المسلمون والعولمة

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله وكفى, وسلام على رسله الذين اصطفى, وعلى خاتمهم محمد المجتبى, وعلى آله وصحبه أئمة الهدى, ومن بهم اقتدى فاهتدى.

أما بعد...

فعصرنا هذا عصر المبتدعات والمخترعات, سواء في عالم المادة أم في عالم الفكر. ومن المبتدعات والمخترعات في عالم الفكر والثقافة: هذه المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي تمطرنا بها سماء الغرب ما بين الحين والحين، ويدع الناس يشتغلون بها, ويختصمون في شأنها, على نحو ما قال أبو الطيب المتنبي في شعره وموقف الناس منه ومن معانيه:

أنام ملء جفوني عن شواردها     ويسهر الخلق جراها ويختصم!

ولقد رأينا من ذلك مفاهيم ومصطلحات عدة شغلت المثقفين المهتمين في أنحاء العالم, مثل "الحداثة" و"ما بعد الحداثة".. "الإمبريالية" و"ما بعد الإمبريالية" و"العولمة" و"الموجة الثانية" و"الموجة الثالثة" في الاقتصاد، إلى آخر ما هنالك من مصطلحات أو كلمات لها قوة المصطلحات.

ومن ذلك ما راج منذ زمن من حديث عن "النظام العالمي الجديد" ولا سيما في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي استطاع أن يحشد قوات من نحو ثلاثين دولة لغزو دولة وتأديبها, وهي "العراق" التي ارتكبت جريمة لا مبرر لها, وهي العدوان على جارتها وشقيقتها ومعاونتها في حروبها (الكويت) .

وبعد أن كان الحديث عن "النظام العالمي الجديد" وأهدافه ووسائله, وسماته وخصائصه, إذا مصطلح جديد يقفز فجأة ليتصدر الصفحات الأولى في الصحف الكبرى, وفي أجهزة الإعلام العالمية, ألا وهو مصطلح "العولمة" الذي صكه من صكه, وترك الناس هنا وهناك يتجادلون ويتخاصمون في شأنه, ما بين مادح وقادح, وما بين مؤيد على طول الخط, ومعارض على الخط, وواقف في منتصف الطريق؛ شأن البشر في كل قضية فكرية جديدة, وخصوصًا إذا كانت من القضايا ذات الوزن الثقيل, التي تمس حياة الناس, السياسية والاقتصادية والثقافية وربما الدينية أيضًا.

وقد أُلفت كتب شتى في العولمة, وما يتصل بها مثل "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" وكثرت فيها المجادلات والمناقشات والمعارضات، كما أُلف في عالمنا العربي عددٌ من الكتب حول العولمة وآثارها, من وجهات نظر متباينة, تعبر عن فلسفات أصحابها واتجاهاتهم العقائدية والفكرية وتأثراتهم السياسية والدينية.

وكان لا بد أن تكون للإسلاميين رؤية في هذه القضية, يسهمون بها مع من أسهم, في إيضاح المواقف, وإزالة اللبس, وإزاحة الشبهات، وأرجو أن تكون هذه الصحائف التالية معبرة عن جهدي المتواضع, ورؤيتي الخاصة, في ضوء مسلماتي الدينية والفكرية, وفي حدود معرفتي بعالمي وعصري وأمتي.

تشتمل هذه الدراسة على مقدمة, وأربعة أبواب أساسية:

الباب الأول: يتحدث عن "العولمة" ما هي؟ وماذا تعني اليوم؟ وما الفرق بينها وبين "العالمية" التي يدعو إليها الإسلام من أول يوم؟

وقد بينت الدراسة أن العولمة في حقيقتها وأهدافها وطرائقها اليوم إنما هي "الاستعمار" بلون جديد, وباسم جديد، أو هي بعبارة صريحة: "أمركة العالم".

والباب الثاني: يتحدث عن أخطار العولمة في مجالاتها المختلفة على أمتنا العربية والإسلامية: عولمة السياسة, وعولمة الاقتصاد, وعولمة الثقافة, وعولمة الدين. ويضع هذا الباب النقاط على الحروف, كاشفًا النقاب عن أخطار العولمة القومية أو الوطنية, وهي: أن هذه "العولمات" كلها تصب في النهاية, في خدمة الصهيونية, ومساندة كيانها المغتصب المسمى "دولة إسرائيل"!

الباب الثالث: يتحدث عن العولمة والمستقبل, من خلال الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية, التي قام بها باحثون في أوروبا وفي أمريكا صانعة العولمة, وخصوصًا الباحثين الشهيرين: "فرنسيس فوكوياما", المفكر الياباني الأصل, وصاحب كتاب "نهاية التاريخ وتاريخ الإنسان" و"صمويل هانتنغتون" اليهودي الديانة, وصاحب  مقالة "صدام الحضارات".

والباب الرابع: يتحدث عن موقفنا من "العولمة" وبيان موقف الناس منها: فمنهم من يقبلها بعجرها وبجرها, ومنهم من يرفضها بخيرها  وشرها, ومنهم من يقف موقفًا وسطًا, يجتهد في الانتفاع بخير ما فيها, واجتناب شر ما فيها.

وهذا هو موقفنا, أو ينبغي أن يكون موقفنا, فالعولمة يبدو أنها قدر مفروض علينا, والهرب من ضغطها وحصارها غير ممكن؛ فلا بد لنا أن نقف منها موقف الانتقاء, وأن نتعاون على تجنب سلبياتها, بتطوير أنفسنا وإمكاناتنا, وتجنيد طاقاتنا, ومواجهتها مجتمعين لا منفردين, فيد الله مع الجماعة، وعلينا أن نستفيد من آليات العولمة وفرصها المتاحة في تبليغ العالم رسالتنا الإسلامية, التي حمّلنا الله أمانة الدعوة إليها, وبيانها للناس بلسانهم حتى يفهموا ويتثقفوا, وتقوم عليهم الحجة، وقد أشرنا بهذه المناسبة إلى موقعنا الإسلامي العالمي المتميز على الإنترنت, وهو إسلام أون لاين  Islam – on line وما يتميز به من سمات وخصائص.

ويجب على المسلمين في كل مكان أن تكون لهم -في عصر العولمة- مبادرات من هذا النوع يفرضون بها أنفسهم على العالم, بوصفهم حملة رسالة ربانية إنسانية, والبشرية كلها في حاجة إليهم، ولا ينبغي أن تتمثل مواقفنا في مجرد ردود أفعال. هذا موقفنا, وهذه رسالتنا, والله يقول الحق, وهو يهدي السبيل.

 

يوسف القرضاوي