقا لها سحقا

تفتت أثر فرعون * فبات رجالها غرقى

وحين سمع الإخوة الخبر خروا لله ساجدين سجدة الشكر، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (أنعام: 45)

وجاءني الإخوة، يقولون لي: مناجاتك في ليلة القدر لم تذهب هباء، وإن الله يمهل ولا يهمل، وفي الحديث الصحيح: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم تلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102).

ومن اللطيف أن أحد إخوان زفتى -اسمه حسين بطة- كان دائم الدعاء طوال الشهر قائلا: "اللهم اجعل لنا نصيبا من رمضان بين أهلينا وأولادنا"، إلى أواخر أيام رمضان وهو لا ييئس من ترداد هذا الدعاء، والإخوة يقولون له: "يا شيخ حسين، هل يُعقل أن تقضي شيئا من رمضان مع أهلك، ولم يبق منه إلا أيام؟!" فيقول: "أنا لا أسألكم، ولا أسأل الحكومة، ولكني أسأل ربا كريما قادرا يقول للشيء: كن فيكون"! فيبتسم الإخوان، ويسلمون له.

فلما سقطت حكومة عبد الهادي انتعش الأخ حسين بطة، وقال: "كنتم تسخرون مني، وأنا أقول: اللهم اجعل لنا نصيبا من رمضان بين أهلنا وأولادنا، فانظروا ماذا صنع الله؟ لكأني الآن بين أهلي وأولادي".

كان سقوط وزارة عبد الهادي التي قتلت حسن البنا، ومنعت تشييع جنازته، وشردت الإخوان كل مشرد، وزارة "العسكري الأسود" والتعذيب داخل السجون، كان سقوطها نعمة من الله على الإخوان، جزاء صبرهم ومصابرتهم وثباتهم على حقهم {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 146-148).

فكان سقوط وزارة الطغيان من ثواب الدنيا، الذي أثاب الله به الإخوان، وهم يرجون حسن ثواب الآخرة، وأصبح باب الأمل مفتوحا للإفراج عن المعتقلين، بعد سقوط وزارة السعديين من يوم إلى آخر.

وقد قامت ثورة يوليو 1952م بعد ذلك، وحاكمت عبد الهادي، وحُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف إلى المؤبد، وفضح الدفاع والشهود حكمه الأسود، وبينوا أنه تضاعفت ثروته عشر مرات منذ تولى المناصب الكبرى في مصر، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

الإفراج عني في الفوج الأول

ولم تمضِ أيام حتى جاء أول كشف يتضمن أسماء المفرج عنهم، الذين يمثلون الفوج الأول، وكان اسمي ضمن هؤلاء، ومعي عدد من الزملاء: محمد الدمرداش، مصباح عبده، السيد النفاض، وعدد من الإخوان من مختلف المديريات.

وكان من الذين أُفرج عنهم معنا الأستاذ حسني الزمزمي، ولم تفارقنا طرائفه، طوال رحلتنا من الطور إلى القاهرة ثم إلى طنطا. إنه أبدا ساخط ثائر، إنه يعترض على ترحيلنا في وسائل نقل غير مريحة وغير مناسبة، ثم عندما وصلنا إلى القاهرة، بيتونا في أحد أقسام الشرطة (هو قسم الخليفة).

وقد وضعنا في حجز القسم، وكان رديئًا جدا، فلم يحتمل الأستاذ الزمزمي هذا الجو الخانق، وهذا المكان غير النظيف، فكان يقول عن قسم الخليفة هذا: لعن الله خليفة هذا قسمه، هذه صدقة ملوثة بالدم، هذا بمثابة من يتصدق عليك ثم يصفعك على قفاك، وهكذا هؤلاء أفرجوا عنا ثم وضعونا هذا الموضع المزري!!.

ويبدو أن الوزارة تغيرت، ولكن رجال القسم المخصوص (أمن الدولة) لم يتغيروا، فما زالوا هم المتحكمين. وبعد هذه الليلة المتعبة في قسم الخليفة، نُقلنا إلى طنطا، وأُخذ علينا تعهد ألا نمارس أي نشاط سياسي، ثم فُكَّ أسرنا، وذهب كل منا إلى موطنه أو منزله.

لقد خرجنا من المعتقل أصلب عودا وأشد قوة مما كنا من قبل، وكنا نتمثل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمَاً} (الأحزاب: 22)

ونردد قول الشاعر اليمني محمد محمود الزبيدي:

خرجنا من السجن شم الأنوف **  كما تخرج الأسد من غابها

نمر على شفرات السيوف  **  ونأتي المنية من بابها

إلى قريتنا

وعدت إلى قريتي (صفط تراب) بعد غياب هذه الأشهر، وجاء الناس إلى دارنا ليسلموا علي ويهنئوني بالعودة، وحسب بعض الناس أنهم سيجدون إنسانا قد قهره الاعتقال، وأخرس لسانه، وهدّ كيانه، ولكنهم فوجئوا بأني أحدثهم عما صنع الإخوان في المعتقل، وكيف حولوه إلى جامع وجامعة وجمعية ومنتدى، حتى أسرَّ بعضهم إلى بعض قائلا: "إن الاعتقال لم يغيره"، وبعضهم خشي على نفسه أن يسمع مثل هذا الكلام، ويسكت عليه فأسرع بالقيام، حتى لا يتهم بأنه سمع هذا.

ولم أبقَ في القرية غير يومين فحسب، فقد كان ورائي أمر مهم جدا، وضروري جدا، وهو الاستعداد لدخول امتحان الدور الثاني للشهادة الثانوية، فلم يبقَ على موعد الامتحان سوى خمسة عشر يوما، لا بد أن أتفرغ فيها لمراجعة المقررات الدراسية، متوكلا على الله تعالى، مستمدا منه التوفيق، وما توفيقي إلا بالله.

إلى طنطا استعدادا لامتحان الثانوية

وهنا سافرت إلى طنطا، لأتفرغ تفرغا تاما لمراجعة الكتب المقررة في هذه المدة القليلة، وبخاصة أني كنت قد ألقيت هذه الكتب جانبا، بعد أن حُرمنا من دخول امتحان الدور الأول، وبارك الله في هذه الأيام القليلة، وواصلت الليل بالنهار، لا أكاد أنام إلا القليل.

وقد بدأ الامتحان بمادة "الفقه" (كما كان هو المعتاد في معاهد الأزهر)، ومن قدر الله أن الأستاذ الذي كان يراقب فصْلَنا لاحظ أن استمارتي ليس فيها صورة شمسية، فسألني عن سبب ذلك، فقلت له: "ظرف خارج عن إرادتي" فقال: "أي ظرف يمنع من إلصاق صورة بالاستمارة؟" قلت: "بصراحة كنت معتقلا".

وهنا قال الشيخ، واسمه أحمد ربيع: "كنتَ في جبل الطور؟" قلت: "نعم". قال: "حدثني حديثا حزينا أو جميلا عن الطور وبعض ما وقع فيه"، والرجل يصغي إلي بتأثر وإعجاب، ونسيت ونسي الشيخ ربيع أني في امتحان، وأني في حاجة إلى الوقت، وهنا أدرك الشيخ أن الوقت قد ضاع منه الكثير، فقال: "أنا آسف يا بني، توكل على الله واكتب".

وأنا عادة أطيل الكتابة في إجابة الأسئلة الأولى، وكانت الأسئلة أربعة، ولما كنت في نهاية إجابة السؤال الثالث، دق الجرس، ولم أجب عن السؤال الرابع، وكان في الميراث، وأنا أعرف الإجابة تماما. لقد خرجت من الحصة الأولى في غاية الهم والحزن على ما ضاع مني من أسئلة الفقه، الذي كنت كثيرا ما أحصل فيه 40 من 40.

وقد بدا ذلك على وجهي حينما خرجت من الحصة الأولى، وقد ركبني من الغم ما ركبني، وحاول إخواني أن يهونوا عليّ الأمر، وظنوا أني حزين على عدم النجاح، وقالوا: "إن الكل يعرف ظروفك، وإنك أول الفصل، فإذا لم توفق في سنة ما، لظروف خارجة عن إرادتك، فلا جناح عليك، ثم ألا تحصل على عشرين درجة (النهاية الصغرى)؟"، قلت لهم: "أنا ضامن نحو ثلاثين درجة، أو تسعا وعشرين".

قالوا: "وتضمن هذا ثم تكفهر وتتكدر هذا التكدر؟!" قلت: "إني حريص على التفوق حرصي على النجاح". وهذا جعلني أهتم برعاية الوقت في جميع حصص الامتحان القادمة، ووفقني الله تعالى غاية التوفيق.

الثاني على الثانوية

وحينما ظهرت النتيجة كانت المفاجأة السارة، وهو أني حصلت على الترتيب الثاني في الشهادة الثانوية على طلاب المعاهد الدينية في المملكة المصرية في الدورين الأول والثاني، ولم يكن بيني وبين الطالب الأول إلا نصف درجة، وكان الأول من المحلة أيضا هو صديقنا "حامد محمود إسماعيل". (الدكتور حامد الآن).

وكان هناك مكافأة للأول والثاني اقتسمناها معا بالتساوي، وكانت حوالي ثلاثة وثلاثين جنيها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!