قراءات في قضايا التجديد والترشيد في فكر العلامة يوسف القرضاوي

اختتمت فعاليات مؤتمر "قراءات في قضايا التجديد والترشيد في فكر العلامة يوسف القرضاوي" الذي نظمته كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر (خلال الفترة من 15 – 19 أكتوبر 2023م).

وبدأ المؤتمر بحفل افتتاح وتدشين موسوعة الأعمال الكاملة للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي، وتضمن البيان الختامي للمؤتمر الدعوة إلى دعم إنشاء موسوعة الإمام القرضاوي الإلكترونية ومتابعتها، بحيث تتيح لطلبة العلم والمسلمين عامة الوصول إلى ما جمعته موسوعته المطبوعة، مع المزايا التقنية من تصنيف وترتيب وبحثٍ متقدم ونسخ وغير ذلك. وإنشاء موسوعة القرضاوي المرئية والمسموعة، بحيث تجمعُ أرشيفه الضخم من الخطب والدروس والبرامج الإذاعية والمتلفزة، والعمل على تفريغها وتحريرها وإتاحتها بصورتها الأصلية والمفرغة.

      كما تضمن البيان الختامي :

  • إنشاء فريق يقوم على إخراج موسوعة الحديث النبوي الشريف وفق رؤية الإمام القرضاوي ومقترحاته التفصيلية المتعلقة بها.
  • وضع خطة إعلامية تقوم على تقنيات المرئي والمسموع والتواصل بجميع أشكاله قصد إظهار حقيقة الإسلام الوسطي القائم على التسامح والتعاطف مع الموافق والمخالف.
  • تكوين فرق بحثية متخصصة لدراسة الثروة العلمية الهائلة للشيخ: دعويًا، وفقهيًا، وسياسيًا، واجتماعيًا واقتصاديًا، ولتصنيفِها وترتيبها وتبويبها بحسب طبيعتها وموضوعاتها والحاجة إليها.
  • الدعوة لأن يكون هذا المؤتمر باكورة جهودٍ لإحياء فكر الشيخ القرضاوي ومدارسته، في ندوات ومؤتمرات وورش علمية متخصصة ودورية، بنظرة فاحصة تحليلية ثاقبة في تراث الشيخ وفق وحدة موضوعية ونقدية، بوصفه نتاج عقل بشري يستحق التقدير دون تبخيس ولا تقديس.
  • إحداث منتديات فكرية تعيد قراءة تجربة العلامة القرضاوي في المجال الحضاري والتربوي والتجديد والحوار والفلسفة الأخلاقية والتكامل المعرفي وفقه الشريعة بمجالاتها المتعددة، وتعزيز ذلك بإنشاء مجلة تعنى بمساره الإصلاحي سيرًا على تقاليد المدراس الفكرية العالمية، التي تسعى لتخليد ذكرى علمائها وعظمائها وروادها بنشر أفكارهم وتوظيف عطاءاتهم.

كما دعا المؤتمر في بيانه الختامي لأن يرتبط مفهوم "التجديد" في الأدبيات الشرعية والدراسات الإسلامية بالأصل ويتصل بالعصر، ويعمق المعنى ويطور المبنى، ويزاوج بين تراث السلف ومعارف الخلف، والانفتاح على الفكر الإنساني الواسع ويتصف بالجهد الجماعي والتصور الإحيائي والأداء المؤسسي، ولا يقتصر بالضرورة على المجدد الفرد المنشود، بما يحقق مقاصد الشرع وغايته الكريمة.

والعمل من أجل النهوض بالواقع الراهن من خلال استحضار ومعايشة مفهوم "الأمة"، وإثبات حقيقتها وخلودها وعدم انقطاعها، وعدّها مفهومًا عابرًا للقارات والحدود وغير متعارض مع مفهوم المواطنة للدولة الحديثة القطرية.

والسعي للكشف عن أنماط جديدة من الفقه المنشود المتحرك المتنامي لإخراجه من السكون وعدم ملاحقة أسئلة الواقع ومستجدات الزمان إلى رحابة حياة راقية سامقة كريمة تقنع ضمير الفرد المسلم والمجتمع المسلم بانضوائه وانسجامه وتوافقه مع التشريع الرباني الناقل له من إكراهات النفس والهوى إلى العيش لله بنسكه ومحياه ومماته.

ودعا المؤتمر لتوظيف واستثمار النصوص الفكرية للعلامة القرضاوي على اختلاف مجالات اهتمامها بما تملك من قوة انسيابية وترتبط بالقواعد الكلية التي استخلصها من تجربته الطويلة في العمل العلمي والدعوي، ونقحتها التصدعات التي أصابت البُنية الفكرية لحركة النهوض العربي والإسلامي، وبما أنها تشكل مفاهيم وقيمًا، ومحدداتٍ منهجية موَجِّهة لعملية التفكير وآفاق تطوير الفكر الإسلامي المعاصر الذي شهد تصدعًا في عالم الفكر، وفسادًا في المقدمات غير المجربة التي راهنت عليها النخبة الفكرية والثقافية والقيادية والعلمية حينًا من الدهر.

كما دعا لإعادة التفكير في مشروع الشيخ القرضاوي وفق السياقات المعاصرة، وبتقويم ما يقبل الاستمرار والتعديل، وما يقبل التجاوز، وبالانتقال من التشكيل الكاذب والمزيف للهويات، إلى التشكيل الحقيقي لها، بما أن كتاباته تكوِّن أنموذجًا معرفيًا جديدًا في تجاوز عجز المعرفة التقليدية وتعثرها في قراءة سياقاتنا المعاصرة، وتحريرها من أسر المقولات الحَدِّيَة، وبما أنها تعكس غنىً من حيث النظر إلى ظاهرة العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتأسيس لأنثروبولوجيا العلاقة بين الأنا والآخر، وفق الرؤية القرآنية التوحيدية، التي تعزز عوامل التعاون الإنساني، وتحرره من إكراهات وانحيازات.

والاستفادة من عمق المنهج والموضوع المنبثقين من النماذج الإرشادية المنفتحة التي أسس لها الشيخ وتأكدت ضرورتها، حيث انطلقت من تجاوز الرؤى الإصلاحية، التي عجزت عن استيعاب المنطق التكاملي بين الحقيقة الموضوعية في الوحي، وبين الحقيقة النسبية والواقع، وأثرت في إحداث المراجعات التي شهدتها الصحوة الاسلامية، وبعض أقطاب الساحة الإسلامية، من أجل تقريب المسافة وإيجاد مساحات للتعاون بين المختلفين والمتصارعين والتخفيف من التوترات التي أضعفت المنطقة وأثرت في مصداقية المسلم وبعده عن الهوى وشهوة النفوذ واحتكار السلطة والحق والحقيقة.

وأكد المؤتمر ضرورة الاهتمام بالجانب الأدبي واللغوي للشّيخ القرضاويّ لما تمتع به من ملكة لغويّة فذّة أهّلته لأن يخوض غمار البحث والنظّر في بعض قضايا العربيّة المعاصرة، كالفصحى والمنحى الدلالي للخطاب، والعاميّة والقوميّة والعربيّة والدّين واللغة والإعلام وأخطاء المثقفين في استعمالات اللغة وما يصدر من المتكلّم تجاه المخاطب وغيرها، واستطاع الشيخ أنّ يشخّص عللها وأسبابها، ويطرح حلولاً ناجعة لمعالجة إشكالاتها.

والاستفادة القصوى من الدرس العقدي لدى الشيخ القرضاوي لوجود ملامح تجديدية مهمة عنده، ومن المفيد استجلاؤها وإبرازها في منابر التعليم والدعوة، ومن تلك الملامح التجديد في مدلول العقيدة حيث شمل كلّ ما يُطلب الإيمان به من حقائق تتعلّق بالغيب أو تتعلّق بما هو قطعي من الأحكام العملية، من أجل تجاوز الاقتصار على الإيمان بالغيبيات.

والتجديد كذلك في توسيع دائرة المفردات العقدية لتشمل مسائل لم تكن معهودة في الدرس العقدي الموروث مثل قضية الإنسان مأتاه وقيمته ومهمّته في الحياة ومصيره.

والتجديد أيضًا في منهجية البيان العقدي في اتّجاه الاستدلال على العقيدة استدلالًا بيانيًا قائمًا على الدليل النقلي واستدلالًا عقليًا قائمًا على الدليل المنطقي والدليل النفعي، من أجل الإقناع بها ومن أجل تعميقها في النفوس ببيان منافعها في الحياة وبعد الممات. وأخيرًا التجديد في كيفية التحمّل الإيماني للعقيدة بحيث يكون تحمّلا يفضي إلى تكيّف النفس بحقائق العقيدة لتصبح لها حالًا بدل أن تبقى على مستوى التصديق بأنّها حقّ.

وتضمنت توصيات المؤتمر :

  • الاستفادة من نظريات الشيخ القرضاوي في تفسير القرآن الكريم وعلومه وفي السنة النبوية والتعامل معها وأنه صاحب نظرية معرفية في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية، ولنظريته دعائم ومعالم أبدع الشيخ القرضاوي فيها بإبرازها بعد أن كانت مطمورة أو متفرقة ضمن مباحث أصول الفقه وقواعد التفسير، كما أبدع في حسن صياغته لها، وتوسعه في شرحها وتأصيلها، وإكثاره من الأمثلة التطبيقية عليها، حتى أضحت منهجًا جديدًا قائمًا بذاته وفرض نفسه على الدارس الشرعي كي يقتفي أثره ويسهم في إثرائه، هذا فضلًا عن قدرته على توظيف القواعد الأصولية والمقاصدية التي بناها الشاطبي، وحولها إلى منهج حي وفاعل ومواكب لمستجدات الحياة، وما يقذف به الواقع من إشكالات.
  • من إبداعات الشيخ في مجال المالية الإسلامية والاقتصاد الإسلامي، إبداعه في مجال المقاصد المالية، تنظيرًا، وتطبيقًا، وإسهامه في تجديد فقه الأموال تأصيلًا وتنزيلًا، وتخليقًا، وتقصيدًا، وتقعيدًا، وجمعه بين التأصيل الفقهي، وروح العصر، والتيسير ورفع الحرج، وكان للشيخ توجيهات قيمة للمصرفية الإسلامية، وصرح بضرورة إخراجها من دائرة المرابحات وتمويل الاستهلاك، إلى النهوض بالتنمية الشاملة، والمشاركة الحقيقية في الغنم والغرم، والدخول في اقتصاد حقيقي لا صوري، وذلك من أجل دفع مخاطر وأزمات تعصف بالمعاملات المالية وتؤثر سلبًا على استقرار المبادلات التجارية.
  • تبني فقه جديدٍ متخصص بالأقليات المسلمة، بالرغم من التقائه مع أصول الفقه ومرتكزاته العامة، وذلك لخصوصيته التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وبسبب اختلاف الزمان والمكان والعوائد عن سائر المسلمين المقيمين في بلادهم الأصلية اليوم وعن المسلمين السابقين الذين أفتى لهم العلماء وملأت اجتهاداتهم كتب التراث الفقهي. وهو الفقه الخاص الذي طالب به القرضاوي، حيث يراعي واقع الأقليات وخصوصياتهم، في إطار الفقه العام ومرجعياته، وعالمية التشريع وسماحته وترسيخ فقه الموازنة وفقه الأولويات في النظر للمصالح والمفاسد، والتوفيق بين الحفاظ على هويتهم الإسلامية واندماجهم في شؤون مجتمعاتهم من غير عزلةٍ ولا ذوبان، ومراعاة سنة التدرج، والاعتراف بالضرورات والحاجيات.
  • تبني النظر المقاصدي الذي اعتمده الشيخ بوصفه أنجع الوسائل في معالجة المسائل الخاصة بالمرأة والأسرة، باعتبارها أهم المحاور التي استغرقت اهتمام المفكرين والمصلحين في العصر الحاضر، والتي استطاع الشيخ وضعها ضمن الوضع الطبيعي المقصود شرعًا، وتحريرها من فتاوى التعجيز والتحرر من الضوابط، إلى فتاوى الاستقامة، والرقي، والوسطية.
  • تفعيل مقولات الشيخ عن ضرورة ترتيب البيت الداخلي للمسلمين في حوارهم مع بعضهم البعض، وفي حوارهم مع غيرهم، بالبدء بانتهاج المصارحة والمكاشفة وفق السندات القرآنية والشواهد النبوية والاستنارة بالمدعمات التاريخية. واجتناب التفكير والعمل بمنطق التكفير أو بمناهج الغلاة والمتشددين.
  • التوصية للقائمين على إدارة الجامعة أو الكلية بإطلاق اسم الشيخ القرضاوي على بعض الوحدات الإدارية أو القاعات الدراسية، أو قاعات الندوات والمؤتمرات بالكلية أو الجامعة تخليدًا لذكرى الشيخ واعترافًا بفضله وبوصفه العميد الأول والمؤسس لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر.
  • التوصية لإدارة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر بالاحتفاء والتعريف أيضًا بالثلة المباركة الذين درّسوا في هذه الكلية المحروسة وصورهم معلقة على مداخل الكلية، وتركوا آثارًا علمية وتربوية في النفوس وفي المجتمع على مستوى الأمة بل العالم في أحايين، من خلال عقد وتنظيم ندوات ومؤتمرات وورش عمل حولهم ومن خلال الأنشطة الصفية واللاصفية في المقررات الدراسية وغيرها من قنوات التعريف وبيان الفضل والأثر.
  • وأخيرًا، نوصي بالثبات في السير على خُطى الشيخ القرضاوي رحمه الله الذي كانت القضية الفلسطينية هي قضيته المركزية كما هو حال جميع علماء الأمة العاملين، ولم يشغله ذلك عن البحث والتأليف ونشر العلم وتجديد الفقه وترشيد الدعوة، فتمامُ الأعمال وإتقانُها مؤذنٌ بقوة هذه الأمة وتقدمِها، ولن تنتصر الأمة في قضاياها وهي ضعيفة مهزوزة علميًا، وإنَّ كل جهد يقوم به الواحد منا في أي بقعة من الأرض يسهم في تقوية هذه الأمة ورفعة شأنها هو مساهمة في نصرة قضايا الأمة كافة وعلى رأسها قضية فلسطين.

وفي الختام رفع المشاركون في المؤتمر أخلص آيات الشكر والتقدير إلى سمو أمير البلاد المفدى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله ، لما يبذله من جهد، ويقدمه من دعم لأهل العلم والعلماء ولقضايا الأمة، كما تقدم المشاركون بجزيل الشكر والعرفان إلى رئيس جامعة قطر الدكتور عمر بن محمد الأنصاري لدعمه واهتمامه المستمر بالكلية، وإلى اللجنة المنظمة للمؤتمر وجميع من ساهم في إنجاح هذا الحدث العلمي، و لضيوف المؤتمر الكرام الذين أثروا المؤتمر ببحوثهم ومداخلاتهم، ودعا المشاركون الله أن يهيأ للأمة أمر رشد، وأن يحفظ قطر قيادة وشعبًا وأن ينصر أمتنا وشعبنا المظلوم في فلسطين المحتلة وغزة العزة، ونرى مسجد الأقصى محررًا .