الأقليات الدينية

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله وكفي، وسلام على رسله الذين اصطفي، وعلى خاتمهم المجتبى، محمد وآله وصحبه ومن بهم اقتدى فاهتدى.. أما بعد..

فقد جريت أمتنا الحلول المستوردة من الغرب والشرق، ومن اليمين واليسار، جربت الحل اليميني الرأسمالي الليبرالي، وجربت الحل اليساري الاشتراكي الثوري، ولكن كلا الحلين لم يحقق للأمة أهدافها البعيدة ولا القريبة، لم يغنها من فقر، ولم يطعمها من جوع، ولم يؤمنها من خوف، ولم يقوها من ضعف، ولم يوحدها من فرقة، ولم ينصرها على عدوها من الخارج، ولم يحل مشكلاتها في الداخل.

فلا غرو أن تنادت الأمة في الشمال والجنوب بحتمية الحل الإسلامي، وأمست تؤمن- عن بينة وبصيرة- أن هذا الحل فريضة وضرورة: فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، وغدا هذا الإيمان بفرضية الحل الإسلامي وضرورته من أهم ما يميز الصحوة الإسلامية المعاصرة، وأصبح شعار: «الإسلام هو الحل» شعارًا عامًا تنادى به جماعات وهيئات وأحزاب في عالمنا العربي والإسلامي.

بَيْدَ أن هناك بعض المشكلات أو الشبهات تثار في وجه الحل الإسلامي كلما دعا الداعون إليه، منها: مشكلة «الدين»، وكيف يستمد منه حل في عصر «العلم»، ومنها: مشكلة «الفنون»، ومشكلة «المرأة» وقد أجبنا عن هذه المشكلات في رسائل سابقة. ومنها، بل أهمها: مشكلة الأقليات الدينية الموجودة في عالمنا العربي والإسلامي، وأبرزها الأقلية المسيحية.

فهم يقولون: ماذا تفعلون مع هؤلاء المخالفين لكم في الدين؟ هل تجبرونهم على أمر يخالفون به دينهم؟ وتكرهونهم على تطبيق شريعتكم؟ وهل هم مواطنون أو أهل ذمة كما يحلو لكم أن تسموهم؟ وهل ستفرضون عليهم الجزية يعطونها لكم عن يد وهم صاغرون؟ أو تعتبرونهم مواطنين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم؟... إلى آخر تلك السلسلة من الأسئلة التي يظنها بعض الناس حرجة، وما هي بالحرجة لو عقل الناس وفقهوا.

في الصيف الماضي (1995)، وفي ندوة الأطباء في دار الحكمة بالقاهرة، دعيت لندوة حول «المشروع الحضاري» لأمتنا، وكان المفروض أن يشاركني فيها الأستاذ الدكتور: إسماعيل صبري عبد الله - الاقتصادي والسياسي المعروف - ولكنه اعتذر لظروف طارئة، واضطلعت بالعبء وحدي، محاضرة وإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي أعقبتها، وأهمها سؤال من الأخ القبطي المسيحي المصري الدكتور: جورج إسحاق، حول وضع المسيحيين في مصر، وفي غيرها من بلاد العرب في هذا المشروع، وأجبت - ولله الحمد- إجابة مفصلة مدعومة بالأدلة عن السؤال بما أرضي الدكتور جورج وسرَّه، حتى أنه قال لي بعد الندوة: ليتك تسعدنا في الكنيسة وتقول هذا الكلام للأقباط، فإن أكثرهم يتوجس خيفة من المشروع الحضاري الإسلامي، وقلت له: أنا لا أجد مانعًا من ذلك. وما أقوله مكتوب في كتبي.

وفي الانتخابات المصرية القريبة (نوفمبر 1995) سئلت عن ترشيح الأقباط وانتخابهم لمجلس الشعب، فأيدت ذلك بقوة، ما دامت فيهم الصفات المطلوبة لمثل هذا المنصب.

واقترح صديقنا الأستاذ أحمد الجمال- الصحفي المعروف- في عموده اليومي بجريدة «الشرق» القطرية: أن تصدر مثل هذه الأفكار في رسائل يستطيع أن يقرأها القارئ العادي، وقد استجبنا له بإصدار هذه السلسلة في ترشيد الصحوة، وهذه الرسالة عن: «الأقليات الدينية والحل الإسلامي» خاصة.

إن هذه الرسالة تناقش حق الأكثرية في حكم أنفسهم، وفق عقيدتهم وشريعة ربهم، وحق الأقلية في الحفاظ على هويتهم العقيدية والدينية، وتبين أولوية الحكم الإسلامي على الحكم العلماني عند المسيحي الملتزم، كما تبين عدل الإسلام وتسامحه مع أهل الكتاب عامة، والمسيحيين خاصة، والأقباط المصريين بصفة أخص..

وكذلك عرضت الرسالة آراء المسيحيين العقلاء، في حكم الشريعة الإسلامية، وترحيبهم به ... إلى غير ذلك من القضايا التي وضعت النقط فيها على الحروف، فعسي أن يكون فيها ما يزيل اللبس، ويمحو الشك باليقين، وينير السبيل للحائرين والمتوجسين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

د. يوسف القرضاوى