د. علي محيي الدين القرة داغي |
دعا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين جبهة النصرة في سوريا إلى العودة إلى محيطها، والعيش صفاً واحداً مع بقية المجاهدين، وترك مصير الحكم والدولة في سوريا إلى ما بعد التحرير، ليختار الشعب الحكم الذي يريده، بكامل حريته واختياره. كما دعا الفصائل المعارضة كلها إلى توحيد صفوفها تحت راية واحدة.
وقال بيان الاتحاد بهذا الصدد:
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.. وبعد؛؛
فإن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يتابع بقلق بالغ، الأوضاع المأساوية بسوريا، ثم الأزمات المتتابعة التي تفتعلها بيانات بعض الفصائل، التي تنتمي إلى تيارات إسلامية، حيث أعلن القيادي الميداني أبو محمد الجولاني عن تجديد مبايعة تنظيم جبهة النصرة لأهل الشام للدكتور أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، والذي دعا مسلحي المعارضة السورية الذين يقاتلون النظام إلى إقامة دولة إسلامية، ولحقها أبو بكر البغدادي ببيان لتأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام"
وأمام المآلات التي تترتب على مثل هذه البيانات، وآثارها الخطيرة على الثورة بسوريا، ينطلق الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من واجبه الشرعي، ومسؤوليته، في أن يبين الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم، وأن يؤكد ما يلي:
أولاً: إن من القواعد الشرعية الكلية، والمبادئ الإسلامية العامة: أن القرارات، أو البيانات، أو الفتاوى، التي تعم الأمة في آثارها، لا يجوز أن يتفرد بها شخص، أو جماعة معينة، وإنما تعود إلى أهل الحل والعقد لهذه الأمة، فهم أولو الذين عبر عنهم الله تعالى بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (سورة النساء-59) وقد بين المفسرون أن أولى الأمر هم ولاة أمر المسلمين، الذين رضيتهم الأمة، والعلماء الربانيون الذين اختارتهم الأمة لإقامة الدين وحراسة الدنيا به.
فالواجبات السياسية المطلوبة، من السمع والطاعة ليست لشخص معين مهما بلغ - لم يكن للأمة دور في اختياره - ولذلك فإن إعلان الجهاد، أو تشكيل الدولة، إنما يكون ممن يمثل الأمة، ويرفع رايتها بالحق، وبذلك يصبح الإعلان من طرف جهة ما عن الأمور العامة التي تهم الأمة افتئاتاً على الأمة، وتعدياً على حقها، وإدخالاً لها فيما لم تقرره ولم ترض به.
ثانياً: إن من أصول هذه الشريعة الاعتماد على فقه المقاصد وفقه المآلات، وتحقيق المناط، والتنزيل الصحيح الدقيق للنصوص الشرعية على واقعها بعد فهم الواقع، وفقهه واستنباطه- كما عبر عن ذلك ابن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبى وغيرهم من المحققين-.
ومن المعلوم أن من مآلات هذه البيعة مخاطر داخلية وخارجية، وآثاراً خطيرة على الثورة، حيث أدت إلى تمزيق وحدة صف المجاهدين، الذين أمرهم الله تعالى بأن يكونوا جميعاً صفاً واحداً (كالبنيان المرصوص) لا صفوفاً فقال تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (الصف-4)، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حقيقة المؤمنين فى وقت الشدة (المسلمون يتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) رواه أبو داود، وحكم العلماء بصحته.
وبالإضافة إلى تمزيق الداخل، فإن الخارج سيتأثر كثيراً بهذه البيعة، وستترتب عليها آثار خطيرة، ومشاكل كبيرة للثورة، على مستوى العالم العربي والغربي، بالإضافة إلى أن ذلك سيقوي النظام، ويعطيه حجة أمام العالم، كما أن ذلك سيجعل جبهة النصرة هدفاً لجميع الدول الغربية والشرقية.
ورعاية هذا الجانب مطلوبة فى الإسلام، فقد روى البخارى ومسلم فى قصة المنافق (عبدالله بن أُبي) الذي قال كلمة الكفر بوقاحة: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وهناك عشرات من الأحاديث تدل بوضوح على أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى المآلات والنتائج والآثار المستقبلية، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية– أو قال بكفر- لأنفقت كنز الكعبة فى سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر) رواه مسلم والترمذي بسند صحيح أيضاً.
ولذلك كان المطلوب شرعاً من جبهة النصرة، التي أبلت بلاء حسناً في جهادها ضد النظام الظالم بدمشق، أن تبقى في دائرة الجيش الحرّ، حفاظاً على الوحدة التي أوصى بها الله تعالى، فقد قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [ آل عمران:103]، ودرءاً للفتنة والفرقة اللتين حرمهما الله تعالى، وجعلهما من الكبائر الموبقات.
ومن هنا فنحن باسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ندعو جبهة النصرة أن تعود إلى محيطها، وتعيش صفاً واحداً مع بقية المجاهدين، وتترك مصير الحكم والدولة في سوريا إلى ما بعد التحرير، ليختار الشعب الحكم الإسلامي، أو الحكم الذي يريده، بكامل حريته واختياره.
ثالثاً: يؤكد الاتحاد أن الثورة السورية المباركة إنما قامت حمايةً للمستضعفين، ودفاعًا عن الأرواح والحرمات، والأعراض والأموال، وإسقاطًا لنظام الإجرام والفجور؛ لذا لا يحق لجبهة ما إعلان تبعيتها لغير سوريا، وفرض البيعة على شعبها، دون استشارةٍ لأحدٍ من أهلها، فضلاً عن إشراك علمائها ومجاهديها، ودون حسابٍ لمآلات الكلام وعواقبه، فيعتبر هذا الأمر مستنكرا شرعًا، ومرفوضا عقلاً، وهو افتئاتٌ على أهل الشام جميعهم، ومصادرةُ لفكرهم ومصيرهم.
رابعاً: يدعو الاتحاد مكونات الفصائل المعارضة كلها إلى توحيد صفوفهم تحت راية واحدة، والابتعاد عن أي سلوك يتناقض مع خيارات الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يثير الفتن والتناحر بينهم، ويؤكد البعدِ عن أسباب التفرق والتنازع، قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
خامساً: يُذكر الاتحاد جميع الفصائل بأنَّ معركتهم الكبرى إنما هي ضد النظام المجرم، فينبغي أن توجَّه أسلحتهم إليه وحده دون سواه، وإلا انحرفت الثورة عن مسارها، وتَشتَّتت قواها.
سادساً: يؤكد الاتحاد بأن اتخاذ أي إجراءات لاستهدافِ الكتائبِ المجاهدة، أو زيادةِ التَّضييقِ والحصارِ على الشعب السوري في التَّزُّود بالسلاحِ، تحت ذريعةِ محاربةِ الإرهاب، لن يراه السوريون إلا إمعانًا في التآمرِ والتواطؤ، فلا إرهابَ فوقَ إرهابِ نظامِ الأسد المجرم.
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [ التوبة:105]
والله المستعان
الدوحة في: 12 جمادي الآخرة 1434هـ
الموافق: 22 ابريل 2013م
أ.د علي القره داغي أ.د يوسف القرضاوي
الأمين العام رئيس الاتحاد