سؤال من إحدى الأخوات، تقول فيه: أود الاستفسار عن طريقة التفكير هذه التي أعرضها على فضيلتكم، هل هي صحيحة أم خاطئة؟ فإني أتمنى أن أكون أحسن الخلق وأقربهم إلى الله، وأحبهم إليه سبحانه بعد رسول الله، وأتمنى أن تكون لي أفضل خاتمة بين الناس أجمعين، وأن أموت بعد أن يغفر الله لي، وأن يرحمني ويرضى عني كل الرضا.
وسبب استفساري هذا أني ألاقي كثيرًا من الناس يعارضون طريقة تصرفاتي هذه، فهل من الخطأ -مثلًا- أني عندما أركب السيارة أضع حزام الأمان لأني أعتقد أنه لو حصل حادث -لا قدر الله- وأصابني فيه الموت، فسيسجل عليَّ إثمٌ، وفي يوم القيامة سوف أُسأل: لماذا فرطتِ في أمانة الروح التي وهبها الله لكِ؟ وقد توفرت لي سبل المحافظة على نفسي، ومعروف أننا سنحاسب على الصغيرة والكبيرة، فما قولكم في مثل هذا التصرف؟
جواب سماحة الشيخ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد
لا حرج على هذه الأخت أن تتمنى لنفسها أعلى الدرجات، وأن تحاول الرقي بنفسها من درجة إلى درجة، الإنسان حين يتقرب إلى الله؛ يرتفع من مستوى إلى مستوى أعلى منه، في جانب المنهيات: قد يترك الإنسان في أول الأمر الكبائر، ويقع في بعض الصغائر، يرتقي فيترك الكبائر والصغائر، ثم يرتقي أكثر فيترك الشبهات: "فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه"(1)، "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(2)، ثم يرتقي فيترك المكروهات، حتى المكروهات التنزيهية، ثم يرتقي حتى يترك بعض المباحات، هذه كلها درجات بعضها فوق بعض.
وكذلك في جانب المأمورات، قد يكتفي في أول الأمر بأداء الفرائض الرُّكْنية، ثم يرتقي فيؤدي غير الفرائض، يؤدي السنن المؤكدة، ثم يرتقي فيؤدي بعض المستحبات، كان يصلي أولًا الصلوات الخمس، ثم يترقَّى، فيصلي السنن المؤكدة، ثم يترقى فيقوم الليل، ثم صلاة الضحى.. وهكذا.
كان يصوم رمضان فقط، فترقى بعد ذلك فأصبح يصوم الأيام الستة من شهر شوال، ثم يصوم يوم عرفة، أو التسعة الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، ويصوم تاسوعاء وعاشوراء، قد يرتقي بعد ذلك فيصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، وقد يرتقي فيصوم أحب الصيام إلى الله صيام داود، الذي كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وهكذا، فالترقي مطلوب.
النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الطموح إلى المعالي
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة"(3). لا تسأل أقل درجة في الجنة، لا تقل: يا رب أدخلني الجنة، ولو في آخر فوج، لا، اسأل أعلى درجة في الجنة، أنت تسأل كريمًا، بل تسأل أكرم الأكرمين، فلماذا تسأله شيئا قليلًا؟ اسأله أعلى شيء عند الله، "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى"؛ لأن الجنة ليست درجة واحدة، ولا جنة واحدة، وإنما هي جنان ثمان، بعضها أعلى من بعض، وأعلى هذه الجنان الثمان الفردوس الأعلى، {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون: 10-11).
هكذا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم الطموح إلى المعالي، أن نتعلق بأعلى شيء، الإنسان ربنا آتاه موهبة الذكاء، لماذا ينجح بدرجة مقبول وهو قادر أن ينجح بدرجة جيد جدًا أو درجة امتياز، المفروض في الإنسان الطموح إلى المعالي، أن لا يرضى بالدون والحياة الهون، أن يريد الامتياز، أنا أريد أن أكون أول الدفعة، وهكذا، إذا كان هذا في شأن أمور الحياة الدنيا، فأمور الآخرة أيضًا أولى وأولى.
المفروض أن يحاول أن يرتقي من درجة أصحاب اليمين إلى درجة السابقين، سورة الواقعة ذكرت لنا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (الواقعة: 10-12). وتحتهم درجة أصحاب اليمين، الإنسان يسأل درجة المقربين، درجة السابقين.
فرق بين التمني والرجاء
فطموح الأخت هذه أن تكون أفضل شيء، وأن يُختم لها بأفضل خاتمة؛ هذا طموح محمود ومشكور، لا يلومها أحد على هذا، لكن المفروض أن الإنسان يطمح ويعمل على أن يحقق طموحاته، ليس أمانيَّ، كما يقول الشاعر:
أعلِّل بالمنى قلبي لعلِّي ** أُرَوِّح بالأماني الهمَّ عني
وأعلم أن وَصْلَك لا يُرَجَّى ** ولكن لا أُقِلّ من التمني
فالتمني مجرد أمانيَّ بدون عمل، أما التمني مع العمل فيسمى الرجاء، فالرجاء مطلوب من الإنسان، ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أسألك مرافقتك في الجنة؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود"(4).
فهذه الأخت مشكورة على طموحها أن تكون من أفضل الناس؛ ولذلك ترى أنها مسؤولة عن كل شيء، وأن الإنسان ينبغي أن يحافظ على نفسه وعلى حياته، فلا يلقي بيده إلى التهلكة، ولا يقتل نفسه، الله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)، {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29).
التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب
ولذلك هذه الأخت حينما تركب السيارة تضع حزام الأمان، وتقول: أنا أفعل هذا؛ لأني أرى أني مسؤولة أمام الله، لو حصل لي حادث ومت فالله سيسألني: لماذا فرطتِ ولم تأخذي الاحتياط، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71)؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ حذره، يلبس المِغْفر على رأسه في الحرب(5)، ويلبس الدرع، وظاهر بين دِرْعَيْن يوم أحد(6)؛ ليكون أقوى في الحماية، وكان يتخذ الحُرَّاس له، حتى نزل قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) (7)؛ كل هذا اتباع للأسباب التي شرعها الله عز وجل.
وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت رُقًى نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها؟ هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"هي من قدر الله؟"(8).
وسيدنا عمر لما استشار أصحابه وهو قادم إلى الشام، وكان الشام قد أصيب أهله بطاعون يسمى "طاعون عمواس"، فأراد أن يرجع بأصحابه ولا يدخل الشام؛ حتى لا يصابوا بالطاعون، فقال له سيدنا أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله(9).
هذا قدر الله، وهذا قدر الله؛ ولذلك قال الإمام ابن تيمية وابن القيم وقبلهما الشيخ عبد القادر الجيلاني: إن الفقيه يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر(10): يدفع قدر الله بقدر الله، يدفع قدر الجوع بقدر الغذاء، يدفع قدر العطش بقدر الماء، يدفع قدر الداء بقدر الدواء، وقدر الإصابة في السيارة بربط الحزام، هذا قدر يدفعه بقدر، فهذا من قدر الله، وهذا من قدر الله، فتصرف الأخت تصرف سليم، ويدل على فقه عميق للإسلام. وفقها الله إلى الحق، وأبعد عنها الشطط.
.....
(1) متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، عن النعمان بن بشير.
(2) رواه أحمد (1723)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح، والترمذي في صفة القيامة والرقائق (2518)، وقال: حديث صحيح، والنسائي في الأشربة (5711)، وصحح إسناده الحافظ في التغليق (3/211)، عن الحسن بن علي.
(3) رواه البخاري في الجهاد (2790)، عن أبي هريرة.
(4) رواه مسلم (489)، وأبو داود (1320)، كلاهما في الصلاة، عن ربيعة بن كعب.
(5) متفق عليه: رواه البخاري في جزاء الصيد (1846)، ومسلم في الحج (1357)، عن أنس.
(6) رواه أحمد (15722) وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو داود في الجهاد (2590)، والنسائي في الكبرى في السير (8529)، عن السائب بن يزيد.
(7) رواه الترمذي في تفسير القرآن (3046) وقال: حديث غريب، والحاكم في التفسير (2/313) وصححه، ووافقه الذهبي, وصححه الألباني في الصحيحة (2489)، عن عائشة.
(8) رواه أحمد (15472) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف على خطأ فيه، والترمذي (2065) وقال: حسن، وابن ماجه (3437)، كلاهما في الطب، وحسنه الألباني في تخريج مشكلة الفقر (11)، عن أبي خزامة.
(9) متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5729)، ومسلم في السلام (2219)، عن ابن عباس.
(10) انظر: الداء والدواء لابن القيم (ص 34).