في هذه السنة تعرفت على أستاذ جليل كان يدرس لنا مادة المحفوظات، وكانت هذه الحصة حصة للراحة لمن يأخذها من المدرسين، ولكن هذا الأستاذ حول هذه الحصة إلى محفوظات حقيقية، في كل أسبوع يختار لنا قطعة من النثر أو الشعر لنحفظها ويسوقنا بالترغيب والترهيب لحفظها.
وأذكر أن أول قطعة طلب منا حفظها، وكتبها لنا على السبورة كانت من أدب المنفلوطي، ومن موضوع (الرحمة) في كتابه (النظرات): "ارحم الحيوان، فإنه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع، ويتوجع ولا يكاد يبين. ارحم الطير لا تحبسها في أقفاصها. أطلقها وأطلق سمعك وبصرك وراءها، فتراها أجمل من الفلك الدائر، والكوكب السيار".
كما أعطانا فقرات من قصيدة حافظ إبراهيم (العمرية) وقد كان مزهوًّا بها، وكان يشرحها لنا شرح المتيم بشخصية عمر ومواقفه وروائعه، وشرح المربي الذي يوجه الطلاب إلى القيم العليا مجسدة في مواقف. وأذكر من هذه الرائعة العمرية هذه الأبيات في رحلة عمر إلى فلسطين:
ماذا رأيت بباب الشام حين رأوا ** أن يلبسوك من الأثواب زاهيها
ويركبوك على البرذون تقدمه ** خيل مطهمة تحـلو مـرائيها
مشى فهملج مختالا براكـبه ** وفي البراذين ما يزهي بعاليها
فصحت: يا قوم كاد الزهو يقتلني ** وداخلتني حـال لست أدريها
وكاد يصبو إلى دنياكمو عمرٌ ** ويبتغـي بيع باقـيه بفـانيها
رُدوا ركابي فلا أبغي به بدلا ** ردوا ثيابي فحسبي اليوم باليها
وهكذا كانت دروس المحفوظات دروسا في الأدب والتربية والسلوك.
نسيت أن أقول: هذا الأستاذ هو الشيخ الداعية المربي البهي الخولي، خريج دار العلوم، وزميل الأستاذ حسن البنا، وسيكون لنا عنه حديث بعد.
محمد السيد الوزير:
وفي هذه السنة تعرفت على زميل كريم، وصديق عزيز، كان يسكن طنطا، ولكنه من بلدة قريبة من بلدتنا، هي شبشير الحصة، ولنا فيها أقارب. ذلكم هو محمد السيد الوزير، وقد كان شابا ذكيا نابها له تطلعات أكبر من سنه، فكان يهتم بالرد على النصارى، ويجمع الكتب التي ترد على المبشرين، وتدفع شبهاتهم، وتفند أباطيلهم، وكان متتبعا لما يكتبه الأستاذ محيي الدين سعد البغدادي في مجلة (الإسلام) في الرد على دعاة التنصير. وقد أهداني ما عنده من كتب للاطلاع عليها، ومنها كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله الهندي في طبعته القديمة، وكتاب (الفارق بين المخلوق والخالق) وغيرهما من الكتب.
كما كان يتتبع جماعة (البهائية) وكانت لهم أوكار في مدينة طنطا، وكان يُعنى بجمع كتبهم، ومنها كتاب (البيان) لميرزا علي (الباب) وكتاب (الأقدس) لميرزا حسين (البهاء). وهو الذي أهداني كتاب (الحراب في صدر البهاء والباب) وهو من أقدم ما كُتب في الرد على البابية والبهائية.
وقد كان محمد الوزير شاعرا، وله شعر فيه نزعة فلسفية، ومن شعره القديم:
لا تصغ لي، أو خذ بغير جدال ** إني عـلى الحالين ذاكر حالي!
أنا في دجى العلماء أسبح تارة ** وأتيه طورا في ضحى الجهال!
وإني لأعجب كيف اختفى محمد الوزير، ولم يظهر له أثر يذكر في الحياة الأدبية والفكرية، مع أن لديه من المواهب والقدرات ما يرشحه لأن يكون له مكان مرموق. وسبحان مقسم الحظوظ. وإن كان قد ترك القليل مما كتب، مثل كتابه عن (الأمير عبد القادر الجزائري).
وقد عرفت منه قبل موته رحمه الله: أن لديه كمًّا هائلا من الشعر، ليت أبناءه يحاولون أن ينشروه، وإن كانت دور النشر للأسف لا تنشر إلا للمعروفين من المؤلفين. وقد انتقل إلى رحمة الله منذ نحو ثلاث سنوات.
تساؤل مهم:
كثيرا ما ساءلت نفسي بمناسبة محمد الوزير وأمثاله من النوابغ الذين لم يأخذوا حقهم في البروز والظهور: ما العنصر الأول المؤثر في سلوك الإنسان وتحديد مستقبله؟ هل العقل أو الذكاء وحده هو العنصر المؤثر في حياة الإنسان وتقرير مصيره؟ فمن كان أوفر عقلا، وأحَدّ ذكاء، كان أحسن حظا، وأكثر سعادة؟ أو هناك شيء غير العقل، وهو الإرادة؟ فالإنسان لا يحقق أهدافه، وطموحاته بالعقل وحده، بل بالإرادة أيضا.
وكم رأينا من أناس في غاية الذكاء ضاعوا في الحياة، ولم يسعفهم ذكاؤهم، ولا نبوغهم، لأنهم فقدوا الإرادة التي تحفزهم على طلب المعالي، وسهر الليالي، ومعاناة المتاعب، كما قال أبو الطيب قديما:
وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام
أو كما قال البارودي حديثا:
ومن تكن العلياء همة نفسه ** فكل الذي يلقاه فيها محبب
في اعتقادي أن الإرادة عنصر ضروري إلى جوار عنصر الذكاء، بل ربما كان أهم منه. وكم رأينا من أناس حققوا بذكائهم المتوسط ـ مع قوة الإرادة ـ ما لم يحققه الأذكياء!
وإذا كان ديكارت يقول: أنا أفكر، إذن أنا موجود، فأنا أقول: أنا أريد، إذن أنا موجود.
وما الذي يكوِّن إرادة الإنسان؟ أو قل: ما تتجه إليه إرادة الإنسان؟ إنه الإيمان والأخلاق. فالفرد بلا إيمان وأخلاق، لن يكون له إرادة. إنما تنبثق الإرادة من رسالة يؤمن بها، ومن أخلاق يلتزم بها. وإذا كان الناس استحسنوا قول شوقي:
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فرأيي أن هذا ينطبق على الأفراد، كما ينطبق على الأمم، فالإنسان بغير أخلاق أشبه بالحيوان الأعجم، الذي لا تسَيِّره غير غريزته.
على أن هناك عنصرا فوق ذلك كله، وقبل ذلك كله، أي فوق الذكاء والإرادة، وقبل الذكاء والإرادة، نؤمن به نحن المسلمين، بل يؤمن به أهل الأديان جميعا، بل يؤمن به أهل الجاهلية أنفسهم، اسمه (القدر) الذي يهيمن على الكون كله، والذي جعل الناس يقولون: العبد يدبر، والرب يقدر، ويقولون: إذا نفذ القدر عمي البصر. وهو الذي جعل الشاعر الجاهلي (المثقب العبدي) يقول:
ولا أدري إذا يممت أرضا ** أريد الـخير: أيهما يليني؟
أألـخير الـذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغيني؟
ويقول شوقي أيضا:
قدرت أشياء، وقدّر غيرها ** قدر يخط مصاير الإنسان!
وأنا أشهد أن كثيرا من المحطات في حياتي مما أحب وما أكره، كانت من صنع القدر لي، وأعتقد أن ما اختاره لي قدر الله، خير مما كنت أختاره لنفسي. وليس معنى هذا أن الإنسان (مسيَّر) أو (مجبور) مسلوب الإرادة، كلا، فعلام كلف إذن؟ وفيم كان الثواب والعقاب؟
وعلماء الأخلاق والنفس والاجتماع اليوم يقولون: إن الإنسان تؤثر فيه عوامل كثيرة، تدور جميعها حول أمرين: الوراثة والبيئة.
ولقد كشف عصرنا تأثير (الجينات) في سلوك الإنسان، في عقله وانفعالاته وعواطفه، وفي نزوعه وإرادته، وفي جسده وصحته.
كما بين عصرنا أثر البيئة الجغرافية والبيئة الاقتصادية، والبيئة الثقافية في الأسرة والمجتمع في توجيه حياة الإنسان، وهو ما عبر عنه الحديث الشريف "فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه".
ومع هذه المؤثرات أرى أن الإنسان مخلوق ذو إرادة، وأن الله أبقى له قدرا من الحرية يدير به حياته وفق اختياره، فقد وهبه الله العقل، ومنحه الإرادة، ورزقه القوة، وبعث له الرسل، وأنزل له الكتب، وتركه ليقرر مصيره بنفسه، {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} (الأنعام:104)، وبهذا القدر من الإرادة التي منحها للإنسان حمل أمانة التكليف، وبها يؤمر ويخاطب، وعلى أساسها يثاب ويعاقب.
أرفض الجبر والقهر أيا كان:
ومن هنا أرفض كل الفلسفات (الجبرية) سواء كانت جبرية دينية، كالذين قالوا: إن الإنسان أشبه بريشة في مهب رياح الأقدار، تقلبها كيف تشاء، ولا إرادة له ولا اختيار، أم كانت جبرية اجتماعية، كفلسفة (دوركايم) ومن تبعه، الذين قالوا: إن الفرد دمية يحرك خيوطها المجتمع، وكل ما يعمله من صالحات، أو يقترفه من جرائم هو من صنع المجتمع، وهو أسير المجتمع في الحسنات، وضحيته في السيئات، أم كانت جبرية سياسية، كالذين يزعمون أن هناك قوى خفية تحكم العالم، وأننا مجرد أحجار على رقعة الشطرنج.. فهذا لا دليل عليه، وهو ييئسنا من كل عمل لإصلاح أنفسنا.
الإنسان مكلف، حر ومختار، ملّكه الله مصير نفسه بلا ريب. ولكن أهل الإيمان مع هذا يوقنون أن لله نفحات يختص بها من شاء من عباده فضلا منه وكرما، هي من شأن الألوهية التي لا تُسأل عما تفعل، ولا حجر عليها فيما تخلق وترزق وتعطي. {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (آل عمران:73-74).
إن الإنسان ليس مسيرا ولا مجبورا، ولكنه ـ كما قال الحديث النبوي ـ ميسّر لما خلق له.
في الإجازة الصيفية:
انتهت السنة الثانية بالمعهد بحمد الله وتوفيقه، وكان ترتيبي الأول أيضا على الدفعة. وكنا عادة حين ينتهي العام الدراسي، نترك السكن الذي كنا فيه، حتى لا تحسب علينا الأشهر الثلاثة التي هي مدة الإجازة، ونبدأ قبيل بدء الدراسة في البحث عن مسكن جديد.
وعدنا إلى القرية لنقضي بها الصيف، ولم يكن بالقرية مجالات للنشاط، تستوعب طاقات الشباب، فقد كانت القرية المصرية مهملة كل الإهمال، لا يصل إليها ماء ولا كهرباء. وليس فيها أي ناد للرياضة أو الثقافة. وكان الحظ كله لأهل المدن، وإن شئت الحقيقة، قلت: المدن الكبرى، ولا سيما القاهرة والإسكندرية. فكيف أقضي الصيف؟ وفيم أمضي وقتي والوضع كما نرى؟
الحق أن وقتي بالصيف غير مستغل كما ينبغي، لقد عرفت أن بعض زملائنا في طنطا يستغلون الصيف في تعلم اللغة الإنجليزية، في بعض المؤسسات المخصصة لذلك، وكم كنت أود أن يتاح لي مثل ذلك في هذه السن، وعندي قدرة لغوية غير عادية، ووقت فارغ، ورغبة عارمة، وطموح غير محدود!
ولم يكن لي إلا أن أرضى بالواقع، فما لا يملك الإنسان تغييره لا يسعه إلا أن يرضى به، وإلا أورثه السخط الدائم والهم والنكد والاكتئاب. وقد قال العرب في أمثالهم: من غضب على الدهر طال غضبه! إذ ما أكثر الأشياء التي يأتي بها الدهر، وهي لا توافق ما يهواه الإنسان. وقد روي: "إن الله عز وجل بقسطه جعل الرّوْح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك".
ورضيت بالواقع، واجتهدت أن أستفيد من الوقت بقدر ما تسعفني وسائلي وإمكاناتي، وهي محدودة، بقراءة ما لدي من كتب قليلة جدا، ومنها كتابا الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين، ومنهاج العابدين، وقد أضيف إليهما كتاب جديد مهم، أهداه إلي صديقي السيد مولانا، مما وجده في مكتبة عائلة مولانا. وهو كتاب (الذريعة إلى مكارم الشريعة) للإمام الراغب الأصفهاني (ت502هـ) وهو كتاب مركز، صغير الحجم، كبير النفع. وقد قالوا: إن الإمام الغزالي نفسه انتفع به كثيرا.
أول درس ديني ألقيه في حياتي:
وقد حدث لي في هذه الإجازة أمر مهم، بل في غاية الأهمية في حياتي، وهو إلقاء أول درس ديني على الناس في مسجد جامع.
ذلك أن شهر رمضان كان يأتي في إجازة الصيف، ورمضان ـ كما قلت ـ شهر تجديد للحياة الإسلامية، تتجدد فيه القلوب بالإيمان، والعقول بالمعرفة، والحياة بالترابط والتزاور.
وكانت مساجد القرية تعمرها الدروس الدينية بعد العصر حينا، وبعد المغرب دائما. وكان مسجد المتولي ـ وهو مسجد ناحيتنا الكبير ـ يجمع بين الدرسين عصرا وعشاء، وكنت حريصا منذ صباي على ملازمة هذه الدروس، والاستفادة منها، وإن كان لي عليها ملاحظات ومآخذ، وكان أفضل هذه الدروس بلا شك درس الشيخ عبد المطلب البتة بعد عصر كل يوم. ويتحلق حوله عدد جيد من الناس المهتمين بالدين والعلم .
وفي يوم من الأيام تحلق الناس كعادتهم، ينتظرون الشيخ عبد المطلب، ولكنه لم يحضر، فالتفت بعض كبار الحاضرين إلي، وقال لي: ما رأيك يا شيخ يوسف، تجلس مكان الشيخ، وتلقي علينا درسا مما تعلمته في الأزهر؟ قلت لهم: لا مانع، وعلى بركة الله وبتوفيقه وعونه.
وبدأت الدرس حول (التوبة) من المعاصي، وهو درس مرتجل طبعا، واستشهدت بالآيات والأحاديث، وأنا بحمد الله تعالى من صغري شديد الاستحضار لآيات القرآن، وكنت قرأت عن التوبة في الإحياء والمنهاج للغزالي، وكونت فكرة واضحة عن الموضوع. ولم تكن مما تعلمته في الأزهر، فما نتعلمه في الأزهر للأسف ـ وخصوصا في القسم الابتدائي ـ لا يخرّج داعية.
ومن مستلزمات الدرس في الريف: أن يسأل الحاضرون في كل ما يعن لهم حول الموضوع المطروح، وقد يخرجون عنه. وقد سألوني عدة أسئلة وفقني الله تعالى في الإجابة عنها.
وبعض الذين يحضرون هذه الدروس، بطول ملازمتهم للمشايخ، تكونت لديهم قدرة على الأسئلة المحرجة، فمن كان رخو العود، تعثر وتلعثم، وظهر ضعفه وعجزه، ولكني بطول ملازمتي لهذه الدروس وسماعي لما يُلقى فيها من أسئلة وإحراجات، أصبحت قديرا على معالجتها، ولم تزعجني كثيرا، ولا أستطيع إلا أن أقول ما قال سيدنا شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود:88).
وقد كان أثر هذا الدرس طيبا جدا، وهنأني عليه كل من حضره، وبلغ ذلك الشيخ البتة، فشجعني على ذلك، جزاه الله خيرا.
وأصبحت هذه عادة، كلما تأخر الشيخ البتة عن حضور الدرس قدمني أهل المسجد لأحل محله.