كانت قضية فلسطين طيلة المرحلة الثانوية قضية هامة وحية وساخنة في نفوسنا. وكان (الإسلاميون) أكثر اهتماما بها من (الوطنيين). فكثير من الوطنيين لم يكونوا يدركون بوضوح خطورة المشروع الصهيوني على المنطقة، حتى سئل أحد رؤساء الحكومات في مصر يوما عن شيء يتعلق بفلسطين، فكان رده المؤسف: أنا رئيس وزراء مصر، لا رئيس وزراء فلسطين.
ولا عجب أن كنا نُسَيِّر من أجلها المظاهرات، وتدوي الهتافات، ونلقي الخطب النارية، وننشئ القصائد الثورية، ونثير الطلاب والجماهير، لتهتف لفلسطين، وكنا ننتهز فرصة ذكرى وعد بلفور وغيرها لإحياء القضية.
كان الإسلاميون هم الذين يعون تماما الخطر اليهودي وأطماعه وأهدافه في المنطقة العربية، والإسلامية، وكان في مقدمة هؤلاء الإسلاميين الوعاة لهذا الخطر وأبعاده: الشيخ حسن البنا، الذي كان يتابع من قديم ما يجري على الأرض المقدسة من أحداث، وما يُخطط لها من مكايد، وما يقوم به أهلها من ثورات، وما يبذلونه من أرواح.
وكان أهم ما يقوم به حسن البنا وأمثاله من رجال الأمة ودعاتها: مقاومة موجة الغفلة التي غشيت الأمة، وموجة الاتهام والتخوين لأهل فلسطين، الذين أشاعوا عنهم زورا بأنهم باعوا أرضهم لليهود، وأنهم تقاعسوا عن الجهاد، وهذه أكاذيب نفقّها اليهود والمستعمرون، فالواقع أن الذي بيع من أرض فلسطين لا يتجاوز 2% منها، وكان الذين باعوها من الأجانب ومن غير المسلمين، كما أن أهل فلسطين قاوموا المشروع الصهيوني بكل ما في وسعهم، ولكن الانتداب البريطاني على فلسطين كان يقف في سبيلهم، ويمنعهم من امتلاك أي سلاح يدافعون به عن أنفسهم، على حين يتيح لليهود كل أسباب القوة، بل العدوان.
والعجيب أن السياسة الاستعمارية والصهيونية التي استجاب لها العرب وقادتهم هي أن يعزل الشعب الفلسطيني عن قضيته، ويبعد عن ممارسة حقه في الدفاع عن أرضه ومقدساته، على خلاف السياسة المتبعة اليوم، والتي توحي بها بل تفرضها القوى المعادية للإسلام والعروبة، وهي ترك القضية للفلسطينيين وحدهم، بعد أن تحولت (إسرائيل) إلى أخطبوط في المنطقة، وإلى ترسانة عسكرية ضخمة، وهذا في الوقت الذي تعتبر إسرائيل كل يهودي في العالم مسؤولا عنها.
كان حسن البنا على وعي كامل بهذه الحقائق كلها، ويجتهد أن يشيعها بين الناس، وأن يزيح عن الأعين الغشاوات حتى ترى، ويزيل الوقر من الآذان حتى تسمع. وكان له علاقة برجال فلسطين، وعلى رأسهم المجاهد الكبير الحاج أمين الحسيني. وكان يجند مجلته (النذير) ثم (الإخوان) لإيقاظ الأمة نحو القضية وتطوراتها، وينتهز فرصة ذكرى الإسراء والمعراج، ليذكر بـ (المسجد الأقصى) كما يتخذ من (2 نوفمبر) ذكرى وعد (بلفور) لتعبئة الأمة ضد هذا الوعد الذي صدر ممن لا يملك لمن لا يستحق. والذي علق عليه الحاج أمين بقوله: إن فلسطين ليست وطنا بغير شعب حتى تستقبل شعبا بغير وطن!
وفي سنة 1936م أصدر عددا خاصا من مجلة (النذير) عن ثورة فلسطين، وكتب فيه مقالا عن (صناعة الموت) يحرض الأمة فيه على الجهاد، والاستعداد للموت في سبيل الله، فمن حرص على الموت وهبت له الحياة.
وفي سنة 1946م أرسل العالم الداعية الشيخ عبد المعز عبد الستار، ليطوف بمدن فلسطين مشرقا ومغربا، لتنبيه العقول، وإحياء القلوب، وإشعال المشاعر، وتجميع الصفوف، وقد بقي الشيخ عبد المعز ـ كما سمعت منه ـ شهرين كاملين في فلسطين، ولكنه عاد من هناك يحمل هما كبيرا، ويشفق على مصير فلسطين.
فحينما زار المسجد الأقصى لم يجد فيه غير صفين أو ثلاثة، فآلمه ذلك أشد الإيلام، ولما قال لبعض المقدسيين ذلك، قال له: صحيح أن الصلاة ثقيلة عليهم، ولكن إذا ناديتهم إلى المعركة لبوا النداء في سرعة البرق. وقال لهم الشيخ: إن أول الجهاد أن نجاهد أنفسنا، وأن ننتصر عليها. والله تعالى يقول: "استعينوا بالصبر والصلاة" (البقرة:45).
ومما لاحظه الشيخ أن القادة كلهم غائبون، الحاج أمين الحسيني منفي في الخارج، والآخرون متفرقون. كما لاحظ أن اليهود يعملون ليل نهار، وفي غاية من اليقظة والاستعداد، والعرب ليسوا على هذا المستوى، ولهذا حين عاد إلى مصر قال للأستاذ البنا: الحقيقة أن دولة اليهود قائمة بالفعل، ولا ينقصها إلا الإعلان عنها!!
وفي سنة 1947 بدأ الاستعداد بتهيئة الإخوان لمعركة قادمة لا ريب فيها. ولا سيما بعد رفض قرار التقسيم، وبعد استفحال أمر العصابات الصهيونية التي تعمل بدهاء وتخطيط ومكر، في حماية الانتداب البريطاني، الذي أفسح المجال للهجرات الجماعية لليهود من أنحاء أوربا ـ وخصوصا الشرقية ـ وأمريكا وغيرها، ليبنوا مستعمراتهم في سائر أرض فلسطين، ومكنهم أن يسلحوا أنفسهم، في حين حرّم على أهل البلاد من حمل أي سلاح، ولو كان قطعة صغيرة.
وجاءت سنة 1948م والقِدْر تزداد غليانا، ومعسكرات التدريب تستقبل الشباب ليوم معدود، وكان كثير منا متحمسين لخوض المعركة ضد اليهود، ولكن قرار (مكتب الإرشاد) بالقاهرة: ألا يشارك طلاب الثانوي في الجهاد، ويكتفى بطلاب الجامعة وغيرهم من أبناء الشعب.
وكنا نحن دعاة الإخوان نطوف المدن والقرى، نحرض على الجهاد بالنفس وبالمال، وأحيانا نركز على المال لشدة الحاجة إليه لشراء السلاح للإخوان في فلسطين ونجمع لهم السلاح إن وجدناه، ونعبئ مشاعر الأمة وأفكارها، لتستعد لمعركة آنية عن قريب مع بني صهيون، الذين زرعهم الغرب في المنطقة، ولا يزال يساندهم ويؤيدهم عسكريا واقتصاديا وسياسيا.
وقد تجلى ذلك للعيان، حين أعلن قيام الكيان الصهيوني العدواني الذي سمي (إسرائيل) فاعترفت أمريكا بها في الحال، وبعدها بريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرها، وأعلن الجميع أنها خُلقت لتبقى.
عبد الوهاب البتانوني:
وهنا أذكر قصة زميلي وأخي وحبيبي عبد الوهاب البتانوني، الذي كان ينام ويصحو على الجهاد في فلسطين، كأنما هو قيس، والجهاد ليلاه. وكان عليه أن يتخطى العقبات في سبيل تحقيق رغبته المنشودة.
كان عبد الوهاب شابا تقيا نقيا، صافي الروح صفاء البلور، يحلق في الأجواء الروحية، يكاد يطير بلا جناح، وكان أستاذنا البهي الخولي يقول: كلما رأيت عبد الوهاب لحظت دم الشهادة يترقرق في وجهه. وكان يقول عنه: سيدي عبد الوهاب البتانوني.
كان أمام عبد الوهاب لتحقيق رغبته في الجهاد بفلسطين عقبتان:
أولاهما: رضا أمه، فهي حريصة عليه، وضنينة بحياته، فقد مات أبوه وخلّفه يتيما، هو وشقيقه، وأصبح أمانة في عنقها، فكيف تضحي به؟
ووسطنا عبد الوهاب للذهاب إلى والدته، لنحاول إقناعها بذهابه إلى فلسطين. وذهبت أنا وأخي أحمد العسال، وأخي محمد الصفطاوي إلى قريته (كفر هورين) مركز السنطة، وحدثناها عن أمهات المجاهدين الأبطال في التاريخ الإسلامي، وعن شوق عبد الوهاب للجهاد، وذكرناها بأن الجهاد لا يقدم أجل الإنسان عن موعده، وأن من لم يمت بالسيف مات بغيره، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.. إلى آخر هذه المعاني، التي لم تملك الأم الحنون معها إلا أن تقول: ما دامت هذه رغبة عبد الوهاب، فلن أقف في وجهه، وأسلم الأمر لله، وأدعو الله أن ينصره وإخوانه ويردهم سالمين غانمين..
واستبشر عبد الوهاب وانفرجت أساريره، وقبّل رأس أمه ويدها، وطلب منها أن تدعو له باستمرار.
بقيت (العقبة الثانية) وهي قرار مكتب الإرشاد بعدم السماح لطلبة الثانوي بالسفر للقتال في فلسطين، إلا باستثناء من المرشد العام. فكان لا بد من رحلة إلى القاهرة، لمقابلة المرشد العام لاستثناء عبد الوهاب، وسافرنا نحن الثلاثة: العسال والصفطاوي وأنا، واستطعنا أن نحصل على استثناء من المرشد.
ورجعنا لنبشر عبد الوهاب، وهو لا تكاد تسعه الدنيا من الفرحة، لقد تحققت أمنيته في الذهاب إلى أرض الإسراء والمعراج، أرض أولى القبلتين، وثالث المسجدين العظيمين في الإسلام، ليقاتل أعداء الله، وقتلة الأنبياء: اليهود. وودعناه في يوم مشهود مع عدد من إخوانه المتطوعين من طنطا، وقد ركبوا القطار إلى القاهرة، ومن هناك يرحلون إلى أرض الجهاد، مع إخوانهم من القاهرة والمديريات الأخرى، وكان لقاء الوداع.
وقد أرسل إليّ خطابا من أرض الجهاد يقطر حبا ومودة وحنينا إلى النصر، وقد ظللت محتفظا به مدة من الزمن، ثم ضاع فيما ضاع من أوراق في محن الإخوان.
وقدر الله لعبد الوهاب أن يحقق له الشهادة مع اثنين من إخوانه، طاردهم اليهود حتى لجئوا إلى مصنع للسلاح، للاختباء فيه، ويظهر أنهم رأوا أنهم مقتولون لا محالة، وأن أفضل طريقة: أن يفجروا المصنع على من فيه وما فيه، وإن ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ كامل الشريف في كتابه "الإخوان المسلمون في حرب فلسطين"، وقد كان هو أحد القادة في هذه الحرب. كما فصل ذلك الأخ يحيى عبد الحليم فيما كتبه عن "معركة عصلوج".
وتحقق ما قاله الشيخ البهي: كلما رأيت عبد الوهاب، رأيت دم الشهادة يترقرق في وجهه. رحمه الله ورضي عنه، وجعله شفيعا لأهله ولنا معهم.
حسن الطويل:
ومما أذكره من قصص الجهاد من أبناء مصر الأتقياء، قصة أخرى، لا تقل روعة عن قصة عبد الوهاب، وهي ليست لطالب، ولكن لفلاح.
إنها قصة حسن الطويل، أحد الإخوان الفلاحين من إحدى قرى مركز (بسيون) أظن اسمها (كفر الحمر) وقد كان حسن من المتحمسين لقتال الصهاينة، تحمس عبد الوهاب البتانوني، ولكنه كان يصر أن يذهب بنفسه وسلاحه للقتال، وكان يملك جاموسة تعتبر بمثابة رأس ماله، فباعها، واشترى بها بندقية آلية حديثة. وجاء إلى رئيس منطقته في بسيون الحاج أحمد البس، ليسلم نفسه وسلاحه. فقال له الحاج أحمد: كان يكفيك يا حسن أن تجاهد بنفسك، ويجاهد غيرك بماله، وتدع الجاموسة للأولاد.
قال له: يا حاج أحمد، ألم تعلمونا أن الله تعالى قال: "وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله" (التوبة: 41)، وأن أربح تجارة في الدنيا والآخرة هي الجهاد بالمال والنفس "وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم" (الصف:11).
قال: بلى.
قال: هل قال الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ... بأن لهم الجنة" أو قال: "أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" (التوبة:111).
قال الحاج أحمد: بل قال (أنفسهم وأموالهم).
قال: وأنا أريد أن أسلم الثمن كاملا، حتى أستحق الجنة.
ولم يستشهد حسن الطويل، كما استشهد البتنانوني، ولكن كان جزاؤه المعتقل مع أمثاله من المجاهدين.
هذه نماذج من الذين (استجابوا) للجهاد في فلسطين، ولا أقول: (تطوعوا) فقد كانت نصرة إخوانهم فريضة، ومقاومة الخطر الصهيوني فريضة. فلا ينبغي أن نطلق على هذا لفظ (التطوع) إلا من باب التسامح والتساهل في التعبير.