كانت هذه حياة الإخوان في معتقلهم: علم وعمل، وإيمان وأمل، وحب وإخاء، وتلاوة ودعاء، ولا يعرف قيمة هذه الحياة إلا من رأي حياة الشيوعيين بجوارنا في حذاء رقم (4)، وقد ابتلي بعض إخواننا بالعيش معهم عدة أيام، مرت عليه كأنها أعوام.. إنها حياة جافة ليس فيها روح، يائسة ليس فيها أمل، أنانية ليس فيها إخاء، ولا يعرف إليها الإيثار سبيلا، كل يقول: "نفسي نفسي"، يتقاتلون على أدنى شيء، وكيف لا وقد فقدوا النور الذي يهدي، والروح التي تحيي: نور الإيمان، وروح اليقين بالله والدار الآخرة.
إن المؤمن إذا ضاقت به الدنيا، اتجه إلى ربه الذي خلقه وسواه، يدعوه ويتضرع إليه، ويقول: "يا رب، يا رب، يا رحمن يا رحيم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام".
يا مَن أَلوذُ بِهِ فيما أُؤَمِّلُهُ ** وَمَن أَعوذُ بِهِ مِمّا أُحاذِرُهُ
لا يَجبُرُ الناسُ عَظماً أَنتَ كاسِرُهُ ** وَلا يَهيضونَ عَظماً أَنتَ جابِرُهُ
ولكن الشيوعي القُحّ، الذي يجحد كل ما وراء الحس، وما بعد الطبيعة، ويعيش سجين الفكرة المادية الجدلية أو المادية التاريخية، إلى من يلوذ؟ وبمن يعوذ؟ وبأي حبل يعتصم؟ وإلى أي ركن يرتكن؟ ومن أي كوة تنفذ إليه أشعة الرجاء، وقد سد كل الكوى، وأغلق كل المنافذ، وأطفأ كل المصابيح؛ فأمسى {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} (الأنعام: 71).
إن الإنسان بلا إيمان يهديه، أشبه بغريق نجا من سفينة تحطمت؛ فهو وإن أحسن السباحة، كيف يغالب البحر، والبحر يغلبه؟ وكيف يصارع الموج، والموج يصرعة؟ إنه سيظل يهبط ويطفو دون أمل في أن يجد شاطئا يرسو عليه، أو قاربا ينجو به، حتى تخور قواه، ويبتلعه اليم.
إن صبر الإخوان على محنتهم، وثباتهم على دعوتهم، وتماسكهم فيما بينهم، واستفادتهم من هذه المحنة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، كل ذلك لم يأت اعتباطا، بل كان نتيجة تربية إيمانية طويلة المدى، راسخة الدعائم، عميقة الجذور، وصلتهم بكتاب الله تعالى، وسيرة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصُقلت معادنهم في حلقات (الأسر الإخوانية) وتضامنها وتدارسها وتعاونها..
وفي سهرات "الكتائب" التي يقضون فيها الليل معا يصلون العشاء جماعة، ويتعشون عشاء خفيفا، ويتلقون بعض الدروس من بعض الدعاة، ثم يخلدون إلى النوم، مع حراسة دورية، وفي السحر ينهضون لقيام الليل، يبيتون لربهم سجدا وقياما، {يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (الفرقان: 65) ، ثم يصلون الفجر في جماعة، ويقرؤون المأثورات، ويستمعون إلى كلمة توجيهية ربانية، ثم يقومون إلى التمرينات الرياضية، ثم يتناولون الفطور وينصرفون.
وفي المخيمات التي تضم أعدادا أكبر وتستمر أياما أطول، ما بين عبادة وثقافة ورياضة، وتعود على حياة الخشونة والقناعة في المأكل والمشرب والمسكن والمنام، متمرنين على حياة الجندية والطاعة والنظام، والتضامن والإيثار.
لجنة العكننة
ومع هذه الحياة العامرة بالرضا والتفاؤل والأمل، حياة المنفى أو المعتقل الذي حوله الإخوان -بنعمة الحب والإيمان- بستانا كما ذكرت.. كان هناك أفراد قليلون لم يصبروا على المعتقل، ولم يرضوا به، ولم يكيفوا أنفسهم وفقا للحياة الجديدة، والناس تتفاوت طاقاتهم في الاحتمال؛ فمنهم من يقارع الأهوال ولا يبالي، ويواجه الأحداث كالطود الأشم، ومنهم المتوسط الاحتمال، ومنهم من لا يحتمل أي مكروه يصيبه.
وكان من هؤلاء الذين قلّ احتمالهم، وعز عليه فراق أهليهم أخونا وصديقنا الداعية الطنطاوي الأستاذ "حسني الزمزمي"، الذي تحدثت عن موقفه ونحن في سجن طنطا، وقد وصل معنا إلى الطور، ولكنه لم يُخف تبرمه بالمعتقل، وضجره منه، وانضم إليه نفر قليل على شاكلته، سماهم الإخوان "لجنة العكننة" ورئيسها الأستاذ الزمزمي.
والحق أن لجنة العكننة كانت مصدر ترويح وفرفشة للمعتقلين؛ فقد كان الأستاذ الزمزمي رجلا فَكهًا خفيف الروح بطبيعته وبطريقته، وكان إذا ناداه أحد: "يا أستاذ زمزمي"، يرد عليه بقوله: "إن شاء الله خرَّاب يتعمي" و"خراب" هذا لقب "عبد الرحمن عمار" وكيل وزارة الداخلية، الذي كتب المذكرة المسمومة لحل الإخوان، فسماه الزمزمي "خرابا".
وكان له أرجوزة نظمها في "سعد الدين السنباطي" الذي اعتقله في طنطا، ومطلعها:
يا رب أخزِ الظالم السنباطي ** واجعله في كل الأمور واطي
يا رب واجعل كيده في نحره ** ورد سـم سـهمه لـصدره
وكان الإخوة -ولا سيما أهل العلم والأدب منهم- كلما سمعوا أرجوزته أضاف إليها كل منهم بيتا من عنده.
البسابس
إلا أن العكننة الحقيقية كانت تتمثل في وجود عدد من العملاء والجواسيس، زرعتهم الحكومة وجهات الأمن زرعا في أوساط الإخوان، سماهم الإخوان "البسابس" مهمتهم أن يتجسسوا على الإخوان، وينقلوا أخبارهم أولا بأول إلى الحكومة، وليس عند الإخوان ما يُتجسس عليه؛ فكل أمورهم وأنشطتهم في وضح النهار، ولم يطق هؤلاء البسابس الحياة الروحية للإخوان، واستيقاظهم لصلاة الفجر، وحرصهم على الصلوات..
ولهذا سرعان ما انكشف هؤلاء؛ فالإخوان ينهضون للصلاة وهم نائمون، وفي يوم كان الإخوان يصلون وهم يهتفون "عاش جلالة الملك"؛ وهو ما أثار حفيظة الأخ الشهم "إبراهيم كروم" فتوة القاهرة المعروف، الذي جمع عددا من الشباب الأقوياء، وانهالوا على هؤلاء "البسابس" ضربا حتى أصابوهم بجراح، وعملت قضية للحاج كروم، وعلمت أنه حُكم عليه فيها -بعد خروجه من المعتقل- بستة أشهر.
من الطور إلى هايكستب.. رحلة قاسية لا تُنسى
وبينما كنا نستمتع مع إخواننا بهذه الحياة الإسلامية الفريدة في الطور، مشاركين في النشاط الإسلامي المتعدد الألوان، إذا بنا نفاجأ بالنداء علينا - نحن طلاب الثانوي- لنقلنا إلى القاهرة، أو قريب منها، وقد قيل: "ربما ليفرجوا عنا؛ فالكبار يبدو أنه سيطول اعتقالهم"، ولم نفرح بهذا الخبر، بل كان وقْعُه علينا وقعَ الصاعقة؛ فما كنا نحب أن نفارق إخواننا وشيوخنا، بل كنا نحب أن نبقى إلى جوارهم، يجري علينا ما يجري عليهم.
وهكذا جمعونا -طلبة الثانوي-: أنا، وأحمد العسال، ومحمد الدمرداش ومصباح عبده، الذين كنا في سجن قسم طنطا، ومن انضم إلينا من زملائنا الطلاب: السيد النفاض من محلة أبو علي، وكمال السيد جروين من كفر طبلوها من معهد شبين الكوم بالمنوفية، ومحمد التاجي من معهد أسيوط الديني بالصعيد... وآخرون لا أذكرهم، وقد كان لمعهد طنطا نصيب الأسد في المعتقلين من الطلاب.
وكانت وسيلة نقلنا سيارة نقل للبضائع (لوري) أُلقينا فيها كأننا أبقار أو أغنام ننقل من بلد إلى بلد! والمسافة طويلة من الطور إلى القاهرة، والطريق غير مُعبَّد، وعلينا أن نجتاز بهذه الوسيلة صحراء سينا، وهي قاسية، شديدة شمسها نهارا، شديد بردها ليلا، ولم يكن معنا من الأغطية ما يكفي ويرد عنا عادية برد الصحراء، وأحسب أننا كنا في شهر أبريل، أو نحو ذلك.
وصبرنا على هذه الرحلة القاسية المضنية؛ فقد كنا شبابا، وكانت أجسامنا تحتمل هذا العناء، واستعنَّا بأدعية السفر التي كنا نحفظها: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد، اللهم هوِّن علينا سفرنا واطوِ عنا بُعْدَه، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى".
واختلفنا فيما بيننا: هل نختم الدعاء بما أُثر: "آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون"، التي كان يقولها رسول الله في عودته من السفر؛ لأننا لم ندر: هل نحن آيبون وراجعون من سفرنا، أو نحن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة؟ وترجح الرأي الأخير.
ومع احتمال مجموعنا لقسوة الرحلة، كان منا من لم يحتمل لأواءها وشدتها؛ مثل أخينا مصباح الذي أصيب بـ(الروماتيزم) وتعب تعبا شديدا، حتى اجتزنا الصحراء، ووصلنا إلى السويس، واقتربنا من القاهرة، وانفرجت أساريرنا عندما رأينا خضرة القمح والشعير والفول والبرسيم لأول مرة منذ أشهر، فلم نكن نرى غير اللون الأصفر؛ لون الصحراء.
الوصول إلى هايكستب
وأخيرا وصلنا إلى معتقل "هايكستب" بالقرب من القاهرة، و"هايكستب" كان معسكرا للجيش الإنكليزي (كامب) تخلى عنه، فاستخدمته الحكومة المصرية معتقلا لبعض المصريين. وكان فيه قبل الإخوان: جماعة من الشيوعيين، وبعض الوفديين اليساريين، وكان معظم الشيوعيين من جماعة "حدتّو" وهي اختصار لكلمات: "الحركة الديمقراطية التحررية الوطنية"، وكان زعيم هذه الجماعة ومؤسسها المليونير اليهودي الإيطالي "هنري كوريل" وهو الممول الأكبر لهذه الحركة.
ومن العجب أن يحمل هذا المليونير اليهودي الإيطالي قلبا يرفق ويحنو على العمال والفقراء والمستضعفين في مصر!، فمتى كان اليهود يحملون هذه القلوب الرحيمة على البشر؟! ومتى كان الرأسماليون يحنُّون على الطبقات الأخرى، وفلسفتهم قائمة على أن تربح من كل الطبقات ما استطاعت، ولا يهم الرأسمالي أن يشيد قصرا من جماجم البشر، وأن يزخرفه بدمائهم؟! ومتى كان الإيطالي حريصًا على إنقاذ الطبقات المسحوقة في مصر؟! ولحساب من هذا كله؟.
إن الذي يقرأ تاريخ الشيوعية في المنطقة يتبين بوضوح أن الذي حمل لواءها، وقام بنشرها في أول الأمر هم اليهود، ومن المعلوم للدارسين أن الشيوعية بنت اليهودية، ودور اليهودية في قيام الثورة الشيوعية ونجاحها في روسيا دور غير مجهول ولا منكور.
ثم انضم بعض النصارى إلى اليهود في الانضمام إلى الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية، وكان أول مسلم ينضم إلى الحزب الشيوعي هو "خالد بكداش" في سوريا، وكانت فرحة الشيوعيين به لا تقدر؛ فهو أول الغيث، كما أن كثيرا من الأحزاب الشيوعية في مصر والبلاد العربية : كانت من صنع أمريكا والغرب ، لتتخذها أداة في تحقيق أهدافها ، ولا سيما في ضرب الحركة الإسلامية إذا اشتد خطرها. المهم أن الشيوعيين سبقوا الإخوان إلى "هايكستب"، وكان "كوريل" يأمرهم وينهاهم فيسمعون له ويطيعون كأنهم الخاتم في أصبعه.
على كل حال وصلنا إلى هايكستب، ووُضعنا في أحد عنابره، ووجدنا بعض الإخوان قد سبقونا إليه؛ منهم: الطبيب الأديب الشاعر د.حسان حتحوت الذي تخرج حديثا، ومنهم العالم الداعية الشيخ محمد جبر التميمي، ومنهم العربي الأصيل الأستاذ صالح أبو رقيق، ومنهم الطالب الأزهري الأديب الشاعر عبد الودود شلبي.
ومنهم الأخ سعد كمال، والأخ علي الخولي، ومنهم أصغر طالب في المرحلة الثانوية، وهو الطالب النابه محيي الدين عطية، ومنهم عدد من طلبة معهد دمياط الديني الابتدائي، كانوا قاموا بإضراب في المعهد، فاقتادتهم المباحث إلى المعتقل مع الإخوان، ولم يكونوا من الإخوان، وقد أصبحوا منهم بعد ذلك، أذكر منهم أصغر طالب فيهم محمد أحمد العزب، الذي أصبح الدكتور الأديب الشاعر الباحث الإسلامي فيما بعد.
ومن اللطائف التي أذكرها أنا وجدنا المراحيض في هذا المعتقل على الطريقة الإفرنجية، التي لم تكن معروفة ولا مشتهرة بين الناس في هذا الوقت، ولم يسترِح مجموع المعتقلين إليها، وقال الدكتور حتحوت: "إن المرحاض البلدي أصح من المرحاض الإفرنجي؛ فهو أبعد عن نقل العدوى؛ حيث لا يجلس معتقل مكان غيره ويلامسه بجسده، ثم إن الحمام البلدي بجلسة القرفصاء المعتادة يساعد على التفريغ أكثر، وهو يقوي عضلات الساقين"، وانتهى الرأي إلى أن نحوِّل "الإفرنجي" إلى "بلدي" بواسطة حجارة موجودة في المعتقل، وقد كان.
وبدأنا ننظم حياتنا في هذا المعتقل، مستفيدين من تجربتنا في الطور، وإن لم تبلغ مبلغ الإخوة هناك، وبخاصة أنه كان بيننا بعض العناصر من غير الإخوان منهم طلبة معهد دمياط، الذين ظلوا في بعض الليل يصيحون ويهرجون، ونحن قد أوينا إلى النوم؛ وهو ما جعلني أثور عليهم، وأهاجمهم مهاجمة عنيفة، ندمت عليها بعد ذلك، وطلبت السماح منهم.
وكنا نصلي الصلوات في جماعة، وقد اختارني الإخوان إمامًا لهم، كما كنت أخطبهم الجمعة، وأحيانا يساعدني بعض الإخوة مثل الأخ العسال، أو عبد الودود.
وكان الأخ مصباح قد اشتد به مرض "الروماتيزم"، وغدا تحت رعاية الدكتور حتحوت، ورغم مرض مصباح فإنه كان مصدرًا للترفيه عن الإخوان وإضحاكهم بنكاته الفطرية، وتعليقاته الهزلية، التي هي نوع من الكاريكاتير الشفهي، وكان من شعره "الحلمنتيشي":
ولست بشارب شايا بقرش ** ولكن أشرب الشاي البلاشا!
وكان كلما اشتد به الألم يقول: "الله يخرب بيتك يا اللي في بالي".
وكان كلما صمَتَ الإخوة من حوله، يصدر صيحة يقول: "عبادَك يا كريم"، وكان من طرائفه أنه إذا سئل عن ترتيبه في الدفعة، يقول: أنا والشيخ يوسف نحيط بالدفعة من طرفيها، هو في أولها، وأنا في آخرها، فأنا الأول ولكن في الطرف الآخر! وكنا نأمل أن يسمحوا لنا بدخول امتحان الشهادة الثانوية؛ بأن يأخذونا تحت الحراسة إلى لجنة الامتحان بمعهد القاهرة، أو يأتوا إلينا بلجنة تمتحننا في المعتقل، وكلا الأمرين حدث لمعتقلين قبلنا، وهو من حقنا.
ولهذا ظللنا نتذاكر المقررات الدراسية في الكتب التي معنا، يسأل بعضنا بعضا، ويعين بعضنا بعضا، حتى اقترب موعد تقديم "استمارات الشهادة الثانوية"، فطلبنا من إدارة المعتقل أن تحضر لنا هذه الاستمارات، فاستجابت لنا، وأحضرتها وملأناها، وبقيت "الصورة الشمسية" التي توضع في الاستمارة، فطلبنا منهم أن يأتوا بمصور يصورنا في المعتقل، حتى تستكمل الاستمارة مقوماتها، فرفضوا. وقدمنا الاستمارات بدون صور.
وبقينا نترقب الامتحان، ونستعد له بقدر ما تسعفنا ظروفنا، راجين أن تنفرج الأمور، فيأذنوا لنا بأداء الامتحان، حتى جاء موعد الامتحان بالفعل، والباب مغلق أمامنا ولم يحدث أي انفراج. فلم نملك إلا أن نقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون".
وألقينا كتبنا واعتقدنا أن السنة قد ضاعت منا، ولا بأس بذلك في سبيل الدعوة، وعلى الجميع أن يصبروا على ما أصابهم، ويسألوا الله أن يعوضهم خيرا؛ فهناك من الإخوة من كسدت تجارته وأُغلق محله، ومنهم من أوقف مرتبه، ولا دخل لأهله غيره، ومنهم... ومنهم...، وعلينا -نحن الطلبة- أن نصبر على ما يضيع من سنوات عمرنا.
كان المعتقلون يقضون أوقاتهم في أنشطة مختلفة؛ كان منا من يقرأ بعض الكتب إذا تيسرت، وقد كان معي كتابان اصطحبتهما، وهما: إحياء علوم الدين للغزالي، الذي أهداه إلي جارنا الشيخ بيومي الغزوني وأجزاء من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه في الأدب. فكنت أستفيد من الوقت بالقراءة في هذا الفترة، وفي ذاك أخرى.. أحيانا وحدي، وأحيانا مع بعض الإخوة.
وكنا نقيم بعض أحفال السمر في الليل؛ للترويح عن الأنفس، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة: "يا حنظلة، ساعة وساعة"، وكما قال الشاعر:
ولله مني جانب لا أضيعه ** وللهو مني والبطالة جانب
وكان الشعراء يلقون بعض ما عندهم، مثل الدكتور حسان حتحوت، وقصيدته عن القرآن والسياسة، والتي يقول فيها:
هـذا الكتاب، وإن فـيه سياسـة ** أتراه أمرًا في الكتاب عجيبا
إن كـان تغضبكم سياسته دعــوه ** ونقبوا عـن غـيره تنقيبا
أوما عرضوه على الرقيب، فربما ** أفتى فـغادر نصفه مشطوبا!
يا قـوم سحقـا للرقيب وأمره ** فكـفى برب العـالمين رقيبا
وكذلك الأخ محمد التاجي الشاعر الصعيدي المجيد، وقد أسمعنا بعض قصائده الوطنية، وأذكر من قصيدة قافية منها:
أنا إن رضيت فإن ناري جنة ** وإذا غضبت فإن مائي محرق!
وقصيدته بعنوان "أخي" ومطلعها:
أخي في فؤادي وفي سمعي ** وفي خاطري أنت والأضلع
ومنها:
كلانا إلى الهول بارى أخاه ** وخلف أخيه لدى المطمع!
أي عند الهول يسابق كلانا الآخر، وعند المغنم والمطمع يتأخر كل منهما، ليقدم أخاه، ويمشي خلفه، وهو ما وصف به الأنصار قديما: أنهم يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع.
ومن طرائف شعر التاجي، قصيدته عن حياته في المعهد، ومنها عن "سريره" الذي يقول فيه:
سـرير نال منه الدهـر من أيام بيبرس
هو المضجع والمكتـب و"البوفيه" والكرسي
ومما يؤسف له أن يختفي التاجي وشعره المطبوع الجيد، لا لشيء إلا لأنه يعيش هناك في الصعيد، بعيدا عن الأضواء، في حين طفا على السطح كثيرون لا هم في العير ولا في النفير، وهذا من جملة العبر، ودليل على اختلال الميزان عند البشر!!.
ولولا أننا نبهنا عليه الأخوين أحمد الجدع، وحسني جرار، لينوِّها به وبشعره في "شعراء الدعوة الإسلامية" ما سمع به أحد إلا القريبون منه.
وكان الأخ الشاعر عبد الودود شلبي ينشدنا من شعره أحيانا، ومن شعر اليساريين الثائر حينا آخر؛ مثل قوله:
أيها الشعب تحرَّكْ * أفـلا تبصرُ قـبرك؟
هاهو الجلادُ قد ألـهب * بالكرباج ظهْرَك
هاهو الخفارُ قـد أوشك * أن يُنهي أمرَك
موكب الأحرار أنصارك * للسجن تحـرَّك
فتحرَّك أنت يا شـعب * لكي تهدمَ قبرَك
وكنت أشارك في هذه الندوات ببعض شعري القديم، وبعض الحديث مثل نشيد "يا سجون اشهدي"، وقد ألفته في هذا المعتقل:
مرحبًا بالحراب * مرحبًا بالسجون
في سبيل الكتاب * كل شيء يهون
إننا لا نهاب * كل ما يُوعِدُون
كيف نخشى العذاب * ومُنانا المنون؟
حسبنا يا شباب * أننا مـؤمنون
نحـن جندُ الإله * ولـه مسلمون
همُّنا في رضاه * لا نَنِي.. لا نخون
لا نبالي سواه * كائنًا مَن يكون
فاقبسوا من هُداه * أيها الحائرون
وانهـضوا للحياة * أيها النائمون
يا سجون اشهدي * قسوة الظالمين
واذكـري للغد * صبرَ أهلِ اليقين
فتية المسجد * وحـماة العرين
كـلُّهم مقتدٍ * بالرسولِ الأمين
صامد مهتدٍ * لا، ولن يستكين
وكان من المعتقلين معنا الدكتور أحمد شوقي الفنجري، وكانت عنده هواية التنويم المغناطيسي؛ فكان يمارسها مع المعتقلين، ولا سيما الطلبة، ونراهم ينامون بالفعل، ويسألهم أسئلة يجيبون عنها بما يصيب حينا، ويخطئ أحيانا.
وأذكر أننا سمعنا نبأ انقلاب في سوريا، قام به أحد الضباط الكبار في الجيش السوري، اسمه حسني الزعيم، ولم تكن الصحف تدخل إلينا، ولا سماع الإذاعة يجوز لنا؛ فلم نكن ندري عن أخبار الدنيا في الخارج، وخصوصا الأحوال السياسية شيئا
وطلب بعض الإخوة من الفنجري أن ينوم أحدهم، ليسأله عما يجري في سوريا، وكنت أؤمن أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وأن التنويم المغناطيسي وغيره لا يكشف الغيوب المستورة عن الخلق، وقد قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59)، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ} (النمل: 65). فإذا كنا نمارس التنويم على أنه "طرفة" نسلي بها الوقت فلا مانع، وأما أن نمارسه على أنه وسيلة لمعرفة الغيب؛ فهو مرفوض شرعًا.
وكان بجوارنا جماعة من كبار الإخوان، اعتقلوهم بعيدا عنا، تنكيلا بهم، وتكديرا لهم، وعلى رأسهم الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان، وصهر الأستاذ البنا (زوج أخته) والشيخ الداعية عبد المعز عبد الستار. وقد ضيقوا عليهم في المأكل والمشرب، حتى سمعت من الشيخ عبد المعز أنه قال: "حاولنا يوما أن نشرب من الماء المخزن في (سيفون) المرحاض، فوجدناه كأنه طين لا يمكن شربه".
وكنا سمعنا أنهم ركبوا لهم "أجهزة تسجيل" خفية، تسجل أحاديثهم بعضهم مع بعض، فأردنا أن نبلغهم بذلك، فأبلغناهم بذلك بطريقة ملحنة كأنما نقرأ القرآن، حتى لا يحس الحراس، وقد فهموا عنا ما أردنا.
العلقة
ومن الأحداث المهمة والأليمة التي لا تنسى في معتقل "هايكستب" حادثة "العلقة" الساخنة التي تلقيناها في أحد الأيام، والتي سُلِّط علينا فيها جنود "بلوك النظام"، وهم جنود تابعون للشرطة، يجندون عند الأزمات فقط؛ لفضّ المظاهرات، أو مقاومة الشغب، أو نحو ذلك، وهم في غالبهم أميّون قساة، كأنما هم أدوات في أيدي قادتهم، ينفذون بهم ما أرادوا.
ولا ندري حقيقة السبب الذي استدعي من أجله هؤلاء الجنود للانقضاض علينا، كأنهم وحوش مفترسة، أو كأنما يهاجمون عدوا قد اعتدى على أرض الوطن، وانتهك حرماته!.
قيل: إن الأخ عبد الودود شلبي -الذي كانوا يغلطون في اسمه إذا نادوه، ويقولون: "عبد الوِدّ وِدّ"- تشاجر مع إدارة المعتقل لسبب من الأسباب، فأراد الضابط المسؤول -واسمه فريد القاضي- أن ينتقم من الجميع، ويعلمهم أدب التعامل مع القادة.
أيا كان السبب، فقد فوجئنا بالجنود يدخلون علينا عنبرنا الرئيس كالتتار، يحملون العصي الغليظة والهروات الطويلة، يضربون بها الكبير والصغير، والصحيح والمريض، لا يتحاشون أحدا.
ولا ننسى موقف الأخ صالح أبو رقيق، وهو يحامي عن الإخوة صغار السن، ويتلقى الضربات عنهم، وموقف الأخ حسان حتحوت، وقد أصيب في أصبعه.
كما لا ننسى موقف الأخ عبد الودود حين نزلت عليه الضربات، وهو يصيح ويقول: عثمان بن عفان، شهيد الدار من جديد!
ولا موقف الأخ مصباح ـ على مرضه ـ ينكت ويقول:
ولقد ذكرتك والجنود تعجني * وسط العنابر بالعصا يا سوسو
على غرار ما قاله عنترة لعبلة:
ولقد ذكرتُكَ والرماح نواهل ** مني، وبيضُ الهند تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوف لأنها ** لـمعتْ كـبارق ثغـرك المتبسِّمِ
بهذه الروح العذبة المستخفة واجهنا هذه المعركة التي سميتُها في قصيدة لي "معركة بغير قتال". وكان بجوارنا العنبر الآخر الذي فيه عدد من كبار الإخوان، عزلوهم عنا، منهم الأستاذ الشيخ عبد المعز عبد الستار، والأستاذ عبد الحكيم عابدين، وعدد من الإخوة، كما أشرت من قبل.
وكان الجنود يوجهون ضرباتهم إلى الشيخ عبد المعز وهو يصرخ فيهم: "اضربوا يا أنذال، اضربوا يا كلاب".
وانفضت المعركة المفتعلة بقليل من الإصابات والجراحات الخفيفة، وكثير من العجب والاستغراب لما حدث، ولكن في عهود الظلم والاستبداد لا يُستغرب أي شيء يقع؛ لأنه لا يوجد من يحاسب الظالم، ولا من ينصف المظلوم.
وقد نظمت قصيدة بهذه المناسبة، قلت فيها:
ما للجنود ذوي العصي ومالي؟ ** ما كنت بالباغي ولا المحتالِ؟
ما بالهم هجموا علينا بغتة ** متوثبين كهجمة الأغوال ؟
قد كشروا عن نابهم وتقدموا ** ببسالة للثأر من أمثالي؟
حملوا العصيّ غليظة كقلوبهم ** ومضوا كسيل من كل مكان عال
لم كلُّ هذا الحشد من جندٍ، ومن ** حرسٍ، كأن اليوم يوم نزال؟
وإذا عجبتُ فإن أعجبَ ما أرى ** إضرامُ معركة بغير قتال
ضربٌ بلا هدف، ولا معنىً،ولا ** عقلٍ، سوى تنفيذ أوامر الوالي
كم بيننا من ذي سقام يشتكي ** لكن لمن يشكو أذى الجهال؟
كم بيننا شيخ ينوء بعمره ** يعدو الجهول عليه غير مبال
كم بيننا من يافع ومرفهٍ ** لم ينجُ من ضرب وسوط نكال
لم أنسَ وقفة "صالح" بشجاعة ** يحمي الضعاف بعزة وجلال
وثباتَ حسَّان ومحيي حوله ** وأخي الدمرداشي والعسال
ومزاح مصباحٍ وحلو نِكاته ** رغم الضنى في الجسم والأثقال
وبقربنا شيخ يجلجل صوته ** في الجند يصرخ صرخة الرئبال
عبد المعزِّ يقولُ: دونكمو اضربوا ** ضرب الخسيس لشامخ متعال
قـل للطغاة الحـاكمين بأمـرهم ** إمهـال ربـي ليس بالإهـمـال
إن كان يومكمو صحت أجواؤه ** فمآلُكم واللهِ شرُّ مآل
ستدور دائرة الزمان عليكمو ** حتما، ويؤذَنُ ظلُّكم بزوال
سترون من غضب السماوات العلا ** وإذا غضبن فما لكم من وال
وتزلزل الأرض التي دانت لكم ** يوما، وما أعتاه من زلزال
البغي فـي الـدنيا قـصير عمره ** وإن احتمـى بالـجند والأمــوال
يا جند فرعون الذين تميزوا ** ببذيء أقوال، وسوء فعال
لا تحسبوا التعذيب يخمد جذوتي ** ما ازددت غير تمسك بحبالي
إن تجلدوا جسدي فحسبي أسوة ** إيذاء عمار، وجلد بلال
ضرب الرجال وهم أسارى قيدهم ** من شيمة الأوغاد لا الأبطال
والليث لن يعيبه إيذاؤه ** مادم في الأقفاص والأغلال
يا قادرين على الأذى ليَ هل لكم ** أن تستطيعوا ساعة إذلالي؟
الجسم قد يؤذى وليس بضائر ** نفسا تعز على أذى الأنذال