د. يوسف القرضاوي
مما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه اقتناء الكلاب في البيوت لغير حاجة. وقد رأينا بعض هؤلاء المترفين، ينفقون على الكلاب، ويبخلون على بني الإنسان، ورأينا منهم من لا يكتفي بإنفاق ماله على تدليل كلبه، بل يفرغ عاطفته فيه، على حين يجفو قريبه، وينسى جاره وأخاه.
كما أن في وجود الكلاب ببيت المسلم مظنة لنجاسة الأواني ونحوها مما يلغ فيه الكلب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب"، وقال بعض العلماء في حكمة المنع من اقتناء الكلب: إنه ينبح الضيف، ويروع السائل، ويؤذي المارة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت، إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج". وهذا المنع إنما هو للكلاب التي تقتنى لغير حاجة ولا منفعة.
كلاب الصيد والحراسة مباحة
أما الكلاب التي تقتنى لحاجة ككلاب الصيد، أو كلاب الحراسة للزرع أو الماشية أو نحوها، فهي مستثناة من هذا الحكم. وفي الحديث المتفق عليه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبا، إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية، انتقص من أجره كل يوم قيراط".
وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث على أن المنع من اتخاذ الكلاب إنما هو منع كراهة لا منع تحريم، لأن الحرام يمتنع اتخاذه على كل حال، سواء نقص الأجر أم لا، والنهي عن اقتناء الكلاب في البيوت ليس معناه القسوة عليها أو الحكم بإعدامها؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها"، وهو عليه السلام يشير بهذا الحديث إلى هذا المعنى الكبير، والحقيقة الجليلة التي نبه عليها القرآن الكريم إذ قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} (الأنعام:38)
وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه قصة الرجل الذي وجد في الصحراء كلبا يلهث يأكل الثرى من العطش، فذهب إلى البئر ونزع خفه فملأها ماء حتى روي الكلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فشكر الله له، فغفر له".
رأي العلم الحديث في اقتناء الكلاب
هذا، وربما وجدنا في ديارنا أناسا من عشاق الغرب يزعمون لأنفسهم الرقة الحانية والإنسانية العالية، والعطف على كل كائن حي، وينكرون على الإسلام أن يحذر من هذا الحيوان الوديع الأليف الأمين، فإلى هؤلاء نسوق هذا المقال العلمي القيم، الذي كتبه عالم ألماني متخصص في مجلة ألمانية بين فيه بجلاء الأخطار التي تنشأ عن اقتناء الكلاب أو الاقتراب منها:
"إن ازدياد شغف الناس باقتناء الكلاب في السنوات الأخيرة يضطرنا إلى لفت نظر الرأي العام إلى الأخطار التي تنجم عن ذلك، خصوصا أن الحال لم تقتصر على مجرد اقتنائها، بل قد تعدت ذلك إلى مداعبتها وتقبيلها والسماح لها بلحس أيدي الصغار والكبار بل كثيرا ما تترك تلعق فضلات الطعام من الصحون المعدة لحفظ مأكل الإنسان ومشربه.
ومع أن في كل ما ذكر من العادات عيوبا ينبو عنها الذوق السليم ولا ترتضيها الآداب، هذا فضلا عن أنها لا تتفق مع قواعد الصحة والنظافة، إلا أننا نغض النظر عنها من هذه الوجهة لخروجها عن مجرى الحديث في هذا المقال العلمي، تاركين تقديرها للتربية الخلقية وتهذيب النفس.
أما من الوجهة الطبية -وهي التي تهمنا في هذا البحث- الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب اقتناء الكلاب ومداعبتها ليست مما يستهان بها، فإن كثيرا من الناس قد دفع ثمنا غاليا لطيشه، إذ كانت الدودة الشريطية بالكلاب سببا في الأدواء المزمنة المستعصية، بل كثيرا ما أودت بحياة المصابين بأمراضها.
وهذه الدودة هي عبارة عن إحدى الطفيليات الشريطية الشكل، وتسمى دودة الكلب الشريطية، وتظهر في الإنسان على شكل بثرة، وكذلك في المواشي خصوصا في الخنازير، ولكنها لا توجد تامة النمو إلا في الكلاب، وكذلك في بنات آوى والذئاب، ويندر وجودها في القطط. وتختلف عن الديدان الشريطية الأخرى بأنها صغيرة الحجم جدا حتى أنها تكاد لا ترى، ولم يعرف شيء عن حياتها إلا في السنوات الأخيرة.." إلى أن قال:
"ولأطوار نشوء دودة الكلب الشريطية خواص فريدة في علم الحيوان فمن البويضة الواحدة تنشأ رؤوس ديدان شريطية عديدة بالقرحات الناتجة عنها، كما أنه يمكن أن ينتج عن البويضات المتشابهة بثرات مختلفة اختلافا تاما، هذا إلى أن رؤوس الديدان المتولدة من القروح تتحول إلى ديدان شريطية كاملة التكوين بالغة النمو بمصران الكلاب، ولا ينشأ عنها بالإنسان والحيوان سوى بثرات وقروح جديدة تختلف اختلافا كليا عن الدودة الشريطية، ولا تتعدى القرحة في الماشية حجم التفاحة إلا فيما ندر، ومع ذلك يلاحظ أن وزن الكبد يزداد ازدياد بالغا قد يصل من خمسة إلى عشرة أضعاف وزنه العادي، وأما في الإنسان فإنها تصل إلى حجم قبضة اليد أو رأس الطفل الصغير وتمتلئ سائلا أصفر وتزن من 10 إلى 20 رطلا.
وأغلب ما توجد في الإنسان في الكبد، وتظهر فيه بأشكال عديدة متباينة، إلا أنها كثيرا ما تنتقل إلى الرئة والعضلات والطحال والكلى وإلى تجويف الجمجمة، ويتغير شكلها وتكوينها تغيرا كبيرا، حتى إنه كثيرا ما اختلط تمييزها على المختصين إلى عهد قريب.
وعلى كل حال فإن هذه القرحة أينما وجدت خطر أكيد على صحة المصاب بها وحياته، ومما يزيد الطين بلة أن توصلنا إلى معرفة أطوار تاريخ حياتها، وطرق نشأتها وتكوينها، لم يساعدنا حتى الآن على الاهتداء إلى طرق علاجها، إلا أنه في بعض الأحيان قد تموت هذه الطفيليات من تلقاء نفسها، وقد يكون السبب في ذلك هو أن مواد يفرزها الجسم تعمل على إبادة هذه الطفيليات.
وقد ثبت أخيرا أن جسم الإنسان يفرز في مثل هذه الأحوال مواد مضادة بفعل هذه الطفيليات لإبادتها وإبطال عمل سمومها، ولكن مما يدعو للأسف الشديد أن الحالات التي تموت فيها هذه الطفيليات دون أن تترك أثرا أو تحدث أضرارا نادرة بالنسبة للحالات الأخرى، وهذا فضلا عن أن محاربتها بالطرق الكيميائية لم تأت بأية فائدة، وطالما لا يلتجئ المصاب إلى أسلحة الجراحين لا ينقذه من الوبال أي طريق من طرق العلاج الأخرى.
وهذه الأسباب مجتمعة تضطرنا لاتخاذ جميع الوسائل المستطاعة لمكافحة هذا المرض العضال ووقاية الإنسان من أخطاره الفجائية، وقد ثبت للأستاذ الدكتور (نوللر) من تشريح الجثث بألمانيا أن الإصابات الآدمية بقروح دودة الكلب لاتقل عن (1) في المائة بكثير، وأما أكثر البلدان الأجنبية تلوثا بهذه الدودة فهي المناطق الشمالية بالأراضي الواطئة ودالماسيا وبلاد القرم وأسلندة وجنوب شرق أستراليا وفي إقليم فريزلذ بهولندة حيث تستخدم الكلاب في الجر ظهرت الإصابة بالدودة الشريطية فيما لا يقل عن (12) في المائة من الكلاب..
كما وجد في إسلندة أن بين كل (43) في المائة من الأهالي شخصا مصابا بقروحها، فإذا ما أضفنا الخسارة التي تصيب غذاء الإنسان بوجود هذه الدودة الشريطية، فإنه ما من أحد يتردد في أن إبادتها من ألزم الواجبات، وقاية للصحة العامة، وحرصا على غذاء الشعب، خصوصا أن النواحي التي سلمت حتى الآن مهددة من حين لآخر بأن يسري إليها الوباء.
وقد يكون من أنجع الطرق في مكافحتها هو أن نجتهد في حصر هذه الدودة في الكلاب وحبسها عن الانتشار، وذلك لعدم استطاعتنا في الواقع منع اقتناء الكلاب بتاتاً، ولا ينبغي إغفال معالجة الكلاب التي يثبت إصابتها المعالجة اللازمة في مثل هذه الأحوال بطرد الدودة الكامنة بمصرانها، ويستحسن تكرار هذه العملية من حين لآخر لكلاب الرعاة وكلاب الحراسة.
ويمكن للإنسان وقاية لصحته وحرصا على حياته أن يراعي بدقة زائدة الابتعاد الكلي عن مداعبة الكلاب، فلا يسمح لها بالاقتراب منه، كما ينبغي تربية الأطفال على الاحتراس من الاختلاط بالكلاب، فلا تترك تلعق أيديهم، ولا يسمح لها بالإقامة بأماكن نزهة الأطفال ولهوهم؛ فإنه مما يدعو للأسف الشديد أن نرى عددا كبيرا من الكلاب خصوصا في ميادين رياضة الأطفال.
هذا إلى برازها المبعثر في كل أركانها؛ كما ينبغي إعداد أوان خاصة لإطعام الكلاب، فلا تترك تلعق في الصحون التي يستعملها الإنسان، ولا يسمح لها بدخول متاجر المأكولات والأسواق العمومية أو المطاعم.. إلى آخره، وعلى العموم يجب أخذ الحيطة التامة بإبعادها عن كل ما له مساس بمأكل الإنسان أو مشربه إهـ".
وبعد: فقد رأيت كيف نهى محمد صلى الله عليه وسلم عن مخالطة الكلاب، وحذر من ولوغها في أواني الطعام والشراب، وحذر من اقتنائها لغير ضرورة؟ كيف اتفقت تعاليم محمد العربي الأمي وأحدث ما وصل إليه العلم المعاصر والطب الحديث؟.. إننا لا يسعنا إلا أن نقول ما قاله القرآن: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4،3) .
.....
-المصدر: "الحلال والحرام في الإسلام" لفضيلة العلامة.