بعد أن صلّيت الظهر والعصر جمع تقديم، وأظنُّ أني تغديت غداء خفيفًا، جيء بالسيارة التي ستقلّني إلى مدينة الملتقى «سطيف».
وما إن ركبت السيارة حتى جيء برفيق لي سيصحبني في الطريق الطويل الذي يستغرق أربع ساعات. قلت: الرفيق عون على تقريب الطريق، ولا سيما إذا كان متوافقًا مع صاحبه.
قالوا: إنه الدكتور رشيد بن عيسى، من تلاميذ مالك بن نبي، وأنت تعرفه، وهو يعرفك.
قلت لهم: نعم عرفته والتقيته أكثر من مرة في أمريكا.
وكان الذي حدثني عن رشيد بن عيسي قبل أن ألقاه صديقنا الحبيب الأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله ، الذي كان معنيًّا بالبحث عن كلِّ كفاية وكل شخصية تستطيع أن يكون لها دور في خدمة الإسلام، وخصوصًا الجانب الفكري والثقافي. وهو الذي عرَّفني بالأخوين الكريمين: الأستاذ طارق البشري حفظه الله، والأستاذ عادل حسين رحمه الله .
وحين لقيت رشيدًا في بعض مؤتمرات اتحاد الطلبة المسلمين في أمريكا: سررت به وبثقافته، وبعقله النقدي، وتفكيره الإيجابي.
ولكني فوجئت منه في هذه الرحلة بما لم يكن في الحسبان، ولم يخطر لي على بال. لقد كنت أعلم أن ابن عيسى كان مُعجبًا بالإمام الخميني وبثورته، وبما حقَّقه إخواننا في إيرن من منجزات ... وهذا ما لا ننكره عليه، بل هو ما نشاركه فيه. ولقد وقفنا مع الثورة الإسلامية وأيّدناها من أول يوم، بل كنا معها من قبل أن تنجح، لأننا مع كل حركة تقاوم الطغيان، وتنادي بالحرية، فكيف إذا كانت تنادي بالحرية مع الإسلام؟!!
هجوم رشيد بن عيسى على المذاهب السنّية ومعتقداتها:
وجدت رشيد بن عيسى لا يقف عند حدَّ الإعجاب بالثورة وإمامها ومنجزاتها، ولكنه تعدى ذلك إلى الإعجاب بالمذهب الشيعي، وليته وقف عند ذلك، بل شن هجومًا قاسيًا على المذاهب السنية ومعتقداتها وأئمتها. هذا ما سمعته بأذني، ولمسته بيدي في هذه الرحلة.
ولأبدأ القصة من أولها.
حين التقينا تصافحنا وتعانقنا، ورحَّب بي ورحَّبت به. وما أن انتهيت من أدعية السفر، واستعذنا بالله من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد، وسألنا الله أن يكتب لنا في سفرنا هذا البرَّ والتقوى ومن العمل ما يرضي: حتى بدأ الأخ ابن عيسى في تسويق فكره الجديد، أو الدعوة إلى مذهبه الجديد، وكأنما كان يحسبني صيدًا سهلًا، يقلي علي شباكه، فإذا أنا حبيس داخلها!
بدأ حديثه معي بقوله: أترى هذه «التعليقة» المعلقة أمام السائق؟ قلت: نعم أراها. قال: ما تعليقك عليها؟ قلت: إنها في اعتقاد العوام «تعويذة» تقيهم من «العين» عين الحاسدين، ويسمُّونها في مصر «خمسة وخميسة»، لأنها تشير إلى خمسة أصابع. وكأنهم يقولون هذه الأصابع الخمسة في عين الحسود!
قال: أما أنا فأرى أنها تشير إلى الخمسة «أصحاب الكساء»، وهم الرسول وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
قلت: ما أظن هذا خطر ببال الذين وضعوا هذه التعاويذ وأمثالها مما في السيارات، فمنهم من يعلق مسبحة، ومنهم من يعلق آية قرآنية، كآية الكرسي، ومنهم من يعلق بعض الأذكار، مثل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وهي الباقيات الصالحات.
قال: هؤلاء الخمسة هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} [الأحزاب: 33].
سياق آية {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ} :
قلت: هؤلاء الخمسة على عيني ورأسي، وإن حبهم من دلائل الإيمان، وبغضهم من دلائل النفاق، وإني أتقرَّب إلى الله بحبهم جميعًا ... ولكن الآية لم تنزل فيهم، ومن قرأ الآية وتدبَّرها في ضَوء سياقها وما لحقها: يستيقن أنها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل الآيات قبلها خطاب لنساء النبي: {يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا * وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا * يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا * وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} [الأحزاب: 30 - 33]، فهذا لا شك في أنه خطاب لنساء النبي، يؤكده بقية السياق، وهو قوله، تعالى: {وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}[الأحزاب: 34]. وقد كان عكرمة مولى ابن عباس يقول: من شاء باهلته: أنها في نساء النبي، وليس كما يقولون!
دعوى مخالفة عمر للنصوص:
قال - منتقلًا عن الموضوع إلى غيره - : إنك ذكرت في كتابك «فتاوى معاصرة»: أن عمر ابن الخطاب كان لا يعرف حكم التيمُّم، لولا أن عرَّفه بعض الصحابة بما ورد فيه من نصوص، والعجيب أنك قلت: إن هذا كان اجتهادًا منه أخطأ فيه، وهو مأجور على اجتهاده!
قلت: هو مأجور على اجتهاده أجر المجتهد إذا أخطأ، وهذه من روائع الإسلام: أن يثيب المجتهد المخطئ تشجيعًا للاجتهاد. ولكنه يعطيه نصف أجر المجتهد المصيب.
قال: ولكن هذا أمرَّ بَدَهيَ من أوَّليات الإسلام التي لا يجوز أن تُجهل، فكيف يُثاب من جهلها، ويأخذ أجرًا على جهله؟
قلت: لكي نكون منصفين في تقديرنا للأشخاص، وتقويمنا للوقائع: يجب أن نضعها في إطارها الزمني. ففي ذلك الوقت لم يكن الحكم بالوضوح البيِّن لنا اليوم.
قال: ليس هذا أول حكم خالف فيه عمر النصوص.
قلت: كان من الأوصاف التي مُدح بها عمر: أنه كان وقافًا عند كتاب الله. ولقد ردّت عليه امرأة - وهو على المنبر - بآية من كتاب الله، فلم يسعه إلا أن يقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وكل ما ادعوه على الفاروق رضي الله عنه، ومن دعاوى تجاوز النصوص: مردود عليها من العلماء الراسخين.
قال: مثل من؟
قلت: مثل العلامة الشيخ محمد المدني الذي نشر جملة مقالات قيمة في «مجلة الأزهر» تحت عنوان «نظرات في فقه عمر» فنَّد فيها كل هذه المزاعم الباطلة. وكم أتمنى أن تنشر في كتاب يجمعها(1).
موقف أهل السنة من الصحابة:
قال: أنتم - أهل السنة - تقدِّسون الصحابة، وإن كانت أخطاؤهم مكشوفة للعيان.
قلت: نحن أهل السنة لا نقدِّس الصحابة، ولا ندّعي عصمتهم، ولكنا نحبهم ونُجلّهم ونكرِّمهم، لأن الله في كتابه كرَّمهم وعظَّم منزلتهم في سورة التوبة، وفي أواخر سورة الأنفال، وفي أواسط سورة الفتح، وفي آخرها، وفي سورة الحشر، وفي غيرها ... ويكفي قوله تعالى: {وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحۡسَٰنٖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ} [التوبة: 100]، وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗا} [الأنفال: 74]، وقوله سبحانه: {لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وقوله عز وجل: {مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا} [الفتح: 29]. وقوله تعالى: {لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰ} [الحديد: 10]. بالإضافة إلى قوله سبحانه: {ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡ} [الأحزاب: 6].
الثناء على الصحابة في الأحاديث النبوية:
أضف إلى هذه الآيات القرآنية: ما صحَّ في الثناء عليهم، والتنويه بفضلهم، من الأحاديث الشريفة النبوية، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»(2)، وقد استفاض هذا عن عدد من الصحابة.
والحديث المتفق عليه: «لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»(3).
ثم جاء في أحاديث صحاح تنوِّه بفضل جماعة منهم، مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر العشرة المبشرين بالجنة، ومنهم طلحة والزبير، وآخرون مثل: ابن مسعود وابن عباس وأبي ذر وعمار وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد، وغيرهم.
أدلة عقلية على فضل الصحابة:
ولو لم تجئ النصوص بفضلهم لقضى العقلُ بذلك، فهم الذين حَمَلوا راية الإسلام من أول يوم، وتحمَّلوا الأذى في سبيله، وبذلوا من أجله الأنفس والأموال، وأخرجوا من ديارهم من أجله، ونصروا الله ورسوله، ودافعوا عنه بكل ما يملكون.
وهم الذين نقلوا إلينا القرآن الكريم، فعنهم تلقَّينا هذا القرآن، نقله عنهم أصحابهم من التابعين، وعنهم نقله الأتباع، حتى وصل إلينا عن طريق التواتر اليقيني جيلًا بعد جيل.
وهم الذين رووا لنا الأحاديث النبوية، والسنة المحمدية: القولية والفعلية والتقريرية.
وهم الذين فتحوا الفتوح، ونشروا الإسلام في آفاق العالم، ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام.
ثم هم تلاميذ المدرسة المحمَّدية، الذين تربوا على مائدتها، واقتبسوا مباشرة من نورها، فهم أقرب الناس إلى رسول الله، وألصقهم به، وأكثرهم فهما لما جاء به، وعملًا بأحكامه وتعاليمه، فمن طعن في هؤلاء التلاميذ الصادقين، فكأنما طعن في أستاذهم ومعلمهم.
وهكذا استطردت في الكلام عن الصحابة، لما أعرفه من حقد كثير من الشيعة عليهم، وأنهم يتعبَّدون لله بسبّهم، وقد بدا ذلك من رشيد بن عيسى، من أول الحديث، لم يستطع أن يكتمه. ونحن مع حبنا للصحابة: نحب آل البيت معهم ونكرمهم ونعظمهم؛ ونرى أن هذا فرع محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن كثيرًا منهم صحابة أيضًا.
نشأة المذاهب الفقهية:
قال ابن عيسى في نقلة أخرى لحديثه: كيف أنشأ أهل السنة مذاهب أربعة أئمتها من العرب والعجم، ولكن لا يوجد فيهم واحد من أئمة أهل البيت، أو ليس هذا غريبًا؟
قلت: لا غرابة في ذلك، إذا عرفت كيف نشأت هذه المذاهب، إن أهل السنة لم يجتمعوا في مؤتمر حاشد، ليقولوا: نريد أن ننشئ عددًا من المذاهب: مذهب فلان، ومذهب علان.
الواقع أن أئمة المذاهب لم يريدوا أن يؤسِّسوا مدارس أو مذاهب فقهية يقلدها الناس، ويتّخذونها منهاجًا لحياتهم. إنما كانوا يُدْلون بآرائهم واجتهادهم، ويعلِّمونها تلاميذهم، ولا يدَّعون أنها الحق وحدها ... فمنهم من وجد أصحابًا وتلاميذ أقوياء نشروا مذهبه، ووسعوا آفاقه، ومنهم من لم يرزق بذلك فبقى من الكتب، كما قال الشافعي عن الليث ابن سعد: الليث أفقه من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا به! ومنهم من انتشر مذهبه فترة ثم انقرض، مثل: الأوزاعي، والثوري، والطبري، وغيرهم.
وفي ذلك الوقت ظهر من أئمة أهل البيت: الباقر والصادق وزيد بن علي زين العابدين، وغيرهم، فاتبعهم أناس وقلّدوهم، كما اتبع آخرون مالكًا وأبا حنيفة والشافعي وأحمد.
وتناولنا أمورًا أخرى لم أعد أذكرها ... ثم قال الأخ ابن عيسى:
لقد كنت أنتظر لقاءك هذا منذ سنوات، ولكنك صدمتني وخيبت أملي!
قلت: ماذا كان أملك فيَّ: أن أنتقل من التسنُّن إلى التشيُّع، كما فعلت أنت، أو أوافقك على انتقاص الصحابة، وتكوين صورة مظلمة عنهم تخالف القرآن والسنة والتاريخ ومنطق العقل؟!
الحقيقة: أنني أنا الذي فوجئت بموقفك، فقد كنت أعلم أنك معجب بثورة الخميني، وهذا من حقك، أن تنتقل من الإعجاب بالثورة إلى التزام المذهب، فهو الذي يحتاج إلى تساؤل.
التزامي المنهج السنّي عن بيْنة:
أما أنا فقد آمنت بالإسلام عن بيّنة، والتزمت المنهج السنّي عن اقتناع ... وأنا لست متعصِّبًا لمدرة واحدة، أو لمذهب واحد في العقيدة أو في الفقه، فآخذ من الأشاعرة، وآخذ من الماتريدية، وآخذ من السلفية، بل لا مانع أن آخذ من المعتزلة: ما أكوِّن به تصوّرًا صحيحًا عن أصول الإيمان. كما لا أتعصب لمذهب من مذاهب السنة في الفقه، بل أوزان بينها، وأتخيَّر منها وأدع، وأرجِّح ما أراه أقوى دليلًا، وأهدى سبيلًا، وأقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق.
أخذ هذا النقاش أكثر من ساعة من ساعات الطريق الأربع، التي نحتاج إليها، لنصل إلى سطيف، ثم صمت رفيقي، وصمت، طوال الطريق، فلم نكد نتكلم، حتى وصلنا إلى مقصدنا بحمد الله.
كانت هذه السفرة الطويلة الثقيلة، بساعاتها الأربع، وبرفقتها المشاكسة، ومناقشاتها المثيرة: إضافة إلى متاعب الرحلة الغريبة التي كانت مليئة بالمفاجآت، وبرغم هذا كله، وصلنا إلى مدينة سطيف، حيث ينعقد الملتقى، وأنشدنا قول الشاعر:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر!
ولكنّا هنا لم نقرّ عينًا بالإياب، بل قررْنا عينًا بالوصول ...
إلى ملتقى الفكر في سطيف:
وعند وصولنا إلى «سطيف» ذهبنا إلى الفندق الذي نقيم فيه، وحططنا رحالنا وتركنا حقائبنا في حُجراتنا، ثم انطلقنا إلى الملتقى، الذي كان يمارس نشاطه في جلسته المسائية، وقبل أن أصل إلى القاعة، حتى هرول إليّ الوزير الأستاذ «بو علام باقي»، وهو من قيادات ثورة التحرير. وكان رجلًا فاضلًا حكيمًا. ومعه كبار المسئولين في وزارة الشئون الدينية، وقالوا: كنا في قلق شديد على عدم وصولك في الموعد المحدّد، والأدهى من ذلك أننا لم نعلم عنك أي شيء، فقد انقطعت الأخبار بيننا وبينك.
قلت لهم: لقد حدثت أشياء كثيرة أخّرتني عن موعدي، والحمد لله أني وصلت بعد جهد شديد ومعاناة.
إعلان الفرحة بوصولي:
وعندما دخلت القاعة: اشرأبت الأعناق، ورنت الأبصار، وتجاوبت القاعة بهتاف التكبير والتحميد. وفي الاستراحة أقبل الطلاب والطالبات في شوق ولهفة، وكلهم يتساءلون: ماذا جرى؟ ويعلنون فرحتهم بوصولي ومشاركتي. وشكرت الجميع على هذه العواطف الصادقة، وعلى حُسن ظنهم بي، وما أنا إلا جندي من جنود الإسلام، جنَّده الله للدعوة إلى هذا الدين، وشرح حقائقه، وبيان عقائده وشرائعه، والذود عن حياضه وحرماته. فالحمد لله حمدًا كثيرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
الإسلام والعلوم الإنسانية:
كان موضوع الملتقى هذه المرة، هو: «الإسلام والعلوم الإنسانية». وهو موضوع له اعتباره وأهميته في التكوين الفكري والثقافي للأمة، لأن العلوم الإنسانية والاجتماعية هي التي تصنع الأفكار والميول والأذواق والاتجاهات العقلية والنفسية والسلوكية، التي تختلف فيها الأمم، ويتمايز بعضها عن بعض.
إن العلوم الكونية المادية: عالمية بطبيعتها، فهي لكل الأمم، ولكل الأديان والثقافات، لا وطن لها، ولا دين خاص بها، بخلاف العلوم الإنسانية والاجتماعية، فهي التي تلوّن ثقافة الأمم، وتميّز فكر بعضها عن بعض.
فإذا كانت العلوم الطبيعية والرياضية، لها أثرها في عالم المادة، وهي التي غيّرت الحياة من حولنا، وقرّبت البعيد، وأنطقت الحديد، وجعلت العالم قرية واحدة، فإنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية هي التي تغيّر الإنسان، أو تحاول أن تغيّره، لأن تغيير الجبال والصخور أسهل من تغيير الإنسان: تغيير عقيدته وفكره واتجاهه.
ولقد ألف أحد أقطاب العلم الغربي من الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم - وهو الأستاذ ألكسس كاريل - كتابًا سماه: «الإنسان ذلك المجهول» بيّن فيه: أن الإنسان عرف الكثير من أحوال المادة وخصائصها، من الذرّة إلى المجرَّة، واستطاع أن يوظفها في تيسير ظروفه، وتحقيق أهدافه. ولكنه للأسف يجهل الكثير عن أحوال نفسه. وهذا هو سر المشكلة أو المأساة التي يعيشها الناس اليوم: أنهم لا يعرفون حقيقة أنفسهم.
لذا كان من المهم: أن يعقد هذا الملتقى لبيان الموقف الإسلامي من العلوم الإنسانية والاجتماعية: علم النفس، وعلم التربية، والفلسفة، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وعلم التاريخ، وعلم الاقتصاد، وعلوم اللسانيات، وغيرها.
ولا سيما أن هذه العلوم قد وصلت إلينا، كما عرفها الغرب وأصّلها وعرضها، فهي غربية المنبع والجذور والفكر والأسلوب.
ونحن فيها، عالة على الغرب، وجميع المثقفين وأساتذة الجامعات: تلاميذ تابعون للمدرسة الغربية، يحتكمون إلى فلسفتها، ويؤمنون بقيمها، ويدافعون عن توجهاتها، ولا يرون في الوجود بديلًا عنها إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
إن هذه العلوم تدرس في جامعات البلاد العربية والإسلامية بصفة عامة، كما جاءت من الغرب، دون نقدها، ولا تعقيب عليها، إلا ما كان من الغربيين أنفسهم، حين ينقد بعضهم بعضًا. وإلا ما ندر من بعض علمائنا العرب والمسلمين، وقليل ما هم.
وما زلنا ننتظر من الأجيال الجديدة من العلماء: أن يغوصوا ويتعمَّقوا في هذه العلوم، وألا يقفوا منها موقف التسليم المطلق، بل موقف الفاحص الناقد المتخيّر، في ضوء الواقع المشهود، وفي ضوء تطور العلم والمعرفة، وفي ضوء تراثنا وتراث البشرية، ليستخرج منها ما هو أقوم قيلًا، وأهدى سبيلًا، وأثبت في ميزان الحق. لا نريد أن ننفي ما وصلت إليه البشرية من نتائج ومعارف في هذا المجال، فهذا ما لا يتصور، ولكننا نريد أن ندرسه دراسة الناقد المتأمل، لا دراسة المقلد المتلقّي. نأخذ منه وندع، وَفق قراءتنا ومعاييرنا.
وبهذا نظهر المدارس الإسلامية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية: المدرسة الإسلامية في علم النفس، والمدرسة الإسلامية في علم الاجتماع، والمدرسة الإسلامية في علم التربية، وهكذا، وأنا أوثر هذا المصطلح، على مصطلح «علم النفس الإسلامي»، و «علم الإجتماع الإسلامي» إلى آخره.
وبعض هذه العلوم خُدِم من الناحية الإسلامية خدمة كبيرة مثل «علم الاقتصاد» الذي قدمت فيه أطروحات إسلامية «ماجستير ودكتوراه» بالعشرات وربما بالمئات، وأنشئت له أقسام بالجامعات، ومراكز أبحاث، ومجلات متخصصة ... إلخ على حين لم تتح لعلوم أخرى مثل علم الاجتماع مثل هذه الخدمة والعناية.
..............
(1) وقد نشرت في دار القلم بالكويت.
(2) متفق عليه: رواه البخاري في الشهادات (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة (2535) عن عمران عن حصين.
(3) متفق عليه: رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي (3673)، ومسلم في فضائل الصحابة (2541) عن أبي سعيد الخدري.