في منتصف عقد السبعينات من القرن العشرين: كانت الصحوة الإسلامية قد بدأت تبزغ شمسها في أفق مصر؛ وكان ذلك نتيجة لجو الحرية الذي أحسه الناس، وطفقوا يستنشقون نسائمه، بعد الجو الخانق الذي كانوا يعيشون في دخانه أيام عبد الناصر.
ودائمًا تنتعش الدعوة الإسلامية وتزدهر في مناخ الحرية. وتذبل -وقد تموت- في جو الفاشيّة والاستبداد. وكان أول ظهور الصحوة بين الشباب، فهم أقرب استجابة من غيرهم للدعوات الدينية والإصلاحية، وهم أقدر على حمل أعبائها بما حباهم الله من قوة وحيوية. وأول ما يظهر هذا في الشباب الذي استنار بنور العلم، وأمسى لديه قدر من الوعي بنفسه وبأمته وبرسالته. وهو الشباب الجامعي بخاصة.
ولذا وجدنا رجلًا مثل الإمام حسن البنا يوجه رسالة خاصة «إلى الشباب» يقول في مطلعها: «إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوافر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها. وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل، من خصائص الشباب؛ لأن أساس الإيمان: القلب الذكي، وأساس الإخلاص: الفؤاد النقي، وأساس الحماسة: الشعور القوي، وأساس العمل: العزم الفتي. وهذه كلها لا تكون إلا للشباب! {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف:13).
كما وجدنا الإمام أبا الأعلى المودودي وجه نفس العناية إلى الشباب، فألقى محاضرة عنوانها: «واجب الشباب اليوم»، وأخرى بعنوان: «تحديات العصر الجديد والشباب»، ألقاها على جمعية الطلبة المسلمين، التي ترعاها الجماعة الإسلامية، وثالثة بعنوان: «دور الطلبة المسلمين» في بناء مستقبل العالم الإسلامي.
ولا غرو أن تجلت الصحوة أول ما تجلت في شباب الجامعات المصرية، بدءًا بجامعة القاهرة أولى جامعات مصر المدنية وكبراها، فظهر ما عرف باسم: «الجماعات الإسلامية»، وقد اقتبسوا هذا الاسم من «الجماعة الإسلامية» في باكستان والهند، التي أسسها المفكر والداعية الكبير أبو الأعلى المودودي. فأخذوا منهم اسم الجماعة واسم رئيسها، وهو «الأمير» لم يسمّوه الرئيس أو المدير أو المرشد أو الأمين، مما يدل على تأثرهم بجماعة باكستان.
واستفادت هذه الجماعات من أساليب الجماعات قبلها، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة أنصار السنة، والجمعية الشرعية، ولا سيما الإخوان، من إلقاء الدروس والمحاضرات، وعقد الندوات، وعمل المعسكرات في إجازة الصيف وغيرها.
وكان التشدد والتطرف هو الغالب على هذه الجماعات أول ما نشأت، حتى إني لأذكر أن أحدهم سألني في معسكر أقامه طلاب جامعة عين شمس قائلًا: أليست مصر دار حرب؟ لأنها لا تنفذ شريعة الله، وتبيح شرب الخمر، والتعامل بالربا، ونشر الخلاعة في وسائل إعلامها، ولا تطبق أحكام الحدود؟ ... إلخ ما قال. حين سمعت هذا السؤال: ثار ثائري، وقلت له: يا أخي! أتدري معنى كلامك هذا وما يلزمه؟ إن معناه: أن مصر ليست لنا نحن العلماء والدعاة إلى الإسلام، بل هي بلد النصارى والشيوعيين واللادينيين وأمثالهم، ونحن فيها غرباء!
ومن لوازم هذا الكلام: أن دولة الكيان الصهيوني -إسرائيل- لو اعتدت على مصر، لا ندافع عنها، بل نتركها لليهود، ليحتلوا أرضها، ويهتكوا عرضها، ويغنموا مالها، ويسْبوا نساءها؛ لأن المسلم لا يطالب بالدفاع إلا عن أرض الإسلام، فإذا خرجت مصر عن أرض الإسلام ودار الإسلام، فمقتضى هذا: أن ندعها لليهود وغيرهم؛ لأننا لم نعد مسئولين عن الذود عنها. وهذا كلام في غاية الخطورة، لا يوافق عليه مسلم ولا عاقل.
وما زال هذا الشباب الذي يتوقد حماسة، ويغلي صدره من الغيظ على المنكرات التي انتشرت، والفساد الذي استشرى، يتصل بالعلماء والدعاة المعتدلين، من أمثال: الشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق، والفقير إليه تعالى... يلقاهم الشباب في جلسات خاصة في بيوتهم، ويزورهم العلماء في جامعاتهم في محاضرات، وفي دروس ومناقشات في معسكراتهم الصيفية...
وما زالوا هكذا حتى هدأت ثائرتهم، وخفت حدتهم، وأخذوا يستمعون لصوت الحكمة والتعقل، ويناقشون الأمور بهدوء وتبصرة، حتى تغير موقفهم، ونجوا -أو قل: نجا أكثرهم- من آفة الغلو، وانتقلوا من خط التشديد إلى التيسير، ومن الغلو إلى الاعتدال، ومن الشطط إلى الوسط. والحمد لله.
وقد كنت أرى لزامًا عليَّ: أن أقترب من هؤلاء الشباب ما استطعت، وأن أستجيب لهم إذا دعوني، لمحاضرة في الجامعة، أو لزيارتهم في مخيّماتهم التي يقيمونها في الصيف، أو لجلسات خاصة أجيب فيها عن أسئلتهم، وأرد فيها على شبهاتهم، وأصحح فيها المفاهيم التي التبست عليهم، بل كثيرًا ما كنت أستقبلهم في منزلي، ليفضوا إليَّ بما عندهم، فهم يحبون أن يفهموا، وأن يستوثقوا؛ ولهذا يستفسرون عن أمور كثيرة، ولا يسلمون بما يقال لهم بسهولة، بل يناقشون ويجادلون، ولكنهم -والحق يقال- ليسوا مكابرين، ولا ممارين بالباطل. بل يذعنون للحق إذا تبين لهم، ويركضون وراء الدليل، ولا يحيدون عنه، وهذا ما يُحمد لهم. ومثلي يرحب بهذه النوعية من الشباب، ويفرح بها فرح من فقد ضالته ثم وجدها.
كان هؤلاء الشباب صُوَّامًا قُوَّامًا قراء للقرآن والحديث، مستغفرين بالأسحار، متحمسين لقضايا الإسلام: عقيدة وشريعة، دعوة ودولة، حضارة وأمة. وقد كنت أرى فيهم مستقبل مصر. وكثيرًا ما قلت: إن أعظم ما في مصر، وأغلى ما في مصر، ليس ذهبها الأبيض: القطن، ولا الأسود: النفط، ولا الأهرام ولا أبا الهول، ولكنه هذا الشباب المؤمن المستقيم المستعد للبذل في سبيل الله. إنهم ثروة مصر الأولى، وغدها المشرق.
صلاة العيد في ميدان عابدين:
وكان من سُنن الخير التي أحياها هؤلاء الشباب: صلاة العيد في الميادين الكبرى، كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن يصلي العيد في المسجد إلا لعذر كالمطر. وإنما كان يصليه في الخلاء، ليتسع المكان لأكبر عدد ممكن من الناس، فيجتمع في مصلى العيد: الرجال والنساء والصبيان في صورة «مهرجان إسلامي» فريد، لا يهتفون فيه باسم مخلوق، بل باسم الله وحده: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد. وكان المسلمون في مصر قد هجروا سنة الصلاة في الخلاء، إلا ما كانت تقوم به الجمعية الشرعية وأنصار السنة، في نطاق محدود.
فلما ظهر شباب الصحوة الإسلامية: أرادوا أن يحيوا هذه السنة التي أماتها الناس، وأن يظهروها بقوة تليق بقوة الصحوة، وقوة شبابها، وتليق بمكانة مصر بلد الأزهر، والكعبة الثقافية للإسلام، فاقترحوا أن يجعلوها في الميادين الكبرى في القاهرة، واختاروا «ميدان عابدين» الشهير في وسط القاهرة، ليصلوا فيه.
وقد بدأوا في أول الأمر بأعداد محدودة، ظلت تتكاثر عيدًا بعد عيد، حتى أصبح الذين يتجمعون فيها بعشرات الألوف، فكانوا ينتقون لها الخطباء المعروفين أمثال شيخنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
وكان أول تجمع جماهيري فاق ما قبله من تجمعات: في عابدين سنة (1397هـ، 1977م)، وقد سبقته دعاية واسعة، وفكر الشباب في خطيب يجتمع الناس عليه، ويهرعون إلى استماعه، فكان اسم الفقير إليه تعالى هو الذي اختاروه، واستدعوني من قطر، لأشاركهم في احتفالهم الكبير، وأخاطب هذه الجماهير.
ولم أخيب رجاءهم، فنزلت من قطر لأجل ذلك، وأذكر أن أول خطبة لي كانت في عيد الأضحى، وكان الرئيس السادات في ذلك الوقت في زيارته الأولى لإسرائيل، التي فاجأ بها العالم، واتفقت مع الإخوة ألا نتعرّض لموضوع السياسة، وألا نتكلم في القضايا الأساسية للأمة، حتى لا نمكن رجال الأمن من أن يجدوا فرصة لمنعنا، ونحن نريد أن نثبّت هذه السُّنة: الصلاة في ميدان عابدين كل عيد.
ومر الأمر بسلام بحمد لله وتوفيقه. وكنت أجد بعض المصورين يصورون الصلاة والخطبة، ولا ندري من هؤلاء، فهم ليسوا مصريين؛ لأن الإعلام المصري لا يتحدث عنا ببنت شفة، كما يقولون. بل يتجاهلنا تمامًا.
وهكذا ظللت أحضر في كل عيد -أو في أحد العيدين- من قطر لأخطب العيد، وأؤم المصلين. وبعد سنة كان السادات في عيد الأضحى في منتجع كامب ديفيد في أمريكا، ليعقد اتفاقية السلام. واستدعيت من قطر لإلقاء الخطبة، ومضينا على سياستنا: ألا نهاجم ذلك؛ لأن أي هجوم سيثير الجماهير، ويشعل النار، فلا نملك إطفاءها. وظللنا هكذا حتى كان آخر عيد أقمناه في عابدين، وكان الحضور مكثفًا لم أر مثله من قبل.
كان هناك احتشاد هائل، سد كل الشوارع الموصلة إلى عابدين من جميع النواحي، حتى إني كنت في كل مرة أصل بالسيارة إلى قرب المنصة... أما هذه المرة، فقد تركت السيارة بعيدًا بعيدًا، ومشيت على قدمي طويلًا أتخطى الناس في طريقي، وأشق الزحام، حتى وصلت إلى المنصة.
أقل ما يقال في هذا العدد: نصف مليون! وفي خطبة من الخطب علق الرئيس السادات على هذا التجمع الإيماني الحاشد، فقال: يقولون: إنه ربع مليون، وأنا أقول: إنه مائة ألف فقط. ومن أين له ذلك، وهو لم ير ولم يشهد؟!
زيارة السادات لإسرائيل وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد:
كان فرح المصريين بانتصار العاشر من رمضان «السادس من أكتوبر» عظيمًا، وكان كل مصري مزهوًّا بهذا النصر، وكان الإسلاميون والمتدينون بصفة عامة أكثر فرحًا من غيرهم؛ لاعتقادهم أنه تم بنفحات إيمانية، ومعونات ربانية!
ومن الحق أن نذكر أن العرب جميعًا -بل المسلمين عامة- شاركوا مصر فرحتها، وشاركوا المصريين احتفالهم بهذا النصر المبين، فانتصار مصر إنما هو في الواقع وفي النهاية: انتصار لأمة العرب والإسلام. ولكن للأسف لم تطل هذه الفرحة الغامرة، التي وحدت مشاعر العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل حدث ما كدر صفاء هذه الفرحة، بل أحالها إلى غم وحزن، وحول وحدة الشعور، ووحدة الموقف إلى خلاف وفرقة، مزقت الأمة شر ممزق.
كان ذلك عندما أعلن الرئيس السادات في خطاب له: استعداده لأن يذهب إلى إسرائيل، وأن يلقى رئيس وزرائها في ذلك الوقت «مناحم بيجن»، وأنه مستعد لتوقيع سلام مع إسرائيل. والتقطت إسرائيل الخيط، ورحبت بزيارة السادات، وكأن الأمر كان معروفًا من قبل! وسرعان ما رتبت الأمور، وهيئت الأسباب، وفتحت الأبواب، لزيارة السادات.
وفوجئ الشعب العربي، وفوجئت الأمة الإسلامية كلها بزيارة أول رئيس عربي لإسرائيل، وخطابه في الكنيست -وصلاة عيد الأضحى في المسجد الأقصى- والدخول في درب المفاوضات، التي انتهت بعد سنة بتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» في أمريكا بين مصر وإسرائيل.
كانت هذه أول معاهدة تعقد بين إسرائيل وبلد عربي، فكيف وقد عقدت مع أكبر بلد عربي؟ وأهم بلد عربي؟! لقد كسبت مصر بهذه المعركة استعادة سيناء، وكسبت معونة أمريكية تقدر بنحو ملياري دولار. ولكن إسرائيل كسبت ما هو أكبر وأخطر: كسبت «تحييد مصر» وإخراج أكبر قوة عسكرية عربية، وأكبر قوة بشرية وعلمية من المعركة. فلم تعد مصر شريكة في القضية الفلسطينية، وفي معركة التحرير المفروضة على العرب جميعًا، بل أصبحت وسيطًا بين الفلسطينيين وإسرائيل! كما أنها أشاعت روح الاستسلام في المنطقة، وبداية الاتفاقات بين إسرائيل وبلاد عربية أخرى -مثل: الأردن- ما كانت لتجرؤ عليها، لولا أن مهدت مصر لها الطريق، وفتحت الباب المسدود!
كما أن إسرائيل بهذه الاتفاقية: اخترقت جدار الأمن القومي العربي، واستطاعت أن تنفذ إلى البلاد العربية، فأصبحت لها بعد ذلك سفارات في مصر وفي الأردن، وفي موريتانيا، وأصبحت لها مكاتب في بعض البلاد مثل: قطر. وكان كل هذا من كبائر المحرمات قبل ذلك. بل شجعت هذه الاتفاقية كثيرًا من البلاد الإفريقية وبلاد عدم الانحياز -التي كانت مقاطعة لإسرائيل- على تغيير موقفها، حتى إن الكثير منها سعى في إعادة العلاقات مع إسرائيل، وعادت بالفعل.
كما تسببت هذه الاتفاقية في شق العالم العربي وتمزيقه إلى من يؤيد السلام مع الصهاينة، ومن لا يؤيده بحال، إلى من يسمى الاستسلام حكمة، والمقاومة حماقة!
وكان ذلك بداية انقسام عربي، وتصدع في الجدار العربي لم يلتئم حتى اليوم. وكذلك انقسم الناس داخل مصر نفسها، فالمؤمنون بالإقليمية يقولون: إن مصر حققت نصرًا بلا حرب، وحررت سيناء بلا دماء، وتفرغت للبناء الداخلي، بعد أن خاضت أربع حروب من أجل فلسطين.
والعروبيون والإسلاميون يقولون: إن مصر فقدت دورها القيادي في الوطن العربي، وأمست في موضع التهمة، بعد أن كانت في موضع الريادة، وفتحت الباب لأمريكا للتدخل في توجيه المنطقة العربية سرًّا وعلانية، وأدت إلى كل ما جرى بعد ذلك من هزائم ونكبات من فلسطين إلى العراق.
وقد لاحظت هذا الانقسام المؤلم بنفسي، وساءني أن أجده في شتى المجالس والأندية والاتجاهات، ولا أملك أمامه إلا الحوقلة والاسترجاع!