كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الإخوان قوة شعبية مؤثرة، وقيادتهم للتيار الوطني باسم الإسلام، كما برز ذلك في الأزهر وجامعته ومعاهده والجامعة والمدارس الثانوية. وكان ذلك مما أدخل جماعة الإخوان في صراع مع حزب الوفد، وهو كره لها.

فقد كان الوفد هو القوة الشعبية الأولى والكبرى على الساحة السياسية، حتى برز الإخوان، قوة فتية متوثبة، يقودها شباب متوثب. وكان الوفد هو البادئ بالاحتكاك دائما أو غالبا، وكان يملك من القدرات المادية والأدبية، نتيجة سيطرته على حكم مصر مرات عدة، ما لا يملك الإخوان، التي يناصرها أبناء الطبقة الوسطى والدنيا، لا الطبقة العليا التي منها البكوات والباشوات والإقطاعيون والرأسماليون مثل حزب الوفد.

وكانت تعليمات الأستاذ البنا لإخوانه وأبنائه تشدد على الالتزام بالصبر والمصابرة، والتعامل بالحسنى، والفرار من المواجهة والصراع ما أمكن ذلك، مؤكدا أن المستقبل للإخوان، ولدعوتهم، وأن هذه الأحزاب كلها إلى زوال "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد:17).

وكان الوفد دائم الحملة على الإخوان في صحفه، وفي اجتماعاته، وهو يحرِّش أتباعه للاصطدام بالإخوان، واستفزازهم وجرهم إلى معارك لا لزوم لها، ولا فائدة منها إلا تفريق الصف، وغرس الأحقاد، في حين تحتاج الأمة إلى تجميع قواها، وتوحيد صفوفها، في مواجهة المحتل المستكبر الجبار.

وكان الطلبة الوفديون في طنطا، في المعهد الديني وفي المدرسة الثانوية يعملون على استفزاز الإخوان، ولكن شباب الإخوان ـ وفق التعليمات ـ يتجنبون الدخول في معارك معهم، فليسوا هم العدو، إنما العدو هم الإنجليز.

إلا أن هذا التحفظ من الإخوان لم يغن شيئا، وحدث الصدام في بعض البلاد، ومنها: شبين الكوم، التي قتل الوفديون فيها طالبا من طلاب الإخوان ـ ولا أذكر كيف تم القتل ـ وهو الطالب صادق سعد مرعي، الذي كان لقتله ضجة كبيرة، وثورة عارمة في نفوس الإخوان، وقد قلت قصيدة في رثائه، نشرتها جريدة (الإخوان) اليومية، لا أذكر إلا مطلعها:

قتلوك شلت كف من قتلوك  **  يا (صادقا) لهمو، وهم كذبوك!

وفي اليوم التالي نشر الشاعر الطالب بمعهد القاهرة الديني عبد الودود شلبي قصيدة رائعة في رثاء صادق مرعي، نشرت في جريدة الإخوان جاء فيها:

يا أخي فـي الله مـا      مـت ولكـن أنت حيّ

أيّ وحش ذلك الـقـا      تـل يـا صـادق أيّ؟

إنه الـباطــل، والبا       طـل إجــرام وغيّ

بل هي الأحزاب يا قو     م فهل في مصر وعي؟

وكانت صحيفة الوفد (صوت الأمة) تتهكم على حسن البنا، وتقول عنه (مدرس الخط) وتقول: كيف يجترئ مدرس الخط على مخاطبة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا؟

ونشرت صحيفة الإخوان خطابا قديما بعث به حسن البنا إلى النحاس باشا بمناسبة تصريحات أدلى بها إلى بعض الصحف الأجنبية، أبدى فيها إعجابه ـ بلا تحفظ ـ بكمال أتاتورك، ونشرت الجريدة هذا الخطاب القديم تحت عنوان (من مدرس الخط إلى رفعة النحاس باشا) وهو خطاب تتجلى فيه الموضوعية وأدب الخطاب، والتنبيه إلى خطورة ما صرح به النحاس الباشا، وبيان حقيقة أتاتورك وموقفه من الإسلام وشريعته وأمته.

وفي آخر كتاب الشيخ البنا ختمه بكلمات تلمس أوتار القلوب، وتهز مشاعر أهل الإيمان حين قال: (وسنستعدي على الباغين سهام القدر، ودعاء السحر، وكل أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره).

وما زال الوفد يكيد للإخوان، حتى استطاع أن يؤثر في وكيل الإخوان الأستاذ أحمد السكري، الذي كانت له ميول وفدية معروفة، حتى خرج من الإخوان، وبدأ يهاجمهم بعنف، ويصب جام غضبه على مرشدهم خاصة، وفتحت صحيفة الوفد له أبوابها لينشر فيها مقالات في صفحتها الأولى، بعنوان: (كيف انزلق الشيخ البنا بدعوة الإخوان المسلمين؟).

وكانوا يظنون أن هذه المقالات ستشق الصف الإخواني، وينشق الجم الغفير منهم، ليسير في ركب السكري، والواقع أن السكري خرج من الإخوان كما تخرج الشعرة من العجين، لم تبك عليه عين، ولم ينعه ناع، وإنما ودع بالإشفاق عليه والإعراض عما يكتبه، كما قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" (القصص:55).

لم يتبع السكري إلا بضعة أفراد، لم يأبه بهم أحد، ولم يُرفع لهم علم، منهم أحد طلاب جامعة الأزهر، وقد كان في معهد طنطا: مصطفى نعينع، ويبدو أنه خرج ولم يعد، فلم يسمع له بعد ذلك صوت.

لم يرد الأستاذ البنا على السكري، وإنما كتب له مقالة، يذكر فيها أنه كان يتمنى أن يكون الفراق بينهما بمعروف، وألا ينسوا الفضل بينهم، وأن يبقى الود موصولا، وإن اختلف الطريق، لا أن تستخدم سياسة وخز الإبر، وتسميم الآبار، وأعلن الأستاذ البنا أنه يربأ بنفسه أن يدخل في معركة من هذا النوع، وإنما يكل أمره إلى الله، خاتما رسالته بهذه الآية: "الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير" (الشورى:15).