رعاية البيئة في شريعة الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم محمد المجتبى، وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، ومن بهم اقتدى فاهتدى. أما بعد:
فقد أصبحت قضية البيئة، ومشكلات البيئة، وتلوث البيئة، واستزاف البيئة، واختلال التوازن في البيئة، بل التوازن في الكون.. أصبح هذا كله حديث المثقفين والمفكرين والعلماء في العالم كله، بل أصبح هذا همّ الجماهير الغفيرة من الناس؛ لأن فساد البيئة واستنزاف مواردها يهدد الجميع؛ حتى قال بعض الباحثين: لو كان للبيئة لسان ينطق، وصوت يسمع لصكت أسماعنا صرخات الغابات الاستوائية التي تُحرق عمدًا في الأمازون، وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في الخلجان والبحار، وحشرجة الهواء الذي يختنق بغازات الدفيئات والمصانع والرصاص في مدن العالم الكبرى.
لقد بات للبيئة "عِلْمٌ" خاص، يبحث في قضاياها، ويفصل موضوعاتها، ويعالج مشكلاتها، أُلِّفَ فيه عدد كبير من الكتب في أنحاء العالم، وبمختلف اللغات، ومنها في لغتنا العربية العزيزة؛ ولا عجب أن تنشأ للبيئة وحمايتها في كل الدول مؤسسات رسمية وشعبية، علمية وعملية، إلى جوار المؤسسات الإقليمية والمؤسسات الدولية، وأن تعقد الندوات العلمية، والحلقات الدراسية، والمؤتمرات العامة، لمواجهة هذه القضية الكبيرة بما تستحقه.
وبطبيعة الحال لا بد في هذا الموقف من بروز سؤال كبير يقول: ما موقف الدين بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة من قضايا البيئة؟
ولقد كتب عدد من الإخوة الفضلاء ممثلين لهذه الوجهة الإسلامية، ولا يسعنا إلا أن نشكر لهؤلاء الإخوة بحوثهم وجهودهم، ولكن لا يزال في المجال متسع لقول قائل، ولكل شيخ طريقة، ولكل مجتهد نصيب، وإنما لكل امرئ ما نوى.
هذا، وقد انتشرت كلمة "حماية البيئة" حتى غدت شبه مصطلح فيما ينبغي عمله نحو البيئة، ولكني آثرت عليها كلمة أراها أحق وأولى في هذا المقام من كلمة "الحماية" وهي كلمة "الرعاية" فكما تقول: "رعاية الطفولة" أو "رعاية الأمومة" أو "رعاية الأسرة"؛ تقول أيضًا: "رعاية البيئة"؛ ذلك أن كلمة "الحماية" تقتضي المحافظة على البيئة من جهة العدم أو السلب، بمعنى المحافظة عليها من كل ما يفسدها أو يضر بها ويلوثها، أما كلمة "الرعاية" فهي تقتضي المحافظة على البيئة من جهة الوجود، ومن جهة العدم جميعًا، وبعبارة أخرى: من جهة الإيجاب، ومن جهة السلب، فمن جهة الإيجاب أو الوجود: ينبغي العناية بالبيئة من جهة ما يرقى بها ويصلحها وينميها، ويصل بها إلى غايتها المرجوة، ومن جهة السلب أو العدم: ينبغي حمايتها من كل ما يعود عليها بالضرر والتلوث والفساد، وكل هذا يدخل تحت مفهوم العناية؛ ولهذا آثرت أن أسمي كتابي هذا: "رعاية البيئة في شريعة الإسلام".
ولقد طلب مني المنتدى العالمي للبيئة من منظور إسلامي، الذي انعقد في جدة في الفترة ما بين 26 و 29 رجب 1421هـ الموافق 24-27 /2000/10م وشاركت فيه عدة مؤسسات محلية وعربية وإسلامية وعالمية: أن أكتب بحثًا عن موقف الشريعة الإسلامية من قضايا البيئة، فتوكلت على الله، وشرعت في كتابة هذا البحث الذي أردته أن يكون قصيرًا، فطال مني، نظرًا لاتساع أطراف الموضوع، وحاجته إلى الإشباع، فكان هذا الكتاب الذي أرجو أن يسهم مع كتب أخرى في تجلية النظرة الإسلامية إلى البيئة وإصلاحها والمحافظة عليها: فقهًا وسلوكًا، أو فكرًا وتطبيقًا.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الفقير إليه تعالى
يوسف القرضاوي
الدوحة في: شعبان 1421هـ
نوفمبر2000م